حكم المواقيت في هذه المناطق

المحتويات       سبب كيفية التقدير

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على أَشرف المرسلين وعلى آله وصحبهِ أَجمعين.
تمهيد
المقصود بشمال وجنوب الأرض؛ البلاد ذات خطوط العرض العالية الدرجات، وهي البلاد التي تقع فوق خطي العرض 48o شمالاً و 48o جنوباً.
وتقع ضمنها المناطق التي وصفها الفقهاء بمثل قولهم: "البلاد التي ينعدم فيها العشاء والفجر"، وقولهم: "التي لا يغيب فيها نور الشفق كبلاد بلغار"، ونحو ذلك من تعبيرات السابقين، وذلك لأنَّ علامتي العشاء والفجر تختفيان في البلاد ذات خطوط العرض العالية الدرجات الواقعة ما بين 48o  و65.42o شمالاً وجنوباً.
ولا يختفي الشروق والغروب إلا في المناطق التي تقع فوق خط عرض 65.42o شمالاً وجنوباً، فيستمر النهار أو الليل لثلاثة أيام أو أسبوع أو أسبوعين أو شهر أو شهرين أو أكثر حسب خط العرض إلى ستة أشهر عند القطبين حيث لا يوجد بشر.
في هذه المناطق يطول النهار جداً صيفاً ويقصر جداً شتاءاً، وكلَّما كانت المنطقة ذات خط عرض أعلى صار النهار أطول صيفاً، ويزداد طولاً في منتصف الصيف، وأقصر شتاءاً، فيصبح قصيراً جداً في منتصف الشتاء.
وحسب خط العرض والقرب من منتصف الصيف يكون طول النهار، فيصل طول النهار إلى أكثر من ثلاث وعشرين ساعة في منتصف الصيف في بعض البلاد، وفي بعضها يصل إلى ثلاثة أيام فأكثر إلى أن يصير طوله قرابة الستة أشهر عند القطبين.
وفي الشتاء يصل طول النهار إلى أقل من ساعة في منتصف الشتاء، وفي بعضها يستمر الليل إلى ثلاثة أيام فأكثر إلى أن يصير طوله قرابة ستة أشهر عند القطبين التي لا يوجد فيها بشر.
حكم المواقيت في هذه المناطق
تُقدَّر أوقاتُ الصلاة والصوم طوال السنة في هذه البلاد بالمكان الذي يتقاطع فيه خط طول البلد المراد تقدير الأوقات فيه بخط عرض مكة وهو 21.3891o ش.
وإذا أخذنا في التقدير بخط طول البلد المراد تقدير الوقت فيها وخط عرض مكَّة، فإنَّ الظهر يصير بالعلامة المحليَّة والفوارق بين الصلوات فوارق مكَّة، وذلك لأن وقت الظهر واحد على خط الطول الواحد بغض النظر عن خط العرض.
الدليل على أن حكم هذه المناطق التقدير حديث الدجال، فقد سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم عن مدة لبث الدجال؟ فقال: ( أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم .قلنا: يا رسول الله أرأيت اليوم الذي كالسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، ولكن اقدروا له. قلنا: يا رسول الله فما سرعته في الأرض؟ قال كالغيث استدبرته الريح) رواه مسلم.
فدلَّ الحديث على وجوب الصلوات في اليوم الأول من أيام الدجال قبل أوقاتها المعتادة، لأنَّ اليوم إذا أُطلق في اللُّغة فالمراد به نهار وليلة، وأما إذا قُرن اليوم بالليلة، كأن يُقال يوم وليلة، فالمراد به النهار فقط، وحديث الدجال أطلق اليوم على الذي كسنة، فدل على أن فيه نهار وليل، وأن جميع الأوقات موجودة فيه.
وسؤال الصحابة رضي الله عنهم يدلُّ على أنَّهم فهموا أنَّ علامات الصلوات الخمس موجودة ولكنَّها متباعدة جدَّاً، كما في مسند الإمام أحمد: ( فذلك اليوم الذي هو كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم وليلة؟ )، وكما في رواية ( أتكفينا فيه خمس صلوات؟ ) وكما في رواية (أتكفينا فيه صلاة يوم؟) والمراد هنا بلا شك يوم اعتيادي بمقدار أربعٍ وعشرين ساعة.
آيات وأحاديث مواقيت الصوم والصلاة عامَّة من حيث الزمان والمكان، خُصِّصَ هذا العموم بحديث الدجال، والقياس على حديث الدجال يخصِّص المناطق ذات خطوط العرض العالية الدرجات.
وعلَّة هذا القياس اختلال المواقيت، وهي علة ظاهرة ومنضبطة ومناسبة للحكم لتضمنها حكم ومقاصد أوقات الصلاة والصوم، وحديث الدجَّال نصَّ على تقدير الصَّلاة ولم ينص على تقدير الصوم فيُقاس على الصَّلاة، وكذلك نص الحديث على اليوم الذي كسنة ولم ينص على اليوم الذي كشهر والذي كأُسبوع فيقاسان عليه، وكذا يقاس كل يوم اختلت فيه العلامات على اليوم الذي كسنة.
قال النَّووي رحمه الله في شرح مسلم: ( وأما الثاني الذي كشهر، والثالث الذي كجمعة، فقياس اليوم الأول أن يقدر لهما كاليوم الأول على ما ذكرناه، والله أعلم ) [1].
ومما يفيد أن اليوم الأول الذي كسنة فيه علامات الصلوات الخمس قول النووي رحمه الله: ( فقال القاضي وغيره: هذا حكم مخصوص بذلك اليوم شرعه لنا صاحب الشرع. قالوا: ولولا هذا الحديث، ووكلنا إلى اجتهادنا، لاقتصرنا فيه على الصلوات الخمس عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام)، المصدر السابق.
وقال الكمال ابن الهمام رحمه الله تعالى: ( فقد أوجب أكثر من ثلثمائة عصر قبل صيرورة الظل مثلاً أو مثلين وقس عليه ) [2].
وقال الإسنوي رحمه الله تعالى: ( فيستثنى هذا اليوم مما ذكر في المواقيت، ويقاس اليومان التاليان له)، [3].
وقال الرملي رحمه الله تعالى: ( واعلم أن محل كونها خمساً في اليوم والليلة في غير أيام الدجال، أما فيها فقد ورد أنَّ أولها كسنة وثانيها كشهر وثالثها كجمعة، والأمر في اليوم الأول بالتقدير ويقاس به الأخيران بأن يحرر قدر أوقات الصلاة وتصلى، وكذا الصوم وسائر العبادات الزمانية وغير العبادة كحلول الآجال، ويجري ذلك فيما لو مكثت الشمس عند قوم مدة) [4].
وبين ابن تيمية رحمه الله أن الصلوات في اليوم الأول من أيام الدجال تكون قبل وقتها المعتاد فقال: ( والمواقيت التى علَّمها جبريل عليه السلام للنبي صلَّى الله عليه وسلم وعلَّمها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، حين بين مواقيت الصلاة، وهى التى ذكرها العلماء فى كتبهم، هى فى الأيام المعتادة.
فأمَّا ذلك اليوم الذى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم (يوم كسنة) وقال (اقدروا له قدر) فله حكم آخر. يبيِّن ذلك أنَّ صلاة الظهر في الأيام المعتادة لا تكون إلا بعد الزوال وانتصاف النهار، وفي ذلك اليوم يكون في أوائل اليوم بقدر ذلك).
إلى قوله: ( والمقصود أنَّ ذلك اليوم لا يكون وقت العصر فيه إذا صار ظل كل شىء لامثله ولا مثليه، بل يكون أول يوم قبل هذا الوقت شىء كثير. وكما أنَّ وقت الظهر والعصر ذلك اليوم هما قبل الزوال، كذلك صلاة المغرب والعشاء قبل الغروب. وكذلك صلاة الفجر فيه تكون بقدر الأوقات فى الأيام المعتادة. ولا يُنظر فيها إلى حركة الشمس، لا بزوال ولا بغروب ولا مغيب شفق ونحو ذلك.
وقول الصحابة رضي الله عنهم (يا رسول الله أرأيت اليوم كالسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ فقال لا، ولكن اقدروا له . أرادوا اليوم والليلة).
إلى قوله: ( وأيضاً إذا عُلم أنهم يقدِّرون لثلاث صلوات قبل وقتها المعتاد عُلم بطريق اللزوم أنَّهم يقدِّرون للمغرب والعشاء. ووقوع ذلك في النهار كوقوع صلاتي المغرب والعشاء قبل الزوال من ذلك اليوم) [5].
فإن قيل إنَّ العلَّة في التقدير في حديث الدجال هي انعدام العلامات في كل يوم اعتيادي بمقدار أربعٍ وعشرين ساعة من اليوم الأول الذي بمقدار سنة، فيُقال هذه علة غير مناسبة، وليس فيها غير مراعاة مقصد واحد وهو أن نصلي خمس صلوات ونصوم مرة واحدة خلال كل يوم اعتيادي.
ومن شروط العلة أن تكون مناسبة، بمعنى أن تحتوي على المقاصد والحكم من تشريع الحُكم، كما أنَّ السفر وهو علة جواز الإفطار في نهار رمضان مظنة المشقة.
ويظهر أنَّ هذا القياس قطعيٌ  إلا أنه خفي، لأن القطعي هو ما قُطع فيه بنفي الفارق، فلا يُشترط أن يكون جلياً، لأن الجلي هو ما يُفهم من النص دون حاجة إلى دراسة ونظر مثل قياس الأولى الذي هو في حُكم المنصوص، والخفي هو ما يحتاج إلى دراسة ونظر وتأمُّل، ولكن بعد التأمُّل قد يُقطع بصحَّتِه.
فالمسائل الخفية قد تكون قطعية لأن خفاءها قد يكون بسبب عدم اشتهار النص، فيفتي بعضهم بخلافه لعدم ورود النص إليهم، وكما أن بعض المسائل العقلية القطعية بدهية مثل الكل أكبر من الجزء، وبعضها يحتاج إلى دراسة ونظر مثل بعض القوانين الرياضية التي تحتاج إلى إثبات وبرهان.

المصادر

[1] شرح النووي على مسلم (ج18/ص66)، الناشر؛ دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الثانية، 1392.
[2] رد المحتار على الدر المختار (ج1/ص364)، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1412هـ-1992م.
[3] رد المحتار على الدر المختار (ج1/ص365)، الطبعة السابقة.
[4] نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي (ج1/ص362)، دار الفكر، بيروت، 1404هـ/1984م.
[5] مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية ص 38-39، ت؛ عبد المجيد سليم ومحمد حامد الفقي، الناشر؛ مطبعة السنة المحمدية - تصوير دار الكتب العلمية. 
pdf
المحتويات       سبب كيفية التقدير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق