ابن تيمية وعلم الفلك

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الخالق العليم، والصلاة والسلام على البشير النذير، وعلى آله وصحبه أجمعين
عندما كنتُ أقرأ في فتاوى ابن تيمية رحمه الله تعالى المتوفى عام 728هـ - 1328م لم أفهم أوَّل الأمر بعض المصطلحات التي استخدمها مثل الدرجات الفلكيَّة، ولكن بعد التأمُّل قليلاً في تاريخ العلوم الفلسفيَّة والتي كانت تصحب العلوم التطبيقيَّة مثل علم الهيئة (الفلك)، وعلم الطبيعة (الفيزياء والكيمياء)، وعلم الحساب (الرياضيات) علمتُ أنه يقصد درجات الدائرة (360o)، وقد عاش فيثاغورس اليوناني قبل المسيح عليه السلام، وهو واضع النظرية المشهورة في علم حساب المثلثات.
من قرأ في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية عرف إحاطته بكثير من العلوم التي انتهى إليها العلم الدنيوي في عهده مثل علم الهيئة (الفلك) والذي لابد أن تصحبه معرفة بعلم الحساب والهندسة (التحليلية)، وكذلك من قرأ كتبه يلحظ معرفته بعلم الطبيعية، وقد نقلت له كلاماً هنا يشبه نظرية نيوتن في الجاذبية الأرضية. وربما كانت له معرفة بالجبر والمقابلة وذلك لما ذكره من أن مِن علماء أهل السنة من كان يقضي أوقات فراغه في تعلُّم بعض هذه العلوم الدنيوية النافعة، وهذا يدلُّنا على اهتمام سلفنا بالعلم رغم أنَّه يبدو أنَّ بعضهم لم تظهر لهم منفعتها بعد في ذلك الوقت، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وكذلك كثير من متأخري أصحابنا يشتغلون وقت بطالتهم بعلم الفرائض والحساب والجبر والمقابلة والهندسة ونحو ذلك، لأن فيه تفريحاً للنفس، وهو علم صحيح لا يدخل فيه غلط)[1].
وقبل نقل أقوال ابن تيمية الفلكية أُذكِّر القارئ الكريم بدرجات المعرفة في العلوم التطبيقية، وهي الفرضية، والنظرية، والحقيقة. فالنظرية احتمال صحتها راجحة، وهي بهذا المفهوم مثل الظن عند علماء الفقه والأُصول، والحقائق العلمية هي مثل المسائل القطعيَّة اليقينيَّة عند الفقهاء والأُصوليين والتي يسمونها أحياناً بالضروريَّة ويقابلونها بالنظرية.
وأُريد أن أُنبِّه إلى أنَّ المعلومة في العلوم التطبيقية مبنية على المشاهدة والتجربة، وعلى هذا الأساس تنشأ النظريات التي تضع نماذج لمفاهيم لا يُمكن الاعتماد فيها على مجرَّد الإحساس العام، مثل الذرة التي لا يمكن أن تُرى ولو بأقوى المجاهر، ومثل النجوم والكواكب ومساراتها وحركاتها، ومثل تفسير الزمن ونسبيته، وقوانين الحركة والسكون والطاقة، وغير ذلك من النظريات والنماذج التي تكون مقبولة في المجتمع العلمي قبل اكتشاف ظواهر جديدة.
وبعد اكتشاف ظواهر جديدة يُستبدل النموذج القديم بآخر، ويكون الجديد صالحاً لتفسير الظواهر المعروفة سابقاً، مع صلاحيته لتفسير الظواهر المكتشفة حديثاً. وقد تبقى النظريات القديمة صالحة لظروف معيَّنة، مثل نظرية نيوتن للأجسام الكبيرة ونظرية أنشتاين للأجسام المتناهية في الصغر وعلم الفيزياء النووية، وذلك لأنَّ التعديلات يُمكن تجاهلها عند التعامل مع الأجسام الكبيرة، ومثل قانون حفظ المادة عند التعامل مع الأجسام الكبيرة نسبياً كما هو الحال في التفاعلات الكيميائية والذي لابد أن يُستبدل بقانون حفظ المادة-الطاقة في الفيزياء النووية.
والسبب في صلاحية النظريات والنماذج الحديثة لتفسير الظواهر القديمة والجديدة معاً هو أنَّ أكثر من نموذج يصلح لحساب نفس الظاهرة، ولهذا نجد في العلوم التطبيقية أنَّ النموذج  قد يكون رياضياً فقط ولا يمثِّل الحقيقة، فتعريف النموذج الرياضي هو أنه تبسيط للحقيقة، ومن أمثلة ذلك النماذج الرياضية لظاهرة التردُّد. فحقيقة التردُّد هي تكرار الحدث، ويُسمَّى أيضاً الذبذبة، ووحدة التردُّد هي الهيرتز (مرَّة/ثانية)، وأبسط نموذجان رياضيان للتردُّد هما الموجات والحركة الدائرية لخط مستقيم، أرجو النظر إلى الصورة التي في الأسفل.
وكل واحد من النموذجين له فوائد حسابية وثمثيلية للتحليل السليم. وأصل نموذج الحركة الدائرية هو أنَّ المُراد حسابيَّاً معرفة كم مرَّة وقع الحدث، وأفضل طريقة للحساب هي تجاهل حقائق كثيرة وتبسيط النموذج وكأنَّ الإلكترون مثلاً يدور في دائرة، وأخذ نقطة مرجعية منها يبدأ وإليها يعود بعد اكتمال الدائرة، وهذه النقطة المرجعية هي ما يُعرف بالفيز، وهي عبارة عن زاوية يتم بها تحديد   موضع بداية الحدث من نقطة مرجعية ثابتة وهي المحور السيني، وتجاهل حقيقة كيفية حركة الإلكترون.
علماً بأنَّ حقيقة الإلكترون رياضيَّة حسابيَّة، وهي السالب (-)، وهذه ليست حقيقة محسوسة، فليس خطأً إذا اعتبرناه موجباً (+) بشرط اعتبار البروتون معاكساً له، كما في المتجهات. وحركة الإلكترون غير مؤكَّدة، حيث يرى أحد علماء الفيزياء أنه لا يتحرك من مكانه وإنَّما يتذبذب في مكانه، وهذه الذبذبة هي التي تحدث الأثر الكهربائي، وكلام هذا الفيزيائي أقرب للصحة في رأيي، وليس هذا موضع شرحه. ومن الإلكترون جاءت كلمة (electricity) بالإنجليزية، ومن الكهرمان جاءت كلمة الكهرباء باللُّغة العربيَّة.
وكلمة الإلكترون هي كلمة لاتينية، وتعني بالعربية الكهرمان، وهي عبارة عن مادة متحجِّرة ذات لون مصفر يميل إلى البرتقالي وأحياناً يميل إلى البنى، وتتكون مادة الكهرمان من الصمغ الراتنجي الذي تفرزه إحدى أشجار الصنوبر والتي تنمو في أوروبا الشمالية منذ 50 مليون سنة مضت. عندما يُدلك الكهرمان بالصوف يولِّد كهربية ساكنة.
وقد تمَّ اكتشاف كثير من الظواهر الفلكيَّة التي لم يكن بالإمكان مشاهدتها من قبل لوجود الآلات المساعدة لزيادة إحساس البشر، مثل التلسكوبات والمركبات الفضائية التي تلتقط الصور من مستويات عالية ومن ثم يتم إرسالها إلى المحطَّات الأرضيَّة عبر الأقمار الصناعية، ووجود أجهزة الكمبيوتر التي تساعد الإنسان في تحليل المعلومات وفي حساب الكميات بكفاءة عالية وسرعة فائقة. وما زال الفلكيُّون يكتشفون الكثير، ولن يستطيع أحد أن يقطع بأنَّ النظريات الفلكية (النماذج الفلكية) الحديثة هي الأخيرة، وعلماء الفلك والفيزياء يعرفون هذه الحقيقة التي يجهلها بعض الأكاديميين.
وكثير من النظريات الفلكيَّة المقرَّرة منذ عهد ابن تيمية وما قبله لا تزال صالحة لتفسير كثير من الظواهر رغم تغيير النموذج الفلكي، مع عدم صلاحيتها لتفسير الظواهر المكتشفة حديثاً. فمن التغيُّرات التي حدثت في الفلك اعتبار أنَّ الشمس هي المركز وليس الأرض، فهذا التغيير لا يؤثِّر في كثير من الحقائق الحسابية التي كانت تتم قبل مئات السنين مثل حساب اليوم والشهر والسنة والخسوف والكسوف، وذلك لأن تلك الحقائق ثابتة، وإنما تم تعديل النموذج لاستيعاب ظواهر جديدة مع بقاء تلك الحقائق من غير تغيير.
فدوران الأرض حول الشمس أو دوران الشمس حول الأرض لا يغيِّر من الحسابات القديمة لليل والنهار والشهور والسنة والكسوف والخسوف ونحوها من الظواهر، وإنما يتعذَّر إدخال ظواهر مكتشفة حديثاً في النموذج القديم، فالنسبة الرياضية واحدة في كثير من الظواهر، سواء كانت الأرض هي التي تدور حول الشمس أو العكس. ومن الظواهر التي عجز النموذج الأرضي عن تفسيرها ظاهرة الحركة التراجعية للمريخ .
وقد فسَّر كوبرنيك الحركة التراجعية للمريخ بمرور المريخ في دورة حول الشمس قرب الأرض وأن سرعة المريخ أقل من سرعة الأرض. ويمكن شرح ذلك بمرور قطار سريع بمحاذاة قطار بطئ متحرِّك في نفس الاتجاه بحيث يبدو للناظر من القطار السريع أن البطئ يرجع إلى الخلف. نيكولاس كوبرنيك (1474م – 1543م) هو واضع نموذج المجموعة الشمسية المقبول في الوسط العلمي المعاصر، وهو النموذج الذي ألغى نموذج بطليموس (90م – 168م) لتفسير ظاهرة الحركة التراجعية للمرِّيخ.
إلَّا أنَّ دوران الأرض حول محورها حقيقة علميَّة ثابتة في علم الفلك، فاللَّيل والنَّهار وساعات اليوم تنتج عن اكتمال دوران الأرض حول محورها المائل عن الشمس بزاوية، وأما اكتمال دوران الشمس حول الأرض قديماً أو الأرض حول الشمس حديثاً فهو الذي تنتج عنه السنة الشمسية (الميلادية). وبغير دوران الأرض حول محورها وميلان محور دورانها بزاوية عن المسير الظاهري للشمس لايمكن تفسير ظاهرة طول النهار صيفاً في القطب الشمالي لستة أشهر والليل شتاءاً لستة أشهر في القطب الجنوبي ثم انعكاس تلك الظاهرة في النصف الباقي من السنة. وعندما يكون النصف الشمالي من الأرض في فصل الصيف يكون الجنوبي في فصل الشتاء، وينعكس الأمر في النصف الثاني من السنة، وتحدث هذه الظاهرة بسبب انتقال تعامد الشمس بين مداري الجدي والسرطان (23.5ش – 23.5ج) أثناء دوران الأرض حول الشمس.
فلأنَّ محور دوران الأرض حول نفسها مائل عن المسير الظاهري للشمس، فرغم دورانها حول نفسها وتعاقب الليل والنهار كل 24 ساعة على أكثر أجزائها، يبقى أحد القطبين في مواجهة الشمس لنصف سنة، والآخر في الظلام لنصف سنة ثم ينعكس الأمر بعد اكتمال نصف دائرة من دوران الأرض حول الشمس كما هو مقرَّرٌ حديثاً عند الفلكيين، وطول النَّهار والليل معتدل ما بين خطي العرض 45 درجة شمالاً و45 درجة جنوباً، وفي درجات خطوط العرض العالية التي تقع بعدهما يطول النهار كثيراً صيفاً ويقصر كثيراً شتاءاً. وللتصوُّر الذهني لكيفية ذلك لا بد أن ننظر إلى الشمس بحجمها الذي يعادل الأرض مائة مرة وكأننا ننظر إلى الشمس والأرض من منطقة وسط وليس من الأرض. أنظر إلى الصورة التالية:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فكلما كان البلد أدخل في الشمال؛ كان ليله في الشتاء أطول، وفي الصيف أقصر. وما كان قريباً من خط الإستواء يكون ليله في الشتاء أقصر من ليل ذاك، وليله في الصيف أطول من ليل ذاك؛ فيكون ليلهم ونهارهم أقرب إلى التساوي)[2]. وقال أيضاً: ( فإن الشمس على أي موضع كانت مرتفعة من الأرض الارتفاع التام، كما يكون عند نصف النهار، فإنها تضيء على ما أمامها وخلفها من المشرق والمغرب، تسعين درجة شرقية، وتسعين غربية. والمجموع مقدار حركتها اثنتا عشرة ساعة، ستة شرقية، وستة غربية، وهو النهار المعتدل. ولا يزال لها هذا النهار لكن يخفى ضوءها بسبب ميلها إلى جانب الشمال والجنوب، فإن المعمور من الأرض من الناحية الشمالية من الأرض، التي هي شمال خط الاستواء، المحاذي لدائرة معتدل النهار، التي نسبتها إلى القطبين - الشمالي والجنوبي - نسبة واحدة. ولهذا يقال في حركة الفلك إنها على ذلك المكان دولابية مثل الدولاب، وإنها عند القطبين رحاوية تشبه حركة الرحى، وإنها في المعمور من الأرض حمائلية تشبه حمائل السيوف ) [3]. المصدر؛ مجموع فتاوى ابن تيمية » العقيدة » كتاب الأسماء والصفات الجزء الأول » مسألة أبيات في مباينة الله للعالم » فصل في كيفية نزول الله إلى السماء الدنيا، الشبكة الإسلامية.
ومما يبدو أنه اجتهاد خاص بابن تيمية رحمه الله تعالى ما ذكره في الفتاوى من أنَّ الفلكيين لا يستطيعون حساب حصتي العشاء والفجر فلكيَّاً. وإذا نظرت في برامج أوقات الصلاة فستجد أنها تعطيك خيارات في وقتي العشاء والفجر لتحديد إما زاوية العشاء والفجر، أو اختيار فارق الوقت ما بين المغرب والعشاء وما بين الشروق والفجر، أو اختيار أحد طرق حساب حصتي العشاء والفجر وأشهرها طريقة رابطة العالم الإسلامي، والهيئة العامة المصرية للمساحة، وجامعة العلوم الإسلاميَّة بكراتشي، وتقويم أم القرى، وأمريكا الشمالية.
ولمعرفة كيف خلُص ابن تيمية رحمه الله تعالى إلى هذه المسألة يمكن ربطها بما قاله في مسألة رؤية الهلال حيث تحدث هناك عن صفاء الجو وكدره. لتوضيح ذلك يتعيَّن معرفة أنَّ حساب أوقات الصلاة يتم بتحويل العلامات الفلكية إلى نماذج رياضية (الهندسة التحليلية) ثم وضع خوارزم معيَّن لبرمجة تلك الحسابات على الحاسب الآلي.
والنموذج الرياضي للعلامات الفلكيَّة مبني على الدائرة، وتحويل علامات الصلاة إلى زوايا على الدائرة تحدِّد موضع الشمس من أُفق البلد المراد حساب أوقات الصلاة فيه، ويُحدَّد البلد بتحديد خطي الطول والعرض، وزاوية الفجر تختلف قليلاً عن زاوية العشاء، لأنَّ علامة العشاء هي مغيب الشفق الأحمر بينما علامة الفجر ظهور الشفق الأبيض، والشفق الأحمر يغيب قبل الأبيض، بينما يظهر الشفق الأبيض من جهة الشرق أولاً قبل ظهور الشفق الأحمر.
بعد غروب الشمس ونتيجة لمرور ضوء الشمس عبر طبقة ذات نسبة عالية من بخار الماء والشوائب في المنطقة الغربيَّة من سطح الأرض، فإنَّ الأشعة الضوئية تتناثر خاصَّة الأشعة ذات الأطوال القصيرة (البنفسجية والزرقاء والخضراء) ولا يصل إلى أُفقنا إلا الأشعة ذات الأطوال الكبيرة نسبياً (الأحمر والبني والأصفر) فيظهر الضوء بلون أحمر وهو ما يُسمَّى بالشفق الأحمر، وتظلُّ الشمس تنخفض تحت الأفق حتى يأتي ضوء الشمس من منطقة بعيدة عن الطبقة ذات الرطوبة العالية بحيث تصل كل الموجات المرئية إلى الأفق فيصبح الضوء بلون أبيض ويسمَّى بالشفق الأبيض، وضوء الشفق يقلُّ بالتدريج من لحظة غروب الشمس حتى غياب الشفق الأحمر ثم الأبيض. وقبل شروق الشمس تتكرَّر ظاهرة الشفق ولكن بترتيب عكسي أى يظهر الشفق الأبيض أولاً ثم يظهر الشفق الأحمر ثم تشرق الشمس.
ولمعرفة سبب اختلاف الفلكيين في تحديد وقتي العشاء والفجر يمكن أن نقارنها بالأوقات الأُخرى، فكل علامات الأوقات الأُخرى مرتبطة بموقع الشمس من أفق البلد بما في ذلك نهاية وقت الفجر وهو الشروق، فعند خروج الجزء الأعلى من قرص الشمس من أفق ذلك البلد (زاية أكثر بقليل من صفر) ينتهي وقت الفجر بشروق الشمس، بينما نجد أنَّ بداية الفجر والعشاء مرتبطين بموقع ضوء الشمس من الأُفق وليس بموقع الشمس ذاتها مباشرة، فعلامة بداية وقت الفجر هي طلوع الشفق الأبيض، وعلامة بداية وقت العشاء هي مغيب الشفق الأحمر، والمعلوم أنَّ انكسار الضوء مرتبط بالعوامل الجوية، وهذا قد يختلف من يوم لآخر باختلاف الطقس، مما جعل الفلكيِّين يختلفون في تحديد زاوية الشمس لتحديد وقتي العشاء والفجر.
وهذا ما قرَّره ابن تيمية رحمه الله تعالى حيث قال: (فمن أراد أن يأخذ حصَّة العشاء من حصة الفجر، إنما يصحُّ كلامه لو كان الموجب لظهور النور وخفائه مجرد محاذاة الأُفق التي تعلم بالحساب. فأمَّا إذا كان للأبخرة في ذلك تأثير، والبخار يكون في الشتاء والأرض الرطبة أكثر مما يكون في الصيف والأرض اليابسة، كان ذلك لا ينضبط بالحساب، وفسدت طريقة القياس الحسابي).[4]
وفيما يتعلق باختلاف مطالع الهلال يرى ابن تيمية رحمه الله تعالى أنَّ رؤية أهل الشرق رؤية لأهل الغرب وليس العكس، وهذا ما قرَّره الفلكيُّون المعاصرون. وعلَّق على رأي الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، والذي يقضي بأنَّ اختلاف المطالع بحسب مسافة القصر بأنه ليس له علم بهذا الفن، يعني علم الهيئة (الفلك). قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فإنه متى رؤي في المشرق وجب أن يرى في المغرب ولا ينعكس)[5]، وقال: (وأمَّا الهلال فطلوعه ورؤيته بالمغرب سابق؛ لأنه يطلع من المغرب، وليس في السماء ما يطلع من المغرب غيره، وسبب ظهوره بعده عن الشمس، فكلما تأخر غروبها ازداد بعده عنها، فمن اعتبر بعد المساكن مطلقاً لم يتمسك بأصل شرعي ولا حسي)[6]. ولهذا أفتى الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى مسلمي أمريكا بأن يتحرُّوا رؤية الهلال بأنفسهم، وألا يعتمدوا على رؤية السعودية إلا في الإثبات، وأما في النفي فلا، لأنهم في الغرب، والسعودية في الشرق.
وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله أنَّ علماء الهيئة يستطيعون حساب أوقات الكسوف والخسوف، وأنَّ الكسوف لا يحدث إلا وقت الاستسرار، وأنَّ الخسوف لا يحدث إلا وقت الإبدار، وما قرَّره لا يختلف كثيراً عمَّا قرأتُه في صفحة ناسا (وكالة الفضاء الأمريكية) حيث قرأتُ فيها أنَّ الكسوف لا يحدث إلَّا عند ولادة الهلال، وأنَّ الخسوف لا يحدث إلا ليلة الإبدا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ( ومن معرفة الحساب الاستسرار والإبدار )، وقال أيضاً: (كما يُعرف وقت الكسوف والخسوف، فإن الشمس لا تكسف في سنة الله التي جعل لها إلا عند الاستسرار، إذا وقع القمر بينها وبين أبصار الناس على محاذاة مضبوطة، وكذلك القمر لا يخسف إلا في ليالي الإبدار على محاذاة مضبوطة لتحول الأرض بينه وبين الشمس، فمعرفة الكسوف والخسوف لمن صح حسابه مثل معرفة كل أحد أن ليلة الحادي والثلاثين من الشهر لا بد أن يطلع الهلال، وإنما يقع الشك ليلة الثلاثين، فنقول الحاسب غاية ما يمكنه إذا صح حسابه أن يعرف مثلاً أنَّ القرصين اجتمعا في الساعة الفلانيَّة، وأنَّه عند غروب الشمس يكون قد فارقها القمر، إمَّا بعشر درجات مثلاً، أو أقل، أو أكثر. والدرجة جزء من ثلاثمائة وستين جزءاً من الفلك).[7]
ويوجد حساب لمنازل القمر لستة ألا سنة إلا أنَّ الخطأ  في الحساب أكبر كلما كان الزمن في الماضي البعيد أو المستقبل البعيد، عالم الفلك الأمريكي المتقاعد فريد اسبيناك الذي ظل يزود ناسا بحساب الكسوف والخسوف منذ عام 1978م، له حساب لمنازل القمر لستة آلاف سنة ألفان منها قبل الميلاد في؛ موقع فريد اسبيناك » منازل القمر لستة آلاف سنة.
عند متابعة ولادة الهلال في موقع ناسا لاحظتُ أنَّها تحدث في أي ساعة من ليل أو نهار، ولهذا لا يكون الاعتماد عليها مفيداً في أكثر الأحيان، وتفيد مسألة الولادة في حالة ما إذا كانت بعد مغيب يوم التاسع والعشرين، على أن يكون تحديد التاسع والعشرين برؤية هلال الشهر المكتمِل، فحيئذ نتأكد من نفي الرؤية. وقد حدث هذا في رمضان الماضي حيث كانت ولادة الهلال يوم 30 أغسطس 2008م الساعة 19:58 بتوقيت غرينتش 22:58 بتوقيت مكة المكرمة.
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنَّ استسرار القمر إذا كان ما بين الدرجة والاثنتي عشر درجة من درجات الدائرة قبل المغيب فلا يمكن تقرير امكانية الرؤية ولا نفيها، لا يقيناً ولا بظن غالب، وذكر أنَّ الرؤية تستحيل في حدود الدرجة الواحدة، ومعنى ذلك أنَّ رؤية الهلال تستحيل إذا كانت الولادة بعد المغيب. قال في الفتاوى: (بل إذا كان بعده مثلاً عشرين درجة فهذا يُرى ما لم يحل حائل، وإذا كان على درجة واحدة فهذا لا يرى، وأما حول العشرة فالأمر فيه يختلف باختلاف أسباب الرؤية)[8].
ولهذا أفتى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في مسألة رؤية الهلال أنَّه لو استفاضت الرؤية قبل الولادة فإنَّها تُرد، وقال لأنَّ هذا لا يُمكن في السُنَّة التي أجرى الله عز وجل عليها الخلق، وقال هذه الدعوى مثل دعوى أنَّ الشمس تُشرق الثانية ليلاً، ولا شك أنَّ الشيخ يقصد البلاد المعتدلة، لأنَّ هذه الظاهرة موجودة في المناطق القريبة من القطبين.
ومن الحالات التي يُتأكَّد فيها بنفي إمكانية الرؤية حالة ما إذا غاب القمر قبل مغيب شمس يوم التاسع والعشرين. وفي هذه الحال قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن الحاسب: (وإن قال: إنه يضبط حاله من حين وجوب الشمس إلى حين وجوبه، فإنما يمكنه أن يضبط عدد تلك الدرجات لأنَّه يبقى مرتفعاً بقدر ما بينهما من البعد، أمّا مقدار ما يحصل فيه من الضوء، وما يزول من الشعاع المانع له ...(كلام غير واضح) فهذا لا يقدر عليه أبداً )[9]. يأتي الوجوب بمعنى السقوط، ويُقال وجبت الشمس يعني غربت.
وما قرَّره ابن تيمية رحمه الله هو ما أفتى به كثير من العلماء المعاصرين، وهو أنَّ الحساب الفلكي يؤخذ به في بعض الحالات المتعلقة بنفي بداية الشهر، وأنه لا يؤخذ به في النفي ولا في الإثبات في كثير من الحالات، ولا فرق بين مفهوم الدرجة بعد الاستسرار الذي تحدث عنه ابن تيمية وما يُسمَّى حديثاً بولادة الهلال، لأنَّ الاستسرار هو الوقت الذي يقابل فيه الوجه المظلم من القمر الأرض، والإبدار هو الوقت الذي يقابل فيه الوجه المضئ من القمر الأرض. وقد قرَّر علماء الفلك المعاصرون أنَّ عُمُر الهلال ليس هو العامل الأقوى في تحديد إمكانية الرؤية، وأنَّ العامل الأقوى هو زاوية القمر-الأرض- الشمس إضافة إلى عوامل أخرى.
وقرر ابن تيمية رحمه الله تعالى إمكانية معرفة ما إذا كان الهلال موجوداً فوق الأفق أم لا، وإمكانية معرفة مقدار ارتفاعه عن الأفق بالحساب ليلة التاسع والعشرين، ولكنه يرى اشتراط الرؤية لبداية الشهر: ( فإذا قُدِّر أنهم حددوا ارتفاعه عند مغيب الشمس، لم يكن في هذا ما يدلُّ على ثبوت الرؤية ولا انتفائها )[10]، وتُقدَّر الدرجات الفلكية بالساعات الزمنية، وذلك لأنَّ الأرض تدور حول محورها في كل ساعة بمقدار خمس عشرة درجة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (بين ابتداء العمارة من المشرق ومنتهاها من المغرب مقدار مائة وثمانين درجة فلكيَّة، وكل خمس عشرة فهي ساعة معتدلة، والساعة المعتدلة هي ساعة من اثنتي عشر ساعة باللَّيل أو النهار إذا كان الليل والنهار متساويين – كما يتساويان في أوَّل الربيع الذي تسميه العرب الصيف، وأوَّل الخريف الذي تسميه الربيع – بخلاف ما إذا كان أحدهما أطول من الآخر)[11].
وقد نصَّ ابن تيمية رحمه الله تعالى على أنَّ كروية الأرض ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، ويرى ابن تيمية رحمه الله تعالى أنَّ السموات السبع محيطة بالأرض، وأنَّ الجنة محيطة بالسماوات، وأنَّ العرش مثل القبة، ويرى ابن تيمية أنَّ الأسفل في الشكل الكروي هو المركز، وأنَّ الأعلى فيه هو المحيط.
وأبعد من زعم أن الأرض مسطحة، وليس هذا موضع بيان خطأ هذا القول، ولكن يكفي لإثبات كروية الأرض أن الشمس تُرى عند الشروق والغروب في الأفق على مستوى النظر وليس في الأعلى، وهي قطعاً في العلو للناظر إليها من ذلك الأفق، وكذا تُرى السُحب بعضها في المستوي العلوي العمودي للنظر وبعضها أقل من ذلك وبعضها في الأفق بمحاذاة النظر في شكل نصف كروي إذا نظرنا إليها من كل الجوانب.
قال في الفتاوى: (اعلم أن الأرض قد اتفقوا على أنها كرية الشكل وهي في الماء المحيط بأكثرها)[12]. وقال أيضاً: (والأفلاك مستديرة بالكتاب والسنة والإجماع)[13]. وقال: (وأما العرش فإنه مقبب؛ لما روي في السنن لأبي داوود عن جبير بن مطعم قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله! جهدت الأنفس وجاع العيال، وذكر الحديث إلى أن قال: ((إنَّ الله على عرشه، وإنَّ عرشه على سماواته وأرضه كهكذا)) وقال بأصبعه مثل القبّة)[14].
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في بيان أن محيط الشكل الكروي هو الأعلى وأن مركزه هو الأسفل: (فمن المعلوم باتفاق من يعلم هذا أنَّ الأفلاك مستديرة كرية الشكل، وأنَّ الجهة العليا هي جهة المحيط وهي المحدب، وأن الجهة السفلى هي المركز، وليس للأفلاك إلا جهتان العلو والسفل فقط)[15]. وقال فيما يشبه قانون نيوتن المعروف في جاذبية الأرض: (وكما أنَّ ما يهبط إلى جوف الأرض يمتنع صعوده إلى تلك الناحية – لأنها عالية – فترد الهابط بعلوها، كما أنَّ الجهة العليا من عندنا ترد ما يصعد إليها من الثقيل فلا يصعد الثقيل إلا برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من الهبوط، فكذلك ما يهبط من أعلى الأرض إلى أسفلها - وهو المركز – لا يصعد من هناك إلى ذلك الوجه إلا برافع يرفعه يدفع به ما في قوته من الهبوط إلى المركز، فإن قُدِّر أنَّ الدافع أقوى كان صاعداً به إلى الفلك من تلك الناحية)[16]
واستدل على كروية السموات بقول الله عز وجل :{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ}، مفسراً ذلك بأن الشكل الوحيد الذي ليس في أضلاعه تفاوت هو الشكل الكروي حيث قال: (وهذا إنما يكون فيما يستدير من أشكال الأجسام دون المضلعات من المثلث أو المربع أو غيرهما، فإنَّه يتفاوت لأنَّ زواياه مخالفة لقوائمه، والجسم المستدير متشابه الجوانب والنواحي، ليس بعضه مخالفاً لبعض)[17].
واستدلَّ على كروية الجنة بقول النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: ((إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة))، وقال لايمكن أن يكون الشئ أعلى وأوسط في نفس الوقت إلا في الشكل الكروي حيث قال: (فقد أخبر أن الفردوس هي الأعلى والأوسط، وهذا لا يكون إلا في الصورة المستديرة، فأما المربع ونحوه فليس أوسطه أعلاه، بل هو متساوٍ)[18].
والبشر لا يستطيعون أن يشاهدوا إلا ما تحت السماء الدنيا من نجوم وأفلاك، لأنَّه لا يستطيع إنسان أن ينفذ من أقطار السموات والأرض إلا بإذن من الله عز وجل، كما عُرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء السابعة. وليس المقصود بالسلطان في الآية العلم، كما أفتى بذلك الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى، وذلك لقول الله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ} بعد قوله سبحانه وتعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}، وأما القمر والكواكب التي زعم البعض أنَّهم وصلوا إليها فكلُّها تحت السماء الدنيا، ولا يوجد ما يدل على عدم إمكان الوصول إليها من القرآن والسنَّة.
وعلماء الفلك يقولون بوجود عدد ضخم من النجوم. وقدَّروا عدد المجرَّات بعشرات المليارت. في عام 1999م كان تقدير وكالة الفضاء الأمريكية ناسا للمجرَّات ب125 مليار مجرة، وفي المجرة الواحدة توجد مئات الملايين من النجوم. وعلماء الفلك لا يعرفون من الكواكب إلا حوالي 300 كوكباً خلف المجموعة الشمسية حسب قول اد ويلر بقسم علوم الفضاء بناسا، وذلك لأنَّ النجوم مضيئة بذاتها، وأمَّا الكواكب فيُحتاج في رؤيتها إلى التلسكوبات والمركبات الفضائية لتصويرها أو إلى تحليلات حسابية معقَّدة للإشارات الضوئية الصادرة من النجوم البعيدة. فرغم تقدُّم علم الفلك بتقدُّم وسائل العلم الحديثة، إلا أنَّ علم الفلك لا يزال محدوداً. وعُلماء الفلك لا يعرفون من الفضاء المُشاهد إلا العُشر فقط، فسبحان الخلَّاق العليم {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}.
ولا معنى لتأويل ما ورد في الأدلَّة من وجود سبع أرضين بطبقات الأرض لأن معرفة الكواكب لا تزال محدودة، والأدلة تدل على وجود سبع أرضين كما في قول الله تعالى: {الله الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ الله عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}. قال اد ويلر بقسم علوم الفضاء بناسا (حتى الآن وبالرغم من أننا اكتشفنا أكثر من 300 كوكب (وراء النظام الشمسي) إلَّا أننا لم نكتشف بعد أي كواكب شبيهة بالأرض) وذلك عندما أطلقت إدارة الطيران والفضاء الأمريكية (ناسا) التلسكوب كبلر يوم الجمعة 9 ربيع الأول 1430هـ الموافق 6 مارس 2009م لاستكشاف جانب من مجرة درب التبانة على أمل معرفة ما إذا كانت هناك كواكب أخرى شبيهة بالأرض.
احتمال أن تكون الأرض مركز الكون بعيد لأنها تدور حول الشمس وما يدور حول شيء آخر لا يمكن أن يكون مركزاً، إذ المركز لابد أن يكون ثابتاً لا يغير موضعه، كما أن القول بأن الشمس هي مركز الكون بعيد، فهي مركز المجموعة الشمسية فقط، ولا يمكن أن تكون الشمس مركز الكون لأنها تدور حول مركز مجرتنا درب التبانة، ويحتمل أن يكون مركز الكون أرضاً أخرى فيها نار جنهم، لأنها أسفل سافلين، والأسفل في الشكل الكروي هو المركز كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ولعل تصوُّر ابن تيمية رحمه الله تعالى بمركزية الأرض هو الذي جعله يظنُّ أن سجين في قعر الأرض وذلك في قوله: (وأنَّ المركز الذي هو باطن ذلك وجوفه، وهو قعر الأرض، هو سجين وأسفل سافلين)[19].
والجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، ولورود أنَّ سجين في أسفل سافلين في الأرض السفلى عن بعض السلف، وفي حديث البراء بن عازب: (فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى) رواه أحمد في مسنده، فإذا كان الأعلى والأسفل في الشكل الكروي هو المحيط والمركز، فالأرض السفلى هي مركز الكون، والله تعالى أعلم.
وما نُقل عن بعض السلف عن مركزية الأرض لا يتعدى كونه اجتهاداً وفكرة، ولا يوجد نصٌ قطعيٌ من الكتاب والسنة، قال الإمام أبو الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي من أعيان العلماء المشهورين بمعرفة الآثار والتصانيف الكبار في فنون العلوم الدينية من الطبقة الثانية من أصحاب أحمد: (فكرة الأرض مثبتة في وسط كرة السماء، كالنقطة في الدائرة. يدل على ذلك أن جرم كل كوكب يُرى في جميع نواحي السماء على قدر واحد، فيدل ذلك على بعد ما بين السماء والأرض من جميع الجهات بقدر واحد، فاضطِّرار أن تكون الأرض وسط السماء)[20].
ولعل هذا الخطأ في تصور مركز الكون لا يزال إلى يومنا هذا، وذلك لأن علماء الفلك عندما يتحدثون عن بعد حافة العالم المرئي فإنهم يتحدثون عن بعده من الأرض مما يوهم بمركزية الأرض، وقولهم الكون المرئي إشارة إلى محدودية علمهم، وقد اختلفوا في بعد الحافة لاختلافهم في طريقة حسابها، فمنهم من قال إنها تبعد 13.77 مليار سنة ضوئية وهو عُمُر الكون، ومنهم من قال إنها تبعد 45,6 مليار سنة ضوئية، وهذه حسابات لا يدخل فيها تمدد الكون وتوسعه وغير ذلك من العوامل المهمة حسب النظريات الحديثة.
وإذا كانت النجوم بتلك الضخامة التي تعادل الأرض مرات عديدة حيث ورد في صفحة ناسا أن قطر الشمس يعادل قطر الأرض مائة مرة، والكون فيه ذلك العدد الضخم من النجوم، وكلها تحت السماء الدنيا، فماذا يسوى حجم الأرض أمام الكون الفسيح؟ وماذا يسوى حجم الإنسان؟ ولكن مع ذلك يطغى الإنسان ويتكبر {ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚ بَنَاهَا}.
والشمس من النجوم الصغيرة ولكنها تبدو كبيرة لأنها أقرب نجم إلينا، وذلك لأننا نعيش في مجرة درب التبانة، وفي المجموعة الشمسية. وقدَّر الفلكيُّون كما في الموقع الرسمي لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا عدد النجوم في مجرة درب التبانة بأكثر من مائة مليار نجمة، ويُقدَّر عرضها بمائة ألف سنة ضوئيَّة. وعلماء الفلك يقولون بجريان الشمس مع كل المجموعة الشمسية حول مركز مجرة درب التبانة، ويقولون إن دورانها حول مركز المجرة يكتمل في 230 مليون سنة. ويقول علماء الفلك عندما ينظر الشخص العادي إلى السماء بالعين المجرَّدة فإنَّه غالباً ما يرى النجوم التي في أحد الأذرع اللولبيَّة الطويلة الأربعة من مجرة درب التبانة، وأنَّ الذراع التي تُرى تعتمد على وقت الرؤية من السنة.
ولك أن تتخيَّل إذا استطعت حجم السماء الدنيا التي تحوي كل تلك المليارات من المجرات والنجوم – إذا صح الحساب ولم يكن ثمة وسط عاكس كما يقول البعض -، ولا تسأل بعد ذلك عن حجم السماء الثانية بله السابعة، فما بالك بالجنة التي تحيط بكل السماوات السبع {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}، جعلني الله وإياك من أهلها {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}.

عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
هلسنكي، فنلندة
الأحد 11 ربيع الأول 1430هـ الموافق 8 مارس 2009م

المصادر

[1] مجموع الفتاوى (ج9/ص129)، دار عالم الكتب، الرياض 1412هـ 1992م.
[2] مجموع الفتاوى (ج5/ص475)، الطبعة السابقة.
[3] مجموع الفتاوى (ج5/ص468)، الطبعة السابقة.
[4] الفتاوى (ج25/ص208)، الطبعة السابقة.
[5] مجموع الفتاوى (ج25/ص104)، الطبعة السابقة.
[6] مجموع الفتاوى (ج25/ص105)، الطبعة السابقة.
[7] الفتاوى (ج25/ص185)، الطبعة السابقة.
[8] مجموع الفتاوى (ج25/ص186)، الطبعة السابقة.
[9] مجموع الفتاوى (ج25/ص188)، الطبعة السابقة.
[10] مجموع الفتاوى (ج9/ص116)، الطبعة السابقة.
[11] مجموع الفتاوى (ج5/ص468)، الطبعة السابقة.
[12] مجموع الفتاوى (ج5/ص150)، الطبعة السابقة.
[13] مجموع الفتاوى (ج5/ص150)، الطبعة السابقة.
[14] مجموع الفتاوى (ج5/ص151)، الطبعة السابقة.
[15] مجموع الفتاوى (ج6/ص565)، الطبعة السابقة.
[16] مجموع الفتاوى (ج6/ص572)، الطبعة السابقة.
[17] مجموع الفتاوى (ج25/ص194)، الطبعة السابقة.
[18] مجموع الفتاوى (ج25/ص194)، الطبعة السابقة.
[19] الفتاوى (ج25/ص196)، الطبعة السابقة.
[20] الفتاوى (ج25/ص195-196)
، الطبعة السابقة.

pdf
رجوع إلى قسم ثقافة ومعارف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق