باب الاجتهاد مفتوح إلى يوم القيامة

رجوع إلى قسم قواعد وأصول

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
المحتويات
  1. مقدِّمة
  2. أسباب إغلاق باب الاجتهاد مجملة
  3. السبب الأول؛ الجهل بدرجات الاجتهاد
  4. السبب الثاني؛ الغلو في النهي عن الإحداث
  5. السبب الثالث؛ تقديم الإجماع المتوهم على النصوص
  6. السبب الرابع؛ الورع الناقص والكاذب
  7. منع إحداث الأقوال مطلقاً خلاف منهج السلف
  8. أمثلة لما أحدثه بعض العلماء في التفسير
  9. شبهات حول إحداث الأقوال.
  10. مثال بتقديم إجماع على نص صريح
  11. مثال بمسألة لم يستقر فيها الخلاف 
  12. أمثلة لإحداث ما لا يرفع ما اتفق عليه السلف
  13. من آثار إغلاق باب الاجتهاد
  14. خاتمة
مقدِّمة
الاجتهاد اصطلاحاً هو استفراغ الوُسع لاستنباط حُكم شرعي واستخراج أصول فهمه وقواعده وعلله من الأدلة التفصيلية.
فالاجتهاد فيه استقلال برأي، وقد يكون الحُكم الاجتهادي حادثاً لم يُسبق إليهِ المجتهد، فلا يدخل في الاجتهاد مجرد الترجيح من غير استنباط أو استخراج.
وقد تقدَّم أنَّ اتباع العالم هو قبول قوله بعد معرفة مأخذه.
وتقدم أن التقليد هو قبول قول من ليس قوله حجة من غير معرفة مأخذه، ومن ليس قوله حجة يُقصَد به غير النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما يدل على جواز الاستنباط من النص حديث بني قريظة، وفيه أنَّ ابن عمر رضي الله عنهما قال: (قالَ النبيُّ ﷺ يَومَ الأحْزابِ: لا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصْرَ إلّا في بَنِي قُرَيْظَةَ فأدْرَكَ بَعْضُهُمُ العَصْرَ في الطَّرِيقِ، فَقالَ بَعْضُهُمْ: لا نُصَلِّي حتّى نَأْتِيَها، وقالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرِدْ مِنّا ذلكَ، فَذُكِرَ ذلكَ للنبيِّ ﷺ فَلَمْ يُعَنِّفْ واحِدًا منهمْ) [1].
قال ابن حجر رحمه الله تعالى في تعليقه على هذا الحديث: (قال السهيلي وغيره: في هذا الحديث من الفقه أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث أو آية، ولا على من استنبط من النص معنى يخصصه) [2].
وقد أقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم اجتهادهم في حديث بني قريظة وفي غير ذلك من الأحكام التي اجتهدوا فيها، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (قد اجتهد الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحكام ولم يعنفهم، كما أمرهم يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بني قريظة، فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق، وقال: لم يرد منا التأخير، وإنما أراد سرعة النهوض، فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون وأخروها إلى بني قريظة فصلوها ليلاً) [3].
يظنُّ البعضُ أنَّ الاجتهاد كل لا يتجزأ أو أنه بجميع مسائله درجة واحدة، مما أدَّى إلى الحد من الاجتهاد وحصره بجميع درجاته في فئة محدودة العدد، بل الواقع يشير إلى أنَّ بعض من ينتسب إلى منهج السلف يظنُّ أن باب الاجتهاد مغلق تماماً إلا في الحوادث والنوازل، فلهذا السبب عزمتُ على كتابة هذا المقال، لأبيِّن فيه أهم ما يمنع الباحثين المؤهلين من الاجتهاد
فأسرد أولاً الأسباب مجملة، ثم أفصِّل قليلاً في شرحها وذِكْر بعض أقوال العلماء فيها، ثم أذكر أمثلة لها، وقد قيل بالمثال يتضح المقال، ثم أذكر بعض الشبهات حول حدود الاجتهاد وهي حول مسألة إحداث قول في تفسير آية أو شرح حديث أو استنباط حِكمة أو حُكْم بشروط استحداث حُكم أو قول في مسألة والتي سيرد ذكرها إن شاء الله تعالى، ويدخل في الاجتهاد كذلك تصحيح الأحاديث وتضعيفها، وقد أحيا هذا النوع من الاجتهاد الإمام الألباني رحمه الله تعالى.
فباب الاجتهاد مفتوح إلى يوم القيامة وقصره على النوازل والحوادث لا دليل عليه، ولكن يُشترط أن يكون من يجتهد أهلاً للاجتهاد وأن يُفرِغ وسعه للوصول إلى الحق في المسألة.
وغَلْقُ باب الاجتهاد يؤدي إلى التقليد المذموم الذي يؤدي إلى التعصب وتقديس أقوال الرجال، ومن آثار غلق باب الاجتهاد عزوف الناس عن أهل العلم والباحثين المستمسكين بمنهج السلف وتعلقهم بالمفكرين.
والمُفكِّر رغم كثرة خطئه إلا أنَّ اجتهاده يوصِله إلى بعض الحق الذي لن يصل إليه من أغلق باب الاجتهاد، وهذا مما يُغرُّ العوام بالمفكِّرين، وقد تقدم في مقال "التقليد" في قسم "قواعد وأصول" أنَّ العامي المقلِّد إذا اجتهد فإنه قد يصل إلى الفتوى الصحيحة مع أنه لا يجوز له الاجتهاد.
واستقلال غير المختصين بفكرة أو اختراع موجود في كل المجالات، فقد يصل غير المتخصِّص إلى اكتشاف دواء أو تشخيص مرض، ولكن لا يعتمد الدواء من غير إجازة من الصيادلة ولا يعتمد تشخيص المرض من غير إجازة من الأطباء أو البُصراء، ومن اكتشف دواءاً أو شخَّص مرضاً بأحسن من الأطباء لا يمكنه أن يعمل كطبيب أو بصير أو صيدلي من غير إجازة، وهذا أمر معلوم، ولكن في أحكام الشريعة وللأسف تصدَّر للإفتاء والفِكْر والاجتهاد من ليس أهلاً لذلك وتبعهم بعض الناس في ضلالاتهم وانحرافاتهم.
أسباب إغلاق باب الاجتهاد مجملة
أهم الأسباب التي أدت إلى إغلاق كثير من الناس باب الاجتهاد في نظري والله تعالى أعلم تعود إلى ما يلي:
  1. اعتبار الاجتهاد كل لا يتجزأ وأنَّ كل مسائل الاجتهاد بدرجة واحدة.
  2. الغُلو في النهي عن إحداث قول من غير إمام سابق.
  3. تقديم الإجماع المتوهَّم على نصوص الكتاب والسنَّة.
  4. الورع الناقص والورع الكاذب.
السبب الأول؛ الجهل بدرجات الاجتهاد
الاجتهاد درجات كما أن الاتباع درجات والتقليد درجات، وكثيراً ما يجهل الناس أو يغفلون عن أن القسم الواحد تندرج تحته مسائل بدرجات متفاوتة، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كلام عن الحد وأنه لا يوجد غالباً إلا في الأذهان قرَّر فيه أنَّ السواد والبياض درجات.
فالاجتهاد درجات متفاوتة، فمنه ما لا يجوز إلا من خاصة الخاصة، ومنه ما هو للخاصة، ومنه ما هو لطالب العلم المتأني، فلا يقتصر الاجتهاد على المجتهد المطلق، ونص بعض العلماء على أنه لا يوجد مجتهدٌ مطلق في زماننا.
ومسألة تجزئة الاجتهاد معلومة في أصول الفقه، أذكر فيها قول ابن تيمية رحمه الله: (والاجتهاد ليس هو أمراً واحداً لا يقبل التجزي والانقسام، بل قد يكون الرجل مجتهداً في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة، وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه) [4].
وسوء الفهم عموماً بما ذلك فهم أهل البدع سببه عدم التفريق بين درجات القسم الواحد، والظن بأن كل معنى أو قسم درجة واحدة، فهذا أصل ضلال الخوارج والقدرية والمرجئة والجبرية وغيرهم.
ولأن التقليد والترجيح والاجتهاد درجات متفاوتة فكذلك المقلد والمرجح والمجتهد، ففرض الجميع في هو اتباع النصوص، وواجب المرجَّح والمقلد اتباع العلماء، وفرق بين اتباع العلماء وتقليدهم، فاتباع العالم هو بعد معرفة دليله بخلاف تقليده فهو من غير معرفة دليله، فالعلماء هم الدليل إلى الدليل.
واتباع المرجح العلماء بدرجة أعلى من المقلد، والمرجِّح سمي مرجحاً لأن دائرة الترجيح واتباع العلماء عنده أكثر من المقلد، وكذا يقال في المقلد والمجتهد، فدائرة الاجتهاد أوسع عند المجتهد من المرجح، ودائرة التقليد أوسع عند المقلد من المرجح في  المسائل الدقيقة الخفية.
قال الإمام ابن باز رحمه الله: (وما وجد من اجتهاد لبعض العلماء وطلبة العلم فيما يسوغ فيه الاجتهاد فإن صاحبه لا يؤاخذ به ولا يثرب عليه إذا كان أهلاً للاجتهاد) [5].
وقال الإمام ابن عثيمين رحمه الله تعالى: (فلذلك ينبغي لطالب العلم، كما أنه يمرن نفسه على كثرة المطالعة وقراءة الكتب، ينبغي أيضاً أن يمرن نفسه على الاستنباط من الأدلة، وكم من دليل واحد دل على مئات المسائل بحسب فهم الإنسان، فالذي يرزقه الله فهمًا يستغني بذلك عن نصوص كثيرة لا يحتاج إلى أن يجهد نفسه لتحصيلها ومطالعتها) [6].
السبب الثاني؛ الغلو في النهي عن الإحداث
وأما السبب الثاني؛ وهو الغلو في النهي عن إحداث قول على أقوال الأئمة، فأنقل فيه من أحد مقالاتي؛ "وقول الإمام أحمد رحمه الله؛ (إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام))، فهو ليس على إطلاقه، كما هو معلوم من علم أصول الفقه، فهو في المسائل التي لا يصح فيها الاجتهاد كالمسائل النصية، أو لعدم أهلية المتكلم، أو المسائل التي ثبت فيها الإجماع إمَّا لاستقرار الخلاف فيها أو إذا كان القول المحدث رافعاً لما اتَّفقت الأقوال السابقة عليه.
وأَمَّا الإحداث بهذه الشروط أو القول بمقتضى نص لا يُعلم قائل به فلا يخالف الإجماع، فالنص حجة بذاته، ومجرد رواية النص تدلُّ على وجود قائل به وإن لم يُعلم، أقل عددهم رواة الحديث، ما لم يُعلم للنص ناسخ أو مخصص أو مقيِّد من النصوص أو من دلالة الإجماع المنصوص عليه على ترك العمل بالنص، فلا بد أن يُوجد من قال بمقتضى النص، وعدم العلم بالقول ليس علماً بعدم القول، وللمزيد حول معارضة النص بالإجماع المتوهم أرجو الرجوع إلى؛ مدونتي » قواعد وأصول » تحقيق دلالة الإجماع على سبيل ا لاتباع.
قال ابن القيِّم رحمه الله تعالى: (وقال الإمام أحمد لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام.
والحق التفصيل، فإن كان في المسألة نص من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أثر عن الصحابة لم يكره الكلام فيها.
وإن لم يكن فيها نص ولا أثر فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدرة لا تقع لم يستحب له الكلام فيها.
وإن كان وقوعها غير نادر ولا مستبعد، وغرض السائل الإحاطة بعلمها ليكون منها على بصيرة إذا وقعت استحب له الجواب بما يعلم، لا سيما إن كان السائل يتفقه بذلك ويعتبر بها نظائرها، ويفرع عليها، فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى، والله أعلم) [7].
وإذا استقرَّ الخلاف في مسألة فإنَّ القول الحادث إن لم يرفع ما اتفقت عليه أقوال السابقين لم يكن مخالفاً للإجماع، لأنَّه وافق ما أجمعوا عليه، وما فيه من جديد فإنَّه لا يخالف ما أجمعوا عليه فأشبه اجتهاد الأوائل في المسائل والأحكام، وأمَّا إذا لم يستقر الخلاف في مسألة فليس في إحداث قول فيها مخالفة للإجماع، وذلك أن الخلاف يُعد غير مستقر إذا لم تشتهر المسألة بين المجتهدين، فلا يُعدُّ قول بعضهم فيها إجماعاً لأنه لم يتفق عليه جميع المجتهدين.
قال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى في مسألة إحداث قول ثالث على قولي السلف: (القول الثالث: أن ذلك القول الحادث بعد القولين إن لزم منه رفعهما لم يجز إحداثه وإلا جاز.
وروي هذا التفصيل عن الشافعي، واختاره المتأخرون من أصحابه، ورجحه جماعة من الأصوليين منهم ابن الحاج.
واستدلوا له بأن القول الحادث الرافع للقولين مخالف لما وقع الإجماع عليه، والقول الحادث الذي لم يرفع القولين غير مخالف لهما، بل موافق لكل واحد منهما من بعض الوجوه. ومثل الاختلاف على قولين: الاختلاف على ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك; فإنه يأتي في القول الزائد على الأقوال التي اختلفوا فيها ما يأتي في القول الثالث من الخلاف.
ثم لا بد من تقييد هذه المسألة بأن يكون الخلاف فيها على قولين أو أكثر قد استقر، أما إذا لم يستقر، فلا وجه للمنع من إحداث قول آخر) [8].
من كلام الشوكاني رحمه الله تعالى يفهم أن إحداث قول فيما فيه خلاف جائز إذا لم يرفع ما اتفقت عليه أقوال السابقين، وجائز أيضاً إذا لم يستقر الخلاف في المسألة بعدم اشتهارها بين المجتهدين.
والعبرة بعدم مخالفة إجماعهم، فيدخل في ذلك المصالح المرسلة بشروطها، وذلك لأن العمل بها لا يرفع القول بجواز ما عمل السلف به، ومثال ذلك جواز حساب أوقات الصلوات، فإنه لا يرفع جواز الاعتماد على رؤية علامات أوقات الصلاة بالعين.
وأما القول بمقتضى آية أو حديث لا يُعلم قائل بمقتضاه، فقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى أن رد مثل هذا من أعظم الباطل، وأنه رد للنصوص وتقديم إجماع متوهم على الكتاب والسنة، ولعل فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بأنَّ الطلاق بلفظ الثلاث يُعد واحدة هو من قبيل العمل بالنص وترك الإجماع المتوهم.
وذلك لأن هذا هو الحُكم الذي كان عليه العمل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه ولسنتين من خلافة عمر كما قال ابن عباس رضي الله عنه، وهي المسألة التي سُجِن بسببها بوشاية من المقلِّدة المتعصِّبة.
السبب الثالث؛ تقديم الإجماع المتوهم على النصوص
وأما السبب الثالث؛ وهو تقديم الإجماع المتوهَّم على النصوص، فقد ترتَّب هذا الخطأ على مطلق المنع من إحداث قول من غير إمام، وما زاد عن حدِّهِ انقلب إلى ضدِّه.
والإجماع منه قطعي وظني ومتوهم، وكل مرتبة من الثلاث على مراتب، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ولكن كثيراً من المسائل يظن بعض الناس فيها إجماعاً ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون القول الآخر أرجح في الكتاب والسنة)[9].
والنصوص أعلى مرتبةً من الإجماع، وحجية الإجماع لم تُعرف إلا من النصوص، فهي الأصل، والإجماع فرعٌ عنها، ولا يكون في مرتبة النصوص إلا ما تقوى بقرائن لدلالة النصوص على وجوب لزوم الإجماع.
ويدل كلام الأئمة كأحمد والشافعي وابن القيم على أن الإجماع ظني في الأصل وأنه لا يكون يقينياً إلا بالقرائن، وذلك لأنَّه مبني على عدم العلم بقائل بالمسألة أو عدم العلم بمخالف للمسألة، وعدم العلم ليس علماً بالعدم.
القرائن التي تجعل الإجماع يقينياً قد تكون في غيره كتقوِّيه بنص ولو كان خفياً أو ظنياً، وقد تكون القرائن في ذات الإجماع؛ كإجماع الصحابة رضي الله عنهم لتفرق من بعدهم في الأمصار، وكسنة الخلفاء الراشدين لاشتهارها، وكتواتر حكاية الإجماع.
ولا يُشترط في الإجماع القطعي حكايته في كل مسألة فضلاً عن تواتره، إذ يُعلم مثلاً إجماع أهل الرياضيات على صحة نظرية فيثاغورس من غير حاجة للاطلاع على حكاية إجماع على صحتها، وذلك لقوة مأخذها.
ومع أن الإجماع السكوتي أضعف في الجملة إلا أن منه ما هو قطعي، ومن ذلك أنه يُقطع بثبوت الإجماع في المسائل الصريحة في القرآن والمشتهِر المتفق على ثبوته من السنة مع عدم نقل ما يخالف دلالاتها عن السلف.
ويجب العمل بالإجماع الظني ما لم يعلم نص مخالف في المسألة، فإذا وجد نص مخالف فإن رد النص بالجهل بالمخالف أو الجهل بالقائل هو من أعظم الباطل كما نص على ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى.
وقد عقَّد المقلِّدون الاجتهاد حتى على أهله بعكسهم ترتيب الأدلة ومصادر التشريع، فأوجبوا على المجتهد أن ينظر أول ما يُنظر في الإجماع المتعسر قبل النظر في النصوص، فجعلوا بهذا الترتيب الاجتهاد أصعب ما يكون خاصة بعد تفرق المسلمين في الأمصار.
والمقصود هنا الإجماعات الظنية التي لم تتقوَ بقرائن تجعلها في مرتبة النصوص، علماً بأن كثيراً من الكتب لا زالت مخطوطة يتعسر الحصول عليها وبعضها أغرق وبعضها تلف.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فإنَّ عِلْمَ المجتهد بما دل عليه القرآن والسنة أسهل عليه بكثير من عِلْمِه باتفاق الناس في شرق الأرض وغربها على الحكم.
وهذا إن لم يكن متعذراً فهو أصعب شيء وأشقه إلا فيما هو من لوازم الإسلام.
فكيف يحيلنا الله ورسوله على ما لا وصول لنا إليه ويترك الحوالة على كتابه وسنة رسوله اللذين هدانا بهما، ويسرهما لنا، وجعل لنا إلى معرفتهما طريقاً سهلة التناول من قرب؟
ثم ما يدريه فلعل الناس اختلفوا وهو لا يعلم، وليس عدم العلم بالنزاع علما بعدمه، فكيف يقدم عدم العلم على أصل العلم كله؟ ...
إلى قوله: ... وحين نشأت هذه الطريقة تولد عنها معارضة النصوص بالإجماع المجهول، وانفتح باب دعواه، وصار من لم يعرف الخلاف من المقلِّدين إذا احتج عليه بالقرآن والسنة قال: هذا خلاف الإجماع) [10].
ويُحمل عدم العلم بالعدم في قول ابن القيم: (وليس عدم العلم بالنزاع علماً بعدمه) على اليقين إذا كان من لا يعلم النزاع إمام مجتهد، فعدم علم المجتهد بالنزاع إجماع ظني يُقدم على القياس الظني ولا يقدم على النصوص. 
وترتيب الأدلة في المسائل الدقيقة الخفية متفق عليه بين الأئمة كما نص على ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى، والأصل أن الكتاب والسنة والإجماع بمعنىً واحد، ولكن في المسائل الدقيقة الخفية يُقدَّم الكتاب لأن السنة تُروى بالمعنى وفيها ما هو مختلف في ثبوته، وتُقدَّم السنة على الإجماع عدا ما تقوى بقرائن تجعله في مرتبة نص.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (ولم يزل أئمة الإسلام على تقديم الكتاب على السنة، والسنة على الإجماع، وجعل الإجماع في المرتبة الثالثة.
قال الشافعي: الحجة كتاب الله وسنة رسوله واتفاق الأئمة) [11].
وقال أيضاً: (ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث من أن يقدموا عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم بالمخالف.
ولو ساغ لتعطلت النصوص، وساغ لكل من لم يعلم مخالفاً في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص.
فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع، لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده) [12].
وقال أيضاً: (فدفعنا إلى زمان إذا قيل لأحدهم "ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا وكذا" يقول: من قال بهذا؟ ويجعل هذا دفعاً في صدر الحديث، أو يجعل جهله بالقائل به حجة له في مخالفته وترك العمل به.
ولو نصح نفسه لعلم أن هذا الكلام من أعظم الباطل، وأنه لا يحل له دفع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الجهل.
وأقبح من ذلك عذره في جهله; إذ يعتقد أن الإجماع منعقد على مخالفة تلك السنة، وهذا سوء ظن بجماعة المسلمين، إذ ينسبهم إلى اتفاقهم على مخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبح من ذلك عذره في دعوى هذا الإجماع، وهو جهله وعدم علمه بمن قال بالحديث، فعاد الأمر إلى تقديم جهله على السنة، والله المستعان.
ولا يعرف إمام من أئمة الإسلام ألبتة قال: لا نعمل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نعرف من عمل به)، [13].
وقد نص الإمام الشافعي رحمه الله تعالى على أن ترتيب الأدلة هو؛ الكتاب والسنة المجتمع عليها ثم السنة المختلف في ثبوتها ثم الإجماع ثم القياس، وللمزيد؛ مدونتي » قواعد وأصول » الاتباع على دليل الإجماع.
السبب الرابع؛ الورع الناقص والكاذب
وأما السبب الرابع؛ وهو الورع الناقص والكاذب، فأما الورع الناقص؛ فالورع الواجب يدخل فيه فعل ما يُشبه الواجب كما يدخل فيه ترك ما يُشبه الحرام، لأن العقوبة تترتب على ترك الواجب كما تترتب على فعل المحرم، بل إنَّ جنس فعل المأمور به أفضل من جنس ترك المنهي عنه كما حقق ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
فقد يكون الاجتهاد من باب الورع الواجب، وهو ما تساوى فيه الاحتمالان أو كان أقرب إلى الوجوب، وقد يكون الاجتهاد من باب الورع المستحب، وهو ما كان أقرب إلى عدم الوجوب إلا أن احتمال وجوبه كبير، وقد ورد في حديث الحلال بين والحرام بين ذكر المشتبهات وهي كل ما فيه احتمال، ثم ورد ذكر الشبهات وهي ما كان أقرب إلى الحرام أو تساوى فيه الاحتمالان.
فترك الاجتهاد قد يؤدي إلى التشكيك في حكمة الشريعة، فقد نُسبت مسائل تخالف الحكمة إلى الشريعة بتأويل، فلزم تصفية الشريعة مما أدخل فيها مما ليس منها.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فأما الورع المشروع المستحب الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم فهو اتقاء ما يُخاف أن يكون سبباً للذم والعذاب عند عدم المعارض الراجح.
ويدخل في ذلك أداء الواجبات والمشتبهات التي تشبه الواجب وترك المحرمات والمشتبهات التي تشبه الحرام) [14].
وأما الورع الكاذب؛ فهو من تلبيس الشيطان على العلماء وطلبة العلم وهم لا يشعرون، فكما أن طلب العلم لغير الله شرك خفي، فكذلك ترك الطلب والتعليم والاجتهاد ممن هو أهل له من الشرك الخفي.
فقد نص العلماء على أن ترك العمل لغير الله شرك كفعله لغير الله، وذلك لأن الشيطان قد يوحي إلى الإنسان أن تورَّع عن الاجتهاد حتى يُقال تقي ورِع.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى: (وها هنا نُكتةٌ دقيقة، وهي أن الإنسانَ قد يذُمُّ نفسهُ يين الناسِ يُريدُ بذلك أن يُرِي أَنه مُتواضعٌ عندَ نفسهِ، فيرتفعُ بذلكَ عندَهُم ويمدحُونَهُ بهِ، وهذا من دَقائقِ أبوابِ الرِّياءِ وقد نَبَّه عليهِ السلفُ الصالحُ.
قال مُطَرَّفُ بنُ عبدِ الله بن الشِّخِّير: كَفى بالنفس إِطراءً أَن تَذُمَّهَا عَلَى الملأ، كأنك تُريدُ بذمِّها زينتَهَا، وذلك عند الله سَفَهٌ) [15].
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: (ترك العمل من أجل الناس رياء. والعمل من أجل الناس شرك. والإخلاص أن يعافيك الله منهما) [16].
منع إحداث الأقوال مطلقاً خلاف منهج السلف
لاشك أن منع إحداث الأقوال بإطلاق خلاف منهج السلف  السابقين ومن تبعهم بإحسان من اللاحقين، فهو خلاف ما جرى عليه الصحابة رضي الله عنهم والأئمة الأوائل قبل استقرار الخلاف في كثير من المسائل، وهو خلاف ما جرى عليه من بعدهم في إحداث ما لا يرفع ما اتفق عليه السابقون، وما جرى عليه السابقون في مسائل حادثة لم يستقر فيه الخلاف، وما معنى جواز القياس وسائر مصادر التلقي التي تلي الكتاب والسنة والإجماع؟
قال ابن تيمية رحمه الله مبيناً أن ترك قول إمام لقول آخر لحديث لا عيب فيه حتى وإن تبين فيما بعد أن للحديث معارض راجح من حديث آخر لم يكن يعلمهُ المرجِّح: ( ثم إن تبين لك فيما بعد أن للنص معارضاً راجحاً كان حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده ) [17].
مثالان لما أحدثه بعض العلماء في تفسير بعض الآيات
ولعل تفسير آية الملك بكروية السماوات هو مما أحدثه ابن تيمية رحمه الله إذ لم ينسبه إلى من سبقه ولكنه نقل حكاية الإجماع على كرويتها، فقد استدل على كروية السموات بقول الله عز وجل: { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ }.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ( وهذا إِنَّما يكون فيما يستدير من أشكال الأجسام دون المضلعات من المثلث أو المربع أو غيرهما، فإنَّه يتفاوت لأنَّ زواياه مخالفة لقوائمه، والجسم المستدير متشابه الجوانب والنواحي، ليس بعضه مخالفاً لبعض ) [18].
وهذا يؤكِّد أن ما نُقل عن ابن تيمية رحمه الله تعالى من مطلق المنع من إحداث الأقوال لا يصح عنه، وأنه عنى بكلامه الذي صح عنه ما يخالف ما اتفقت عليه أقوال السابقين.
ومن التفسير بالرأي أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى نقل في مجموع الفتاوى عن بعض المفسِّرين على وجه الإقرار تفسير قول الله تعالى: { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا } بأنَّ الثلاثمائة بالحساب الشمسي وزيادة التسع بالحساب القمري.
وممن نقل هذا الرأي في حساب مدة لبث أصحاب الكهف القرطبي رحمه الله تعالى حيث قال: ( وحكى النقاش ما معناه أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية بحساب الأيام.
فلما كان الإخبار هنا للنبي العربي ذكرت التسع، إذ المفهوم عنده من السنين القمرية، وهذه الزيادة هي ما بين الحسابين ) [19].
شبهات حول إحداث الأقوال
نقل بعض إخواننا عن ابن تيمية رحمه الله أنه قال: (أُعطي خصومي ثلاث سنوات أن يأتوني بمسألة قلت فيها وليس لي فيها إمام)، ولا أظن أنه قال هذا بهذا الإطلاق، ولكنه قال في العقيدة الواسطية: (قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين؛ فإن جاءني بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عنه))، وبالبحث وجدت في موضعين من الفتاوى أنَّه في العقيدة وليس الأحكام الفقهية، وهي في؛ مجموع فتاوى ابن تيمية (ج6/ص15) وفي؛ مجموع فتاوى ابن تيمية (ج3/ص169).
وأما قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى: ( أن علماء المسلمين إذا تنازعوا في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم إحداث قول ثالث، بل القول الثالث يكون مخالفاً لإجماعهم.
والمسلمون تنازعوا في السفر لغير المساجد الثلاثة على قولين: هل هو حرام أو جائز غير مستحب، فاستحباب ذلك قول ثالث مخالف للإجماع وليس من علماء المسلمين من قال يستحب السفر لزيارة القبور ولا يستحب إلى المساجد ) [20]، فهذا فيما يرفع ما اتفقت عليه أقوال السابقين، لأن القول بالحرمة والجواز فيه اتفاق على أنه لا أجر في السفر لغير المساجد الثلاثة، والقول بالاستحباب يقتضي أن لفاعله أجر، فيكون رافعاً لما اتفق عليه القولان، ولهذا شرح ابن تيمية هذا بقوله عن أحد القولين " جائز غير مستحب "، وأكده بقوله: " قول ثالث مخالف للإجماع " يُشير إلى ما فيه من مخالفة ما اتفق عليه القولان.
مثال بتقديم إجماع على نص صريح
ومسألة حد الذبح هي مثال آخر لصراحة دلالة النص، وتقديم بعض المُعاصرين الإجماع المتوهم على النص الصريح؛ (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا)، ومع صراحة النص ودلالته فإنَّ فتاوى منتشرة في الإنترت تزعم أنَّ القول بكفاية قطع ودج واحد مخالف للإجماع.
علماً بأن هذه الأقوال تذكر اجتهاد الإمام الشافعي رحمه الله تعالى من كفاية قطع الحلقوم والمرئ، وترفض القول بكفاية قطع ودج واحد، مع أن قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى بعيدٌ عن دلالة النص بإقرارهم، وحجَّتهم هي أنه لا يوجد قائل بكفاية قطع ودح واحد مع إقرارهم بأن النص يدلُّ عليه.
والقول بأنَّ حد الذبح قطع ودج واحد لا يرفع ما اتَّفقت عليه أقوال السلف، بل هو موافق للنص وموافق لأقوالهم في كفاية قطع ودج واحد في النحر.
ولهذا فمع أنني قلتُ في هذه المسألة بما يوافق دلالة النص فقد وجدت بعدها من قال به من السابقين، وكنت كتبتُ قبل ذلك؛ "ربما يوجد قول في غير مظانه بمثل ما قلتُ به لدلالة النص عليه".
ثم وجدت بعد مزيد بحث أنَّ ابن رشد رحمه الله تعالى قال بكفاية قطع ودج واحد في الذبح ونقلت قوله في مقال "اللحم في أوروبا وأمريكا" في قسم "مسائل وأحكام".
وكثيراً ما يدَّعي المُقلِّدون الذين رضوا بالتقليد المذموم وأغلقوا باب الاجتهاد على أنفسهم وعلى أهل العلم من المسلمين حصر الأقوال، بينما هو مجرَّد إدِّعاء.
مثال لمسألة لم يستقر فيها الخلاف
وأما المثال على مسألة لم يستقر فيها الخلاف فمسألة؛ مواقيت الصلاة والصوم في البلاد ذات خطوط العرض العالية الدرجات، ولي فيها بحث ذكرتُ فيه في مبحث عن الإجماع أنَّ هذه المسألة ليس فيها إجماع ولا خلاف مستقر، ليس فيها إجماع لأنَّ السابقين اختلفوا فيها، ولم يستقر فيها الخلاف لأنها لم تشتهر قبل عصرنا.
وسبق في النقل عن الشوكاني رحمه الله في مسألة إحداث قول على أقاويل السلف: (ثم لا بد من تقييد هذه المسألة بأن يكون الخلاف فيها على قولين أو أكثر قد استقر، أما إذا لم يستقر، فلا وجه للمنع من إحداث قول آخر).
ومما ذكرتُ بهذا الخصوص في مبحث الإجماع: "فالمتابع لأقوال العلماء في هذه المسألة يجد أن من تحدث عنها قليلون، فكثير من الفقهاء لم يسمعوا بحال تلك البلاد، ولذا سماها القرافي من نوادر الفقه، وقال ابن عرفة المالكي كما سيأتي ذكر مصدره: (وعند الشافعية يقدرون بأقرب البلاد إليهم، ولا نص عندنا، ولكن استظهر بعضهم الرجوع في ذلك لمذهب الشافعي، كذا قرر شيخنا)، وقال ابن عابدين كما سيأتي ذكر مصدره: (لم أر من تعرض عندنا لحكم صومهم فيما إذا كان يطلع الفجر عندهم كما تغيب الشمس أو بعده بزمان لا يقدر فيه الصائم على أكل ما يقيم بنيته)".
وقد وافقتُ الشيخ الزرقا رحمه الله تعالى في اجتهاده في هذه المسألة، ولكن بالاستدلال بالنص، وليس بمجرد القواعد الشرعية كما فعل الزرقاء رحمه الله تعالى، لأنَّ الإجماع الظني مقدم على القياس الخفي الظني، وذلك باعتماد حديث الدجال وذِكْر العلة وشروطها ومناقشتها ومناقشة القول المُخالِف.
وقد يوجد قائل بالمسألة في غير مظانها، ولم أكن أعلم أن من السابقين من قال بقول الزرقا رحمه الله تعالى في الصلاة أيضاً عندما سمعوا بحال تلك البلاد، ثم وجدتُّ أن أبا حامد الغزالي رحمه الله تعالى يقول بجواز تقدير الصلاة والصوم عند التعذر في مثل هذه البلاد، وكنتُ قد ذكرتُ نحواً من هذا في مسألة حد الذبح، بحث المواقيت موجود في؛ مدونتي » أحكام » مواقيت الصلاة والصوم في شمال وجنوب الأرض.
وبسبب أنَّ الكلام على بعض المسائل قد يكون في غير مظانها، فإن كثيراً من دعاوى الإجماع لا تصح، فلهذا ينظر المجتهد في النص أولاً ثم ينظر في الأقوال حتى لا يقع في مخالفة مجمع عليه، وقد تقدم قول ابن القيم رحمه الله تعالى: ( فإنَّ عِلْمَ المجتهد بما دلَّ عليه القرآن والسنة أسهل عليه بكثير من عِلْمِه باتفاق الناس في شرق الأرض وغربها على الحكم).
أمثلة لإحداث ما لا يرفع ما اتفق عليه السلف
ومن أمثلة ما لا يرفع ما اتفقت عليه أقوال السلف؛ مسألة الفِطْر في نهار رمضان للمسافر بالوسائل الحديثة، وأقوال السلف هي حدُّ السفر المبيح للفطر بزمن أو بمسافة أو بحال وهيئة، والقول بأنَّ حدَّه هو غلبة الظن بحصول مشقة غير معتادة يجعل حده في بعض الأحيان الزمن وفي بعضها المسافة وفي بعضها الحال والهيئة.
ومن استنكر القول بأنَّ السفر المبيح للفطر هو المخوف مشقته، لزمه أن يُساوي بين المرض والسفر والقول بما قال به بعض السلف وأهل الظاهر من أنّ كل مرض مبيح للفطر بما في ذلك ألم الإصبع والضرس.
وليس في هذا القول جعل المشقة علة، فهو مثل القول بأنَّ حد المرض المبيح للفطر بما يغلب معه الظن بحصول مشقة أو بالضرر بزيادته أو تأخر برئه، ومثل قول ابن عباس رضي الله عنهما: (والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمت)، للمزيد؛ مدونتي » قسم أحكام » حكم الفطر في نهار رمضان للمسافر بالوسائل الحديثة.
ومن  أمثلة ما لا يرفع ما اتفق عليه السلف زكاة العقار، وقلتُ فيها: (والذي يظهر والله تعالى أعلم أن الزكاة واجبة في العقار المدخر، وتُخرج زكاة العقار المعد للادخار عند بيعه وبعد قبض ثمنه لسنة واحدة فقط ولو باعه بعد سنوات من شرائه أو بلوغ قيمته النصاب، بناءاً على قول المالكيَّة في التاجر المتربِّص)، وقلتُ فيها: (وليس في هذا القول مخالفة للإجماع لأنه لا يخالف أقوال السلف، فالاستدلال بوجوب الزكاة في المال وقياسه على غيره لا يخرج عن استدلالات السلف وتعليلاتهم، ولا يبطل ما أجمعوا عليه من عدم وجوب الزكاة في مال القنية، ولأن جمهور السلف يوجبون الزكاة في عروض التجارة، والعقار المعد للادِّخار لابد فيه من نية البيع عند الشراء)، المصدر؛ مدونتي » قسم وأحكام » زكاة العقار.
ومما لا يرفع الإجماع؛ العمل بحساب الأهلة، وقلتُ فيه: (فإن إحداث قول على أقوال السلف لا يُخالف الإجماع إلا إذا كان رافعاً لما اتَّفقت عليه أقوالهم، ولا أرى فرقاً بين قول واحدٍ وخلافٍ على قولين أو أكثر، لأنَّ المقصود عدم مخالفة ما أجمعوا عليه، فالقول بجواز العمل برؤية العِلم لا يَرفع القول بجواز العمل برؤية البصر، فكما أن العمل بحساب أوقات الصلاة لا يخالف فعل السلف بمعرفتها بالرؤية فكذلك هنا)، للمزيد؛ مدونتي » قسم أحكام » جواز العمل بحساب الأهلة.
من آثار إغلاق باب الاجتهاد
ومن الآثار السيئة لغلق باب الاجتهاد ظنُّ كثيرٍ من الناس أن النصوص أعقد من كلام البشر وتخريجاتهم وتفريعاتهم ومختصراتهم ومطولاتهم، وقد جعلها الله عز وجل يسيرة بقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}.
وبهذا السبب انتشرت الدعوة إلى التقليد المذموم، وهو التزام تقليد معيَّن او معيَّنين في كل مسائل الفقه أو مسائل معينة، والإلزام بالقيادة التنظيمية أو بأقوال كبار علماء بلدة أو بلدات في مسائل معينة، ثم ادعاء اتفاقهم فيما اختلفوا فيها، ثم ظهور الجدل في معاني أقوالهم بمثل ما لو كانت قديمة أو عامة مخصصة، والتثريب على من اجتهد في مسألة من طلاب العلم، للمزيد؛ مدونتي » شبهات وردود » المذهبية الجديدة.
خاتمة
فالاجتهاد بابه مفتوح إلى يوم القيامة، سواء كان في تفسير آية أو شرح حديث واستنباط معنىً أو حِكْمةٍ أو حُكمٍ من مصادره الأصلية، بشرط عدم إحداث ما يخالف الإجماع أو عدم  استقرار الخلاف بعد لعدم اشتهار المسألة بين المجتهدين، وبشرط أن يكون المجتهد أهلاً للاجتهاد.
والاجتهاد يتجزأ وهو درجات، فالاجتهاد في كل مسألة بحسبها، ، ولا يجوز للعامي الاجتهاد مع إمكان وقوعه منه، وإذا سلمنا بالجواز لإمكان وقوعه، فلابد من إجازته ممن توفرت فيه شروط الاجتهاد في مثلها من المسائل.
والتقليد جائز للاضطرار أو الاحتياج، والتقليد المذموم هو التزام تقليد معيَّن أو معيَّنين في كل المسائل أو مسائل معينة، سواءٌ قيل بوجوب هذا الالتزام أو جوازه، ومن التقليد المذموم تحريم النظر في الأدلة على العامي.
فواجب العامي هو اتباع العلماء فيما قدر فيه على الاتباع (قبول قول العالم بعد معرفة حجَّته)، وتقليدهم بدون التزام معين أو معينين فيما لا يقدر عليه أو فيما يجد فيه مشقة أو فيما يفوت عليه مصالحه الدينية أو الدنيوية.
فالتقليد درجات كما أن اتباع العلماء والاجتهاد درجات، أقل درجات التقليد هي تقليد من عرف بالعلم، وأرفع منها أن يعرف مَنْ مِن العلماء برع في الفقه والتفسير والحديث ونحو ذلك، وهكذا.
وكذا اتباع العلماء درجات، فالمرجِّح ينظر في أدلة كل قول من أقوال العلماء في المسألة ويتأمل ويبحث ويدقق، والعامي قد يكتفي بمعرفة أدلة ذُكرت له في المسألة، ومعرفته بالدليل تخرجه من دائرة التقليد في المسألة إلى اتباع عالم فيها.
قال العلاّمة محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله تعالى: (وفرقٌ بين تقليد العالم في جميع ما قاله، وبين الاستعانة بفهمه، فإنّ الأول يأخذ بقوله من غير نظرٍ في دليل من كتاب ولا سنة، والاستعانة بفهمه وهو الثاني؛ بمنزلة الدليل في الطريق، والخريت الماهر لابن السبيل، فهو دليل إلى دليل، فإذا وصل إليه استغنى بدلالته عن الاستدلال بغيره) [21].
فالأصل هو الاتباع، والذي هو قبول قول من قوله حجة؛ وهو اتباع النصوص، وقبول قول من ليس قوله حجة بعد معرفة حجته ودليله؛ وهو اتباع العلماء، فالدليل في الأحكام الشرعية هو كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قبل كل شئ، وأما العلماء فهم دليل إلى الدليل كما قال الصنعاني رحمه الله تعالى، والعلم إنما يُتَلقى عن العلماء لا عن الجهال.
فالأمر بطاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة أمرٌ مطلق، والأمر بطاعة أولي الأمر وهم العلماء والأمراء مقيد بطاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو أمر عام لجميع المؤمنين، وليس خاصاً بالعلماء وطلاب العلم.
وإنِّما سمي المقلِّد مقلِّداً لأن دائرة التقليد عنده في المسائل الدقيقة الخفيفة أوسع، ولا يحرم عليه النظر في أدلة بعض المسائل الدقيقة بإطلاق، وإنما يحرم إذا فوت ما هو أهم وأوجب بالانشغال بدقيق المسائل، وقد تقدم النقل حول هذا عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مقال "التقليد".
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَ‌ٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
يوم الأثنين 23 ذو القعدة 1436هـ، 7 سبتمبر 2015م

المصادر

[1] صحيح البخاري (٤١١٩).
[2] فتح الباري شرح صحيح البخاري (ج7/ص409): دار المعرفة، بيروت، ، 1379، ترقيم؛ محمد فؤاد عبد الباقي، إخراج وتصحيح؛ محب الدين الخطيب، تعليقات؛ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
[3] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج1/ص155): تحقيق؛ محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، ييروت الطبعة الأولى، 1411هـ - 1991م.
[4] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج20/ص212)، الناشر؛ مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، عام النشر؛ 1416هـ/1995م.
[5] الموقع الرسمي لسماحة الإمام ابن باز » أُسْلوب النقد بين الدعاة والتعقيب عليه
[6] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج4/ص170): تحقيق؛ محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، ييروت الطبعة الأولى، 1411هـ - 1991م.
[7] تفسير سورة النور ص 122، مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية، الطبعة الأولى، 1436هـ.
[8] إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول (ج1/ص229): تحقيق؛ الشيخ أحمد عزو عناية، دار الكتاب العربي، الطبعة الطبعة الأولى، 1419هـ - 1999م.
[9] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج20/ص10)، الطبعة السابقة.
[10] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج2/ص174-175)، الطبعة السابقة.
[11] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج2/ص175): الطبعة السابقة.
[12] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج1/ص24): الطبعة السابقة.
[13] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج4/ص188): الطبعة السابقة.
[14] مجموع الفتاوى (ج20/ص137-138)، الطبعة السابقة.
[15] مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي (ج1/ص88)، تحقيق؛ أبو مصعب طلعت بن فؤاد الحلواني، الناشر؛ الفاروق الحديثة للطباعة، الطبعة الثانية، 1424 هـ - 2003 م.
[16] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (ج2/ص92)، تحقيق؛ محمد المعتصم بالله البغدادي، الناشر؛ دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1416 هـ - 1996م.
[17] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج20/ص213) ، الطبعة السابقة.
[18] مجموع الفتاوى (ج25/ص194)، الطبعة السابقة.
[19] الجامع لأحكام القرآن (ج10/ص387)، تحقيق؛ أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، الناشر؛ دار الكتب المصرية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1384هـ - 1964 م.
[20]مجموع الفتاوى (ج27/ص308)، الطبعة السابقة.
[21] إرشاد النُقاد إلى تيسير الاجتهاد ص181، المحقق؛ صلاح الدين مقبول أحمد، الناشر؛ الدار السلفية، الكويت، الطبعة الأولى، 1405هـ.
pdf
رجوع إلى قسم قواعد وأصول

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق