الحمد لله الذي خلق فقدر، ثم شرع فنهى وأمر، أحمده وأشكره على ما أجزل علينا من النعم الظاهرة والباطنة فأكثر، والصلاة والسلام على خير البشر، وعلى الآل والأصحاب والتابع من أهل الخير والأثر.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له لا يزول ملكه ولا يتحول، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل نبي وأكرم مرسل، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها المسلمون، لقد أودع عز وجل في الإنسان من الصفات الحسنة ما يمكنه من عبادة خالقه وعمارة الأرض وصلاح العباد والبلاد، منها حب التنافس والتميُّز والغبطة.
وصفة حب التميّز متفاوتة عند الناس، وهي حسنة جميلة، تحفّز العمل والاجتهاد والكسب والإنتاج والجد وعلو الهمة، ونقصانها يورث الكسل وضعف الهمة.
أيها المسلمون، إنَّ أهم ما يتميَّز به الإنسان أمر دينه وآخرته، فنبيكم ﷺ الذي ميّزه الله عز وجل فجعله أفضل الخلق كانت همته جلّها لآخرته.
ومن حبه للتميز أنه أمر ﷺ أمته أن يسألوا الله عز وجل له المقام المحمود الذي لا ينبغي لغيره، قال الله تعالى ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾.
ومن حبِّ إبراهيم عليه السلام للتميز أنّه لم يكتف لنفسه بجعل الله تعالى له إماماً يُقتدى به في الحنيفيّة والخير، بل دعا لذريته بهذا الخير.
قال الله عز وجل: ﴿وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾.
ومع أنّ سليمان عليه السلام كان متميِّزاً، إذ كان رسولاً ابن رسول وملكاً ابن ملك، فإنّه لم يكتف بذلك، بل سأل ربه ملكاً خالصاً له يتميّز به على سائر الناس، قال الله عز وجل: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾.
أيها المسلمون، حذار من من الهوى والشيطان، فإنه يدخل على الإنسان من أبواب الصلاح ليأمره بالكسل، فيقول إنّ هذه الدنيا فانية لا تستحق التعب والنصب.
فهذا سليمان عليه السلام سأل الله عز وجل تميّزاً دنيوياً وهو الملك والجاه، لعلمه بأنّ الدنيا تخدم الدين، غير أنّ هذه الأمة قد نهيت عن طلب الإمارة والحرص عليها خلافاً للمال لحكم بالغة.
فإنّ قلّة الإمارات العامّة وأهميّتها البالغة تجعل التنافس عليها ممّا يورث شدّة الصراع والشقاق، خلافاً للمال فإنّه أوفر وبه تتقوى الأمّة.
وقد حثّ النبي ﷺ على الغبطة والتنافس في كسب المال لأجل الصدقة فقال في الحديث المتفق عليه (لا حسد إلا على اثنتين رجل آتاه الله الكتاب وقام به آناء الليل ورجل أعطاه الله مالا فهو يتصدق به آناء الليل والنهار).
أيها المسلمون إنَّ المذموم هو طلب الدنيا للدنيا، وأما طلب الدنيا والمال للآخرة والصدقة وفعل الخير فهو محمود، ولذا قال: (فهو يتصدق به) ولم يقل؛ فبنى به أفخر القصور وركب به أرفه المركبات وتفاخر به وتباها.
فالزهد المستحب هو ترك فضول المباح والتوسط في المسكن والمركب والملبس وإنفاق المال، وليس هو طلب الفقر والفرار من الغنى.
عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله ﷺ قَالَ: (لو كان لي مثل أحدٍ ذهباً، لسرّني أن لا تمرّ عليّ ثلاث ليالٍ وعندي منه شيءٌ، إلا شيئٌ أرصده لدينٍ)، متفقٌ عَلَيْهِ.
أيها المسلمون، إنّ القول بتفضيل الفقير الصابر على الغني الشاكر مبتدع محدث، فالأربعة الذين هم أفضل الصحابة رضي الله عنهم ليس فيهم فقيراً، وهم أبوبكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، رضي الله عنهم، بل كان عثمان رضي الله عنه من أغنى أغنياء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
ولا حجة فيما احتج به من فضل الفقير، ومنها قول النبي ﷺ: (يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم بخمسئة عام)، لأنّ هذا قد يكون بسبب الحساب، أو لأنّ أكثر الأغنياء يطلبون المال للدنيا لا لأجل الدين.
وقد بوب الإمام النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب فضل الغني الشاكر، ذكر فيه آيات وأحاديث فضل الإنفاق وحديث لا حسد إلا في اثنتين وحديث أهل الدثور.
عن أبي هريرة رضي الله عنه (أنّ فقراء المسلمين أتوا رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله، قد ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم.
قال وما ذاك؟
قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق.
فقال رسول الله ﷺ: أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟
قالوا: بلى، يا رسول الله.
قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة: ثلاثا وثلاثين مرة.
قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله.
فقال رسول الله ﷺ: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).
أيها المسلمون، اسمحوا لي باستغلال فرصة العطلة لأوجه رسالة للجميع أخص بها الصغار والشباب؛
فلتكن أيها الشاب والصبي متميزاً بين الآخرين في عبادتك لربك، ومعاملتك للخلق، لتكن متميزاً في البيت والشارع والمدرسة والعمل.
لتكن متميزاً في البيت بين إخوانك وأخواتك في كسب رضا والديك ومحبة إخوانك وأخواتك.
ولتكن متميزاً في الشوارع والطرقات والحافلات والمركبات في حسن التصرف والخلق.
ولتكن متميزاً في مدرستك ومكان عملك في دراستك ودرجاتك وعملك وكسبك وإنتاجك ومالك.
وليكن ذلك كله لأجل الدين، ولا تنس نصيبك من الدنيا.
أيها المسلمون، من غير الكسب الدنيوي من شهادات علمية عالية ومال ووظائف هامة، لن يستطع المسلمون في هذه البلاد بناء مساجدهم وتوظيف نشطائهم ودعاتهم، ولا حفظ حقوقهم الدينية والدنيوية.
فبالوظائف الخدمية الهامة يخدم المسلم المجتمع ويرفع عن المسلمين ما قد يقع عليهم من تضييق وتمييز.
وبالجملة فإن الدينا تخدم الدين، ولذا قدم الله عز وجل جهاد المال على جهاد النفس في كثير من آيات الكتاب العزيز.
أخي المسلم، لتكن صاحب همة عالية، فإذا كنت ممن يطلب المال للآخرة وليس للتفاخر والدنيا، فلا تكتف بالقليل، فأعمال البر والخير والدعوة بحاجة إلى مالك.
فهذه البلاد بلاد منتجة، تشجع على العمل والوظيفة والاستثمار، والاستثمار والأعمال الخاصة والمشتركة أفضل في اكتساب المال لمن كان قادراً عليها، من غير تلبس بالحرام والربا.
فالطبيب صاحب العيادة الخاصة أوفر كسباً ممن يعمل عند غيره، وكذا النظاف صاحب شركة النظافة، وقس عليهما المهندس والطباخ وسائر الحرف والوظائف.
أيها المسلمون، ليس الفقير أفضل من الغني، ولا الغني أفضل من الفقير، وإنما الفضل بالنية والعمل، ولكن الغنى أفضل من الفقر.
وطلب الغنى والكسب مرغب فيه إذا كان لأجل الصدقة والدين لا لأجل التفاخر والدنيا والتوسع في متعها الزائلة.
فبالأعمال الصالحة والنوايا فقط يتفاضل الناس.
فمن نوى الصدقة أعطاه الله عز وجل أجرها وإن لم يتصدق.
ومن تصدق رياءً وسمعة لم يجد من أجر صدقته شيئاً.
وقد يتصدق الإنسان بالقليل فيجد الأجر الكثير وقد يتصدق بالكثير فلا يجد من الأجر إلا القليل.
ولو أمكن النظر في القلوب لرأينا أنّ ما في قلوب بعض الفقراء من حب الدنيا أضعاف ما عند بعض الأغنياء.
قال رسول الله ﷺ: (إنّ اللَّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنّما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) رواه مسلم.
أيها المسلمون، إن الحرص على الدنيا لأجل الدنيا والتفاخر بها خطره على الدين عظيم، فتجد طالب الدنيا يطلب الجاه والشرف من السلطان والوظائف العالية والشهادات الرفيعة والمال و سائر أنواع التميز من الحرام.
قال رسول الله ﷺ: (ما ذئبان جائعان إرسلا في غنمٍ بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه).
وليحذر محب التنافس والتميز من الحسد الذي يأكل الحسنات كما تأكل النار الحط.
أخي المسلم، إذا سألت الله عز وجل الدنيا من الجاه والسلطان وسعة الرزق والمال، فلا تنذر، ولا تعد الله عز وجل بتسخير الدنيا للدين ولا بالإنفاق، بل اسأل الله عز وجل أن يعينك على الإنفاق في سبل الخير.
قال الله عز وجل: ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧)﴾.
أيها المسلمون، إنّ من يطلب الدنيا للآخرة لا يسخط إذا حرمه الله عز ما يرغب فيه من أمور الدنيا الفانية، لعلمه بأن الله عز وجل إنما يعطى ويمنع لحكم بالغة.
فإنّ من عباد الله عز وجل من لا يصلحه إلا الغنى فإذا أفقره الله كفر، ومن عباد الله عز وجل من لا يصلحه إلا الفقر فإن أغناه الله عز وجل طغى وتجبر.
قال الله عز وجل: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾.
فلو تساوى الناس في الثراء والكسب والأعمال والوظائف لفسدت الحياة ولما تسخّر بعضهم لبعض لإعمار الأرض، هذا حلاق، وهذا مزارع، وذاك تاجر، وآخر عالم.
قال الله عز وجل: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَاۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّاۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾.
عمر عبداللطيف محمد نور
لوند، السويد
يوم الجمعة ١٣ رجب ١٤٣٦هـ، ١ مايو ٢٠١٥م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق