حُكم الإقامة في دار الكفر والتجنس بجنسيتها

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيلهم إلى يوم الدين.
في هجرة المسلم من دار الإسلام إلى دار الكُفر، قال الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى ما معناه؛ أن الهجرة إلى دار الإسلام إذا كانت مشروعة استحباباً أو وجوباً لمن أسلم في دار الكفر مع كونها موطنه، فإنَّ الهجرة من دار الإسلام التي هي موطن المسلم أقبح من بقاء من بقي في دار الكفر من المسلمين.
والموطن والوطن هو بلد المولد والنشأة والأرحام والعشيرة والقبيلة، وأما الوطن السياسي فهو تبع له.
وأما دخول الإسلام كثيراً من البلاد بالهجرة كالسودان وأكثر دول إفريقيا وكإندونيسيا وماليزيا، فقد كانت هجرة جماعية عشائرية بخلاف الهجرات الحالية الفردية التي ثبت ضررها على المسلمين عامة وأبنائهم خاصة.
هذا عن الهجرة من دار الإسلام، وأما الهجرة إلى دار الإسلام فهي واجبة إذا لم يكن المسلم قادراً على التزام شعائر دينه في دار الكفر مع القدرة على الهجرة، ومستحبة إذا كان قادراً على التزام شعائر دينه في دار الكفر مع القدرة على الهجرة، وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى اتفاق الفقهاء على ذلك وأنه القول الذي لا يسوغ القول بخلافه.
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: (وأما الهجرة من دار الكفر سواء كانت دار حرب أو دار صلح وهدنة، فنسوق فيها كلام أهل العلم وأدلتهم ... إلى قوله: وكلام أهل العلم في هذه المسألة كثير، متفقون على الوجوب إذا عجز عن إظهار دينه، واستحبابه إذا كان قادراً على ذلك، وليس لأحد خروج عما قالوا، واستدلوا عليه وعللوه. يبقى علينا: ما هو إظهار الدين، وما هو الدين؟ ... إلخ) [1].
ولأن الفقهاء تحدثوا في مسألة الهجرة عن دار الإسلام ودار الكفر، فلابد من تعريف الدارين.
فدار الإسلام في تعريف كثير من الفقهاء هي الدار التي يكون فيها الإسلام ممكناً بحُكم المسلمين وإقامتهم للدين حتى ولو كان غالب أهلها كفار.
وأما دار الكفر عند كثير من الفقهاء فهي الدار التي يحكمها كفارٌ ويحكمونها بالكفر وإن كان غالب أهلها مسلمون.
ويُحكم الكفار بأحكام الإسلام في دار الإسلام في مسائل المُعاملات لأن فيها تحقيق المصالح الدنيوية للبشر جميعاً، ولا يُلزمون بالعبادات ولا يُكرهون على شيء من الأمور الدينية.
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن الدار التي تُحكم بالكفر وغالب أهلها مسلمون قسم ثالث وسماها الدار المركبة، وفي تقسيم ابن تيمية رحمه الله تعالى فوائد في تفاصيل أحكام الدور فهو أنفع، والله تعالى أعلم.
وإذا أقام السلطان المُسلم الشهادتين حتى مع وجود بدع مكفرة لا تنقض أصل الشهادتين وأقام الصلاة فقد أقام الدين حتى ولو لم يُقم ما دون الصلاة من واجبات.
ويكون ذلك بدعوة غير المسلمين إلى الشهادتين، ودعوة المسلمين إلى التوحيد والإيمان والصلاة، والنهي عن الشرك والكفر وترك الصلاة.
يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الخروج على حكام الظلم والفسق: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)، وقوله: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان) وقوله: (إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين)، وقوله: (إن أمر عليكم عبد مجدع يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا)، ولقول الله تعالى ذكره: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.
سواءٌ كانت الدار مركبة أو كانت دار كفر فإنَّ الهجرة منها إلى دار الإسلام مستحبة إذا كان المسلم قادراً على التزام شعائر دينه فيها وكان قادراً على الهجرة إلى دار الإسلام، وهذا ما أفتت به عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن الهجرة كما في البخاري ومسلم، وهذا ما نص عليه سائر الفقهاء، أذكر منهم الإمام الشافعي في الأم وابن قدامة في المغني وابن حجر في الفتح ونقل هذا عن ابن العربي والخطابي رحمهم الله تعالى، وهذا ما أفتى به ابن تيمية رحمه الله تعالى في بلاد ماردين والتي جعلها من قسم الدار المركبة لأن غالب أهلها مسلمين.
قالت عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن الهجرة: (لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، واليوم يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية)، أخرجه البخاري (٣٩٠٠) واللفظ له، ومسلم (١٨٦٤) [2].
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:  (ودلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن فرض الهجرة على من أطاقها إنما هو على من فتن عن دينه بالبلد الذي يسلم بها; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لقوم بمكة أن يقيموا بها بعد إسلامهم منهم العباس بن عبد المطلب وغيره إذ لم يخافوا الفتنة (وكان يأمر جيوشه أن يقولوا لمن أسلم إن هاجرتم فلكم ما للمهاجرين، وإن أقمتم فأنتم كأعراب، وليس يخيرهم إلا فيما يحل لهم)) [3].
وقال ابن حجر رحمه الله في تعليقه على قول عائشة رضي الله عنها:  (أشارت عائشة إلى بيان مشروعية الهجرة وأن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه أن من قدر على عبادة الله في أي موضع اتفق لم تجب عليه الهجرة منه وإلا وجبت، ومن ثم قال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها لما يترجى من دخول غيره في الإسلام) [4].
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى؛ (هل تدخل الأقليات الإسلامية في هذا الحديث؟) فقال: (تدخل كالبلاد، لو كانت الأعداد قليلة، كالقرية، إذا كان الأقلية يظهرون دينهم، ويستطيعون إقامة الشعائر الدينية من توحيد الله وإقام الصلاة والدعوة إلى الخير، لم تلزمهم الهجرة، ولا تجب عليهم الهجرة. أما إن كانوا على خطر، لا يستطيعون إظهار دينهم، فإنها تجب عليهم إن استطاعوا. أما إذا لم يستطيعوا، فالله يرضى عنهم سبحانه وتعالى)، كما في التسجيل التالي:
وقال الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى: (وقد ذكر أهل العلم أنه يجب على الإنسان أن يهاجر من بلد الكفر إلى بلد الإسلام إذا كان غير قادر على إظهار دينه. وأما إذا كان قادراً على إظهار دينه، ولا يُعارَضُ إذا أقام شعائر الإسلام؛ فإن الهجرة لا تجب عليه، ولكنها تستحب، وبناءً على ذلك يكون السفر إلى بلد الكفر أعظم من البقاء فيه، فإذا كان بلد الكفر الذي كان وطن الإنسان؛ إذا لم يستطع إقامة دينه فيه؛ وجب عليه مغادرته، والهجرة منه، فكذلك إذا كان الإنسان من أهل الإسلام، ومن بلاد المسلمين؛ فإنه لا يجوز له أن يسافر إلى بلد الكفر؛ لما في ذلك من الخطر على دينه، وعلى أخلاقه، ولما في ذلك من إضاعة ماله، ولما في ذلك من تقوية اقتصاد الكفار)[5].
لابن القيم رحمه الله تعالى كلام في زاد المعاد فيه إطلاق القول بوجوب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وورد ذلك أيضاً في كلام بعض المتأخرين.
واستدل من أطلق القول بوجوب الهجرة بأدلة منها حديث؛ (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها).
ومنها حديث؛ (من جامع المشركَ وسكنَ معَه فهو مثلُه)، وقد بوَّب له أبو داوود رحمه الله بباب الإقامة بأرض الشرك.
ومنها حديث: (لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم فمن ساكنهم أو جامعهم فهو مثلهم).
ومنها حديث؛ (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قيل يا رسول الله ولم؟ قال لا تراءى ناراهما).
ومنها حديث؛ (لا تستضيئوا بنار المشركين).
أما حديث عدم انقطاع الهجرة فليس فيه دليل على أنها واجبة في كل الأحوال، فغاية ما فيه أن الهجرة الواجبة والمستحبة باقية إلى قيام الساعة كل بشروطها التي ذكرها الفقهاء.
ومن المعاصرين من استدل على وجوب الهجرة مطلقاً بتعليق ابن حجر على حديث؛ (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) أنه ليس على ظاهره بإجماع، وهذا خطأ في فهم مراد ابن حجر رحمه الله تعالى لأنه نص على أن الهجرة مستحبة إذا كان المسلم قادراً على التزام شعائر دينه وكان قادراً على الهجرة.
وأما حديث؛ (من جامع المشركَ وسكنَ معَه فهو مثلُه) فيظهر أنه فيمن اتخذ المُشرك جليساً وجاراه وسكن معه في بيت واحد، لأن من معاني جامع في اللغة اجتمع معه ووافقه، ولشدة الوعيد الوارد في الحديث، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخير المسلمين في الهجرة، قال صاحب عون المعبود: (وَالْمَعْنَى مَنِ اجْتَمَعَ مَعَ الْمُشْرِكِ وَوَافَقَهُ وَرَافَقَهُ وَمَشَى مَعَهُ) [6].
ومن العلماء من خصه بالمُستضعف، والمعنى السابق أولى لدلالة الكلمة والتركيب، (قال العلقمي في الكوكب المنير شرح الجامع الصغير حديث سمرة إسناده حسن وفيه وجوب الهجرة على من قدر عليها ولم يقدر على إظهار الدين أسيراً كان أو حربياً) [7].
ويُحمل حديث؛ (لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم فمن ساكنهم أو جامعهم فهو مثلهم) إما على مساكنة المشركين في بيت واحد أو على مشركي مكة ومن كان يفتن المسلمين، لأن "ال" في المشركين قد تكون للعهد، والمعنى الأول أظهر من حيث المعنى اللغوي لكلمة ساكن.
والعلماء إنما تأولوا هذه الأحاديث لثبوت أن الهجرة ليست واجبة في كل الأحوال، وتقدم قول الشافعي رحمه الله تعالى في إذن النبي صلى الله عليه وسلم لمن لم يخف الفتنة بالبقاء في مكة، وتخييره من أسلم في الهجرة، وتقدم فتوى عائشة رضي الله عنهما، وفتاوى الصحابة أولى لمعرفتهم بالحال.
عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الهجرة فقال ويحك إن الهجرة شأنها شديد فهل لك من إبل قال نعم قال فتعطي صدقتها قال نعم قال فهل تمنح منها قال نعم قال فتحلبها يوم ورودها قال نعم قال فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئا)، أخرجه البخاري (2633) واللفظ له، ومسلم (١٨٦٥) [8].
قال ابن حجر رحمه الله تعالى في تعليقه على هذا الحديث: (والهجرة المسؤول عنها مفارقة دار الكفر إذ ذاك والتزام أحكام المهاجرين مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان ذلك وقع بعد فتح مكة؛ لأنها كانت إذ ذاك فرض عين ثم نسخ ذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم-: لا هجرة بعد الفتح، وقوله: اعمل من وراء البحار مبالغة في إعلامه بأن عمله لا يضيع في أي موضع كان) [9].
وأما حديث؛ (لا تستضيؤوا بنار المشركين) فقد ذكر العلماء له معانٍ غير عدم مجاورتهم في ديارهم، قال ابن رجب رحمه الله تعالى فيما ذكره من معاني الحديث: (لا تستشيروا المشركين في أموركم) [10].
وإذا صح أن المعنى النهي عن مجاورة المشركين في السكن ووجوب الهجرة من دار الشرك، فهو مقيد بما سبق من نصوص صحيحة تدل على أن الهجرة واجبة فقط على من لم يقدر على التزام شعائر دينه.
وكذلك تأولوا حديث البراءة ممن بقي بين أظهر المشركين على من فُتن عن دينه، لما سبق من أدلة، ولأن سبب الحديث يدل على أنه فيمن لم يهاجر من دار الحرب، فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل وقال: "أنا بريء من كل مسلم مقيم بين أظهر المشركين، قالوا: يا رسول الله، لم؟ قال: لا تتراءى ناراهما")، سنن الترمذي (1604) [11].
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: (وقد روى النسائي من طريق بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده مرفوعا "لا يقبل الله من مشرك عملاً بعدما أسلم أو يفارق المشركين" ولأبي داود من حديث سمرة مرفوعاً "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"، وهذا محمول على من لم يأمن على دينه، وسيأتي مزيد لذلك في أبواب الهجرة من أول كتاب المغازي إن شاء الله تعالى) [12].
وكذلك تأولوا (لا تتراءى ناراهما)، قال الخطابي رحمه الله تعالى: (في معناه ثلاثة وجوه؛ قيل معناه؛ لا يستوي حكمهما، وقيل معناه؛ أن الله فرق بين داري الإسلام والكفر، فلا يجوز لمسلم أن يساكن الكفار في بلادهم حتى إذا أوقدوا ناراً كان منهم حيث يراها، وقيل معناه؛ لا يتسم المسلم بسمة المشرك ولا يتشبه به في هديه وشكله) [13].
وتفسيره (لا تتراءى ناراهما) على المعنى الثاني لا يعني أنه يقول بوجوب الهجرة بإطلاق، فقد قال الخطابي رحمه الله تعالى: (كانت الهجرة فرضاً في أول الإسلام على من أسلم لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع، فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجاً فسقط فرض الهجرة إلى المدينة وبقي فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدو) [14].
حمل حديث لا تتراءى ناراهما على إطلاقه يلزم منه ما قد لا يلزم كنهي أهل الذمة عن مجاورة المسلمين ونهي المسلم عن مجاورة المشركين في دار الإسلام التي غالب أهلها كفار كالهند عندما كانت دار إسلام.
والبراءة في الحديث هي البراءة من دمه لبقائه بين المشركين المُحاربين وتعريض نفسه للإزهاق، قال الملا علي قاري: (قال التوربشتي: يحتمل أن يكون المراد منه البراءة من دمه وأن يكون البراءة من موالاته) [15].
ولا تجب الموالاة الدنيوية لمن ترك الهجرة الواجبة، ولكن تجب نصرتهم في الدين مع استثناء نصرتهم على من لهم عهد مع المسلمين، قال جل ثناؤه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ}.
وقد نص بعض علماء الهند على أنها تحولت إلى دار كفر ومع ذلك لم يهاجروا منها ولا أظن أنهم أفتوا بوجوب الهجرة منها، منهم صديق حسن خان رحمه الله تعالى.

ضرر الهجرة من دار الإسلام

ما سبق من بيان الحكم الشرعي للهجرة خاص بمن كانت دار الكفر موطنه، وأما هجرة المسلم من دار الإسلام إلى دار الكفر فلا تجوز لا سيما مع وجود خطط لإضلال أبناء المُسلمين.
فإذا كانت الهجرة مشروعة استحباباً أو وجوباً لمن أسلم في دار الكفر مع كونها موطنه، فالهجرة من دار الإسلام إلى دار الكفر أقبح من بقاء من بقي في دار الكفر ممن كانت دار الكفر موطنه، وهذا في حال غير الضرورة والحاجة.
الغرب فيه ما هو أسوأ من غيره من دور الكفر في جوانب وبعض دول الشرق كالهند والصين فيهما ما هو أسوأ من جوانب أخرى.
وكثيرٌ ممن يهاجر إلى بلاد الغرب من المسلمين يهاجر طالباً اللجوء أو الحماية، ولا يخفى ما في ذلك من إذلال المسلم للكافر، ولا يجوز للمسلم أن يكون أوضع من الكافر إلا لضرورة ملجئة أو حاجة ماسة وبشرط أن يأمن فتنته عن دينه بسبب ذلك.
قال الأصفهاني رحمه الله تعالى: (الموالاة على ضربين؛ موالاة الأرفع للأوضع، وذلك باستخدامه إياه ورعايته والحماية عليه، وموالاة الأوضع للأرفع، وذلك بالخدمة، والذي نُهي عنه المسلم جزماً هو أن يوالي الكافر موالاة الأوضع للأرفع) [16].
من مخاطر الإقامة في الغرب خصوصاً؛ حق الدولة في نزع الطفل من والديه بسبب الضرب، وولع كثير من عوام المُسلمين بالحضارة الغربية لتقدم الغرب التقني والمادي، ووجود خطط مدروسة لإضلال المُسلمين وأبنائهم.
وقد علمتُ من بعض من هاجر إلى السويد بطلب اللجوء أن السويد اشطرت عليهم الإقرار بمحرمات كالعلاقة المحرمة بين رجلين وامرأتين، ولا أدري هل هذا أمر جديد أم أنني لم أعرفه بسبب عدم دخولي أوروبا بطلب لجوء، فقد كان دخولي فنلندا بتأشيرة إمام مسجد قبل انتقالي إلى السويد للدراسة.
ويحرم إقرار أمر محرم حتى ولو كان على سبيل المعاريض، وذلك لاتفاق العلماء على تحريم المعاريض في الحقوق، والعقود من الحقوق.
والناس يهاجرون إلى الغرب فرادى، وغالباً ما تكون الأسر المسلمة من غير أرحام، وقد لا يجدون جيراناً ولا أصدقاء من المسلمين، والطفل بحاجة إلى تربية المجتمع إضافة إلى والديه، وقد يسكن المسلم في مكان بعيد عن المركز الإسلامي وجميع المصليات في المدينة، فلا يتمكن مع أولاده من حضور إلا الجمعة والقليل من الصلوات.
وفي المدارس قد لا يجد الطفل أصدقاء غير أولاد الكفار فيتأثر بهم وقد يستمر الحال كذلك بعد البلوغ.
لو قارنا هذه المفاسد بالهند مثلاً نجد الخطر في الهند أخف، فتجد الأسر المسلمة في الهند معهم أرحامهم، فيجد أولاد المسلمين أقارب مسلمين في سنهم.
وتجد المسلمين في الهند يسكنون في أحياء خاصة بهم ويدرس أولادهم في مدارس كل أساتذتها وطلابها مسلمون، وبالتالي يسهل على الطفل أن يجد أصدقاء مسلمين في الهند.
ويتربى الأولاد في الهند في بيئة مسلمة، ويُعين الآباء في التربية المساجد والمدارس والأرحام والجيران والأصدقاء، ولعل سبب تحذير العلماء من الهجرة إلى الغرب خاصةً كونُها فردية تعرض الأسر المسلمة للخطر.
فليست كل الهجرات إلى دور الكفر مضرة، فكما سبق فإن الهجرات الجماعية العشائرية كانت مصالحها راجحة، وكذلك هجرة التجار الحضارمة إلى إندونيسيا كانت مصالحها أرجح، وذلك لأن يدهم عليا بخلاف من يطلب اللجوء ويهاجر لأسباب اقتصادية.
ولذا قال السعدي رحمه الله بأن من ينحرف في دار الكفر إنما أُتِيَ من قبل نفسه، ومثَّل على ذلك بوجود الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في مصر أيام الاستعمار، وأنه كان يجهر بسائر أمور دينه بما في ذلك الولاء والبراء.
وذكر الشيخ السعدي رحمه الله تعالى ما سبق من مثال وبيان حكم الهجرة عندما تحدث عن العراق والبحرين لما كانتا تحت الاستعمار البريطاني، وذكر أنهما دور كفر جرياناً على تعريف أكثر الفقهاء لدار الكفر.
ولكن الشيخ السعدي رحمه الله تعالى حذر من العيش في البلاد التي كانت تحت حكم الكفار وبين خطورة الدراسة في مدارسهم، والمعلوم أن العلمانية إنما نشأت في بلاد المسلمين أيام الاستعمار.
فيبدو مما سبق أن بعض العلماء المُعاصرين أرادوا بقولهم بعدم جواز الهجرة إلى دار الكفر أنها مكروهة إما كراهة تنزيه أو كراهة تحريم، وذلك حسب الحال، يدل على ذلك إباحتهم البقاء المؤقت للحاجة، ولا يخفى أن الحكم قد يصل إلى التحريم.
بل حتى الهجرة إلى الغرب فيها بعض المصالح ولكن ضررها راجح ومخاطرها عظيمة، ومن ذلك أنه يُرجى أن يغلب عدد المُسلمين في الغرب في المُستقبل البعيد، وذلك بسبب قلة الإنجاب في الغرب.
إذا كان لدينا في قرية ما ستة عشر شخصاً، نصفهم ذكور، فلا يمكن أن يكون لدينا أكثر من ثماني أسر من هذا العدد من الناس.
فإذا قرر هؤلاء الأشخاص الستة عشر (ثماني أسر) أن ينجبوا طفلاً واحداً فقط، فإنه لن يكون في الجيل الثاني بعد خمس وعشرين سنة إلا نصف العدد؛ ثمانية.
والإنجاب عادة يكون في سن الخامسة والعشرين.
وبالتالي لا يمكن تكوين أكثر من أربع أسر بعد خمس وعشرين سنة، ولكن يمكن أن يكون عدد الأسر أقل إذا كانت نسبة الإناث إلى الذكور غير متساوية.
وهكذا يستمر عدد الناس في تلك القرية في التناقص كل خمس وعشرين سنة.
الغرب أراد حل هذه المشكلة بالهجرة، ولكن كانت الهجرة أكثرها من المسلمين، ومعدل الإنجاب عند المسملين عالٍ جداً (حوالي 8.1)، بينما معدل الإنجاب في الدول الأوربية مجتمعة بين السكان الأصليين حوالي (1.33).
وهذا يعني أن المسلمين سيشكلون أغلبية يوماً ما في الدول الغربية إذا استمرت الهجرة بمعدلات كبيرة واستمرَّ الإنجاب بين المسلمين المهاجرين والغربيين الأصليين بنفس المعدل الذي هو عليه الآن، وذلك لأنَّ المعدَّل المطلوب لكي تحافظ أي ثقافة من الثقافات على نفسها هو 2.1 للإنجاب.
كل مسلم صادق في إيمانه يرجو رفعة هذا الدين وغلبته وظهوره يتمنى أن يكون ازدياد المسلمين في الغرب وسائر بلاد العالم كماً وكيفاً، ونرجو ألا يكون كماً فقط، ونتفاءل خيراً أن تكون هذه الهجرة تمهيداً لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من دخول هذا الدين كل بيت.
والإرهاصات كثيرة، فما من ناحية من نواحي الأرض إلا وللمسلمين فيها وجود، من أقصى شمال الأرض إلى أقصى جنوبها، ومن أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. ولابد أن يتحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
والأحكام السابقة تجري على الغالب، وأما في خصوص من بقي لغرض الدعوة ونحو ذلك؛ فقد قال الماوردي رحمه الله تعالى بأفضلية البقاء في دار الكفر إذا أمن الفتنة لما يُرجى من إسلام غيره. 
وربَّ ضارة نافعة، وقد قال الله عز وجل في حادثة الإفك: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

الجنسية والتجنس

يُقال في التجنس ما يُقال في الإقامة؛ لو كان ترك الجنسية مستحباً أو واجباً لمن كانت دار الكفر موطنه، فطلبها ممن لم تكن دار الكفر موطنه أقبح.
وهذا إذا لم يشتمل التجنس على محرم كالتعهد بقسم أو غير قسم على تقديم ولاء الدولة الكافرة على غيرها من الدول أو قِيَمها على غيرها من القيم.
وحكم الجنسية التلقائية بالميلاد يختلف عن حكم التجنس من جهة أن صاحب الجنسية بالميلاد لم يلتزم من تلقاء نفسه بعقد معين إذا لم يكن قادراً على الهجرة.
ولاختلاف حكم الجنسية بالميلاد وعدم اشتمالها كثير منها على محرم نجد أن العلماء في الهند لديهم جنسيات هندية، وقد نص الشيخ صديق حسن خان رحمه الله على أن الهند صارت دار كفر بعد أن كانت دار إسلام.
وكانت للمسلمين أيام الاستعمار جنسيات صادرة من المُحْتل، وفيمن كان يحمل تلك الجنسيات علماء في مصر والجزائر والسودان وغيرها من بلاد المسلمين، والدول المحتلة التي يحكمها كفار ويحكمونها بالكفر عند أكثر الفقهاء تُعتبر دور كفر.
ويجوز التجنس للحاجة لمن سكن في دار الكفر لغرض مؤقت إذا لم يشتمل التجنس على محرم كالتعهد النصي أو العرفي بتقديم ولاء دولة التجنس على غيرها، والجنسية عقد مفتوح يحق للمواطن إلغاءه متى ما أراد.
فإذا اشتمل التجنس على تعهد بتقديم ولاء الدولة الكافرة على غيرها فإنه محرم، ولا يلزم الوفاء بمحرم، ولكن لا يجوز الدخول فيه ابتداءاً بنية عدم الوفاء به، وذلك لأن الغدر محرم مطلقاً.
فإذا قيل؛ العُرف عند الحُكومات العلمانية تقديم ولاء الأوطان على ولاء الأديان، فهو عقد ملزم، فجوابه؛ أنَّ العرف عندهم هو جواز تبدل المفاهيم بتبدل الحُكومات وأن للشعب أن يختار ما شاء من مباديء ومفاهيم.
ولذا نجد في عُرفهم تقديم الولاء لأحزابهم السياسية على الولاء للحزب الحاكم والحكام من ناحية الأيدلوجيات والزعماء والأعضاء، وهذا مثل تقديم الولاء للدين وأهله.
وأما تقديم ولائهم للوطن على ولائهم لأحزابهم السياسية ككيانات لا كأفراد فلا يُعارض تقديم الولاء للدين على الولاء للوطن لأن الولاء للوطن في أمورٍ دنيوية تتضمن حرية الأديان والمعتقدات.
وهذا العُرف عند الحكومات لا يختص بدول الغرب، بل هو في الهند والصين وزيمبابوي وجنوب إفريقيا وغيرها من دور الكفر، بل هو في بعض الدول المسلمة التي تغلب عقد المواطنة على الدين وتجعل حرمة الأوطان مقدمة على حُرمة الدين.
وكثيرٌ من الدول لا تمنع ازدواج الجنسية، وحسب الاتفاقات الدولية فإن الجنسية الغالبة حال ازدواجها من ناحية واجبات وحقوق المواطنة هي بلد الإقامة، وبعض الحُقوق تسقط بمجرد الإقامة في الخارج وإن لم يحمل المقيم غير جنسية واحدة.
والجنسية أشبه بالإقامة من ناحية أنها علاقة بين المواطن والدولة، ولكن المواطنة فيها حقوق وواجبات أكثر من مجرد الإقامة، فالجنسية علاقة دنيوية في أمور مُباحة إذا لم تشتمل على محرم أو ولاء للكفار.
وفي التجنس شبه بعُرف الموالي الذي كان عند العرب، فيقولون؛ زيد مولى قريش، فهو ولاء للقبيلة لكونه عاش بينهم ونحو ذلك.
والدفاع عن البلد واجب الجند، ومع أنه قد يتوسع ليشمل كل مواطن إلا أنه أمرٌ نادر الوقوع جداً.
وجواز السفر غير الجنسية، فالجواز وثيقة سفر وهوية، ولكن جواز البلد لا يُستخرج إلا للمواطن.
والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لينكشوبنج، السويد
يوم الخميس 24 محرم 1432هـ - 30 ديسمبر 2010م

المصادر

[1] المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ السعدي، الفتاوى، مركز صالح بن صالح الثفافي بعنيزة، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، صفحة (68 – 69).
[2] أخرجه البخاري (٣٩٠٠) واللفظ له، ومسلم (١٨٦٤).
[3] الأم للشافعي (ج4/ص169)، دار المعرفة، بيروت، 1410هـ/1990م.
[4] فتح الباري شرح صحيح البخاري (ج7/ص229)، الناشر؛ دار المعرفة، بيروت، 1379هـ، ترقيم؛ محمد فؤاد عبد الباقي،  إخراج وتصحيح؛ محب الدين الخطيب، تعليق؛ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
[5] شرح رياض الصالحين (ج1/ص21)، دار الوطن للنشر، الرياض، 1426هـ.
[6] عون المعبود شرح سنن أبي داود (ج7/ص337)، المؤلف: محمد أشرف بن أمير بن علي بن حيدر، أبو عبد الرحمن، شرف الحق، الصديقي، العظيم آبادي، الناشر؛ دار الكتب العلمية، بيروتـ الطبعة الثانية، 1415هـ.
[7] عون المعبود شرح سنن أبي داود (ج7/ص338)، الطبعة السابقة.
[8] أخرجه البخاري (2633) واللفظ له، ومسلم (١٨٦٥).
[9] فتح الباري شرح صحيح البخاري (ج7/ص259)، الطبعة السابقة.
[10] مجموع رسائل ابن رجب (2/675)، الناشر؛ الفاروق الحديثة للطباعة والنشر، الطبعة جـ 1، 2/ الثانية، 1424هـ - 2003 م جـ 3/ الأولى، 1424 هـ - 2003 م جـ 4/ الأولى، 1425 هـ - 2004م.
[11] سنن الترمذي (1604).
[12] فتح الباري شرح صحيح البخاري (ج6/ص39)، الطبعة السابقة.
[13] تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (ج5/ص190)، الناشر؛ دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
[14] فتح الباري شرح صحيح البخاري (ج6/ص38)، الطبعة السابقة.
[15] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (ج6/ص319)، الناشر؛ دار الفكر، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2002م.
[16]  تفسير الراغب الأصفهاني (ج2/ص504-505)، تحقيق ودراسة؛ د. محمد عبد العزيز بسيوني، كلية الآداب، جامعة طنطا، الطبعة الأولى.
[17] كتاب أحكام أهل الذمة (ج2/ص768)، تحقيق؛ يوسف بن أحمد البكري و شاكر بن توفيق العاروري، الناشر؛ رمادى للنشر، الدمام - السعودية، الطبعة الأولى، 1418 – 1997م.
pdf

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق