أيهما أصدق، التحليل السليم، أم الحس العام؟

رجوع إلى قسم ثقافة ومعارف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
عندما يركب الإنسان فرساً أو سيارةً أو قطاراً فإنه يرى الأشياء من حوله متحرِّكة في الاتجاه المعاكس لحركة المركوب، ولكنَّ التحليل العقلي يقطع بأنَّ المركوب هو المتحرِّك بالنسبة لما حوله من أشياء، وذلك عند الجمع بين المحسوسات قبل وبعد الركوب.
وقد فسَّر كوبرنيك الحركة التراجعية للمريخ بمرور المريخ في دورة حول الشمس قرب الأرض وأن سرعة المريخ أقل من سرعة الأرض، ويمكن شرح ذلك بمرور قطار سريع بمحاذاة قطار بطيء متحرِّك في نفس الاتجاه بحيث يبدو للناظر من القطار السريع أن البطئ يرجع إلى الخلف.
نيكولاس كوبرنيك (1474م – 1543م) هو واضع نموذج المجموعة الشمسية المقبول في الوسط العلمي المعاصر، وهو النموذج الذي ألغى نموذج بطليموس (90م – 168م) لتفسير ظاهرة الحركة التراجعية للمرِّيخ.
والصور التي تبدو متحرِّكة في شاشات الأجهزة، هي في الحقيقة عدَّة إطارات للصور تتدرج فيها الصور والخلفيات بتدرج الحركة، ويظهر كل إطار بعد الآخر بتردُّد معيَّن فيتسبب في رؤية الصور وكأنها متحركة.
فلا يستطيع الحس أن يشاهد ظاهرة اختفاء الخلفية بسبب الذبذبة العالية، ويشاهد الصور التي في وبِمواضع مختلفة كحركات، وإذا تغيَّرت الخلفية مع ذلك تدريجيَّاً أحسَّ المشاهد أنَّ الصور تنتقل من موضع لآخر.
والصور الساكنة على الشاشات تظهر بتردُّد عالٍ (فترات زمنية صغيرة)، فلا يستطيع الحس مع تلك الذبذبة مشاهدة اختفاء الصورة، سواء كانت نصاً مكتوباً أم صورة ثابتة على الجهاز.
وإذا كان الضوء ينطفئ بذبذبة أقل من عشرين هيرتز (عشرين مرة في الثانية)، فإنَّ الإنسان يرى ظاهرتي الإضاءة والانطفاء، وأما إذا زادت الذبذبة عن العشرين بقياس مدة الإضاءة والانطفاء معاً (أربعين بقياس كلٍ على حده) فإنَّ الإنسان لا يرى إلا ضوءاً خافتاً إذا كان التردُّد قريباً من العشرين هيرتز، وكلما زاد التردُّد ازداد الضوء لمعاناً في حس الإنسان، وقد أجرينا تجربتين في معامل جامعة متروبوليا للعلوم التطبيقيَّة بفنلندة تثبت هذه المفاهيم.
وعندما يكتب الإنسان على لوحة المفاتيح فهو يظنُّ بسبب حسِّه أنَّ الجهاز يستقبل إشارة الضغط على كلِّ المفاتيح في آنٍ واحد، وهذا بمقياس حس الإنسان، بينما في الواقع يُرسل الجهاز إشارات في أوقات مختلفة لكل مفتاح في لوحة المفاتيح بمقياس سرعة الجهاز لقراءة إشارة الضغط على المفتاح، وهذا هو مفهوم تعدد المهام في أنظمة التشغيل.
فمهوم تعدد المهام في أنظمة التشغيل هو أداء عدة وظائف في آن واحد في حس الإنسان والتي غالباً ما تكون في أوقات مختلفة بمقياس سرعة الجهاز، وله أمثلة عديدة؛ ومنها تشغيل عدة برامج في نفس الوقت، فهي في نفس الوقت بمقياس حس الإنسان، بينما في الواقع وبمقياس الجهاز يتم التشغيل في أوقات مختلفة.
ولا يرى الإنسان الموجات الكهرومغنطيسية إلا التي تقع أطوال موجاتها في المدى مابين (700-400) نانو متر (النانو كلمة لاتينية وتعني 10-9)، أو بتعبير آخر بتردد ما بين (428.6 – 750 ) تيرا هيرتز (بالمليار مرَّة في الثانية)، وهي موجات الضوء المرئي، وهي ما بين الأشعة الحمراء والبنفسجية. 
وما تحت ال 700 نانو متر هي الأشعة تحت الحمراء، وما فوق ال400 نانو متر هي الأشعة فوق البنفسجية، وأما الموجات الكهرومغنطيسية التي خارج هذه التردُّدات فلا يمكن رؤيتها، ومنها موجات الراديو والليزر والأكس والمايكرو والغمَّا.
وثبت علمياً من خلال التحليل العقلي السليم المبني على التجارب أنَّ الإنسان يسمع الأصوات التي تقع تذبذباتها ما بين (20 – 20000) هيرتز (طرقة في الثانية)، من طرقات وضغط الهواء على طبلة الأُذن، وهكذا يسمع الإنسان الأصوات الصادرة من الناس ومن الأجهزة، وعلى أساس التذبذبات يتم معالجة الأصوات وتنقيتها من التشويشات الناتجة عن تداخلات عديدة في أجهزة الاتصالات والموصِّلات بأنواعها، ولا يسمع الإنسان الأصوات التي خارج هذا النطاق من التردُّدات.
وأحد قوانين نيوتن الثلاثة المعروفة في علم الحركة والسكون في أحد أجزائه يقرِّر بأنَّ الجسم المتحرِّك بسرعة ثابتة في خط مستقيم لا يحتاج إلى قوة دفع، وهذا مخالف للإحساس العام، إلا أنَّه ثابت بالتحليل العقلي السليم المبني على اعتبار كل ما يتعلَّق بالقانون من محسوسات.
ومما يرجِّح صحة قانون نيوتن للحركة حديثاً حركة الأقمار الصناعية حول الأرض، لأنَّها تتحرك من غير قوة دافعة، والأصل في حركتها أنَّها بسرعة ثابتة في خط مستقيم، إلَّا أنَّ قوة جاذبية الأرض تجعلها في حركة دائرية حول الأرض باستمرار، وتستمد الأقمار الصناعية الطاقة اللازمة لتشغيل الإلكترونيات التي تُسخدم في الاتصالات وتحليل الإشارات من الشمس عبر الخلايا الشمسية.
ولهذا فإنَّ أفضل سرعة للسيارة خفيفة الوزن من ناحية استهلاك الوقود هي سرعة 60 كلم/ساعة، فعند بداية حركة السيارة يحتاج السائق إلى زيادة ضغط على معجِّل السيارة لزيادة قوة الدفع لتعجيل السيارة، وهي سرعة غير ثابتة، وإذا زادت السرعة عن ال60 فإنَّ ضغط الهواء وقوة الاحتكاك تزداد، فيحتاج السائق إلى زيادة قوة الدفع بزيادة الضغط على معجِّل السيارة، مما يزيد من استهلاك الوقود، وذلك لأجل أن تساوي القوَّة الدافعة القوة المعاكسة وهي قوة ضغط الهواء واحتكاك الإطارات.
ونظرية أنشتاين تُخالِف الإحساس العام، وأصل النظرية النسبية لأنشتاين هي أن سرعة الضوء ثابتة، وأنَّ الزمن والمسافة متغيِّران بتغيُّر السرعة، ولا يظهر هذا الأثر إلا في السرعات العالية جداً المقاربة لسرعة الضوء، فإذا تحرَّك الجسم بسرعة أقرب أو مثل سرعة الضوء فإن الزمن ينقص، وكذلك الفضاء ينكمش.
وتُسمَّى نظريَّة انشتاين بالنظرية النسبية الخاصة، وهي غير النسبية التي تقرِّر أنَّ الزمن في الفضاء الكوني مختلف عن الزمن على الأرض ولكنها تفترض أنَّ الزمن مطلق ويجري بالتساوي دون أية علاقة بأي مؤثر خارجي، فهذه النسبيَّة معروفة قبل نظرية انشتاين.
فالتحليل السطحي المبني على الاعتداد بالحس العام يرفض النظرية النسبيَّة الخاصَّة، لأنَّ الحس العام يرى الزمن شيئاً ثابتاً لا يتغير وكذلك المسافة.
ولهذا أُعطيت للزمن وحدة مرجعيَّة وهي الثانية، وأُعطيت للمسافة وحدة مرجعيَّة وهي بهذا المعيار المتر، وعُرِّفت السرعة بناءاً على مفهومي المسافة والزمن، وكانت وحدة السرعة مُشتقَّة من وحدتي الزمن والمسافة (متر/ثانية)، فسرعة الضوء بهذا المعيار هي 3*810 متر/ثانية.
إلا أنَّ نظرية انشتاين يدلُّ عليها التحليل العقلي السليم المبني على اعتبار كل المحسوسات في إطارات مرجعية مختلفة، وهي مقبولة فيما يُسمَّى بالمجتمع العلمي، كما أنَّ التحليل العقلي السليم يرجِّح أنَّ السرعة هي المرجع للزمن وليس العكس، لأنَّ السرعة مرتبطة بالحركة.
وأصل إحساسنا للزمن ناتج عن حركة الشمس والأرض والأفلاك، فبهذا نعرف الليل والنهار والشهر والسنة؛ {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَ‌ٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (والليل والنهار وسائر أحوال الزمان تابعة للحركة؛ فإنَّ الزمان مقدار الحركة؛ والحركة قائمة بالجسم المتحرِّك) [1].
ولإزالة اللبس عن إشكالية وحدات القياس، يُمكن إعطاء السرعة وحدة مرجعيَّة، ولنسميها حركة بدلاً من متر/ثانية، وحينئذ يمكن اعتبار وحدة الزمن متر/حركة، فتكون سرعة الضوء حيئذ 3*810 حركة.
ولتوضيح نسبيَّة الزمن بناءاً على نظرية انشتاين ظهرت جدليَّة التوأمين، وهي تفرض أنَّ التوأم الذي سافر إلى الفضاء على مركبة تسير بسرعة تقارب سرعة الضوء سوف يجد عندما يعود إلى الأرض أنه أصغر من توأمه الذي تركه على الأرض قبل الرحلة.
فكلَّما زادت سرعة التوأم الفضائي كلما تباطأت حركة ساعته بالنسبة للشخص الأرضي، وإذا ما وصلت سرعة المركبة الفضائية إلى سرعة الضوء فإنَّ الشخص الأرضي سوف يجد أنَّ ساعة الشخص الفضائي توقَّفت عن الحركة.
وهذا التباطؤ في ساعة الفضائي ليس بسبب خلل في الساعة وإنما نتيجة لسرعته، أي أن الزمن توقَّف وأصبح صفراً من وجهة نظر التوأم الأرضي عندما أصبحت سرعة المركبة مثل سرعة الضوء.
التحليل العقلي السليم أصدق من الحس العام، لأنَّه مبني على تحليل عدَّة محسوسات بالعقل، والتحليل غير السليم يعتمد على بعض المحسوسات دون أُخرى.
والعلم التجريبي مبني على المشاهدة والتجربة، والتجربة هي للإحساس تحت ظروف معيَّنة مختلفة عن الإحساس العام.
ولا يمكن في العُلوم التطبيقية الوصول للمعلومة الصحيحة المبنيَّة على التحليل العقلي السليم إلا عن طريق الإحساس؛ {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
أفبعد كل هذا يجحد الماديُّون الذين يؤمنون بالحس والمشاهدة ما لا يمكن إدراكه بمجرَّد الحس والمشاهدة مما دلَّ عليه العقل والتحليل العقلي السليم المبني على المشاهد والمحسوس.
ومما أخبرت به الرسل من المغيِّبات ما يثبت بالتحليل العقلي السليم لبعض المحسوسات كوجود الجن، والسحر، والعين، وعذاب القبر ونعيمه.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
هلسنكي، فنلندة
الجمعة 10 صفر 1430 هـ الموافق 6 فبراير 2009م

المصادر

[1] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج6/ص588)، تحقيق؛ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، الناشر؛ مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، عام النشر؛ 1416هـ/1995م.
pdf
رجوع إلى قسم ثقافة ومعارف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق