حب التميز والكسب الدنيوي (خطبة جمعة)

رجوع إلى قسم إرشادات

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق فقدر، ثم شرع فنهى وأمر، أحمده وأشكره على ما أجزل علينا من النعم الظاهرة والباطنة فأكثر، والصلاة والسلام على خير البشر، وعلى الآل والأصحاب والتابع من أهل الخير والأثر.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له لا يزول ملكه ولا يتحول، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل نبي وأكرم مرسل، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها المسلمون، لقد أودع عز وجل في الإنسان من الصفات الحسنة ما يمكنه من عبادة خالقه وعمارة الأرض وصلاح العباد والبلاد، من تلكم الصفات حب التنافس والتميُّز والغبطة.
وحب التميز متفاوت عند الناس، وهي خصلة حسنة جميلة تحفز الجد والاجتهاد والكسب والعمل والإنتاج وعلو الهمة، وانعدامها أو نقصانها يورث الكسل وضعف الهمة.
أيها المسلمون، إنَّ أهم ما ينبغي أن يتميَّز به الإنسان أمر دينه وآخرته، فنبيكم صلى الله عليه وسلم الذي ميزه الله عز وجل فجعله أفضل الخلق كانت همته جلها لآخرته، ومن حبه للتميز أنه أمر صلى الله عليه وسلم أمته أن يسألوا الله عز وجل له المقام المحمود الذي لا ينبغي لغيره، قال تعالى {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا}.
ومن حبِّ إبراهيم عليه السلام للتميز أن الله عز وجل لما جعله إماماً يُقتدى به في الحنيفية والخير، لم يكتف عليه السلام بذلك لنفسه بل دعا الله عز وجل بهذا الخير لذريته.
قال الله عز وجل: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ  قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ  قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ  قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.
ومع أنَّ سليمان عليه السلام كان متميِّزاً، إذ كان رسولاً ابن رسول وملكاً ابن ملك، فإنه لم يكتف بذلك، بل سأل ربه ملكاً خاصاً خالصاً له يتميز به على سائر الناس، قال الله عز وجل: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}.
أيها المسلمون، ليحذر أحدنا وساوس النفس والشيطان، فقد يدخل الشيطان على الإنسان من أبواب الخير والصلاح ليأمره بالكسل، فيقول إن هذه الدنيا فانية لا تستحق التعب والنصب، فهذا سليمان عليه السلام سأل الله عز وجل تميزاً دنيوياً وهو الملك والجاه والسلطان، لعلمه بأن الدنيا تخدم الدين.
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الغبطة والتنافس في كسب المال لأجل الصدقة فقال في الحديث المتفق عليه ((لا حسد إلا على اثنتين رجل آتاه الله الكتاب وقام به آناء الليل ورجل أعطاه الله مالا فهو يتصدق به آناء الليل والنهار)).
أيها المسلمون إنَّ المذموم هو طلب الدنيا للدنيا، وأما طلب الدنيا والمال للآخرة والصدقة وفعل الخير فهو محمود، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق (فهو يتصدق به) ولم يقل؛ فبنى به أفخر القصور وركب به أرفه المركبات وتفاخر به وتباها.
فالزهد المستحب هو ترك فضول المباح والتوسط في المسكن والمركب والملبس، وليس هو طلب الفقر والفرار من الغنى. فالزاهد من كان له مال كثير يصرف أكثره في وجوه الخير ولا يترك لامتاع نفسه منه إلا القليل.
عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: (لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، لَسَرَّنِي أَنْ لاَ تَمُرَّ عَلَيَّ ثَلاَثُ لَيالٍ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ شَيْءٌ أرْصُدُهُ لِدَيْنٍ)، متفقٌ عَلَيْهِ.
أيها المسلمون، إن القول بأن الفقير الصابر خير من الغني الشاكر هو قول مبتدع محدث، فالأربعة الذين هم أفضل الصحابة رضي الله عنهم ليس فيهم فقيراً وليس فيهم من هو من أهل الصفة، وهم أبوبكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، بل كان عثمان رضي الله عنه من أغنى أغنياء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
ولا حجة لهؤلاء في الأحاديث التي احتجوا بها، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم بخمسائة عام)) لأن هذا قد يكون بسبب الحساب، أو لأن أكثر الأغنياء يطلبون المال للدنيا لا لأجل الدين. 
وقد بوب الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين باب فضل الغني الشاكر ذكر فيه آيات وأحاديث فضل الإنفاق وحديث لا حسد إلا في اثنتين وحديث أهل الدثور.
عن أبي هريرة رضي الله عنه ((أن فقراء المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ، قد ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم.
قال وما ذاك؟
قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟
قالوا: بلى، يا رسول الله.
قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة: ثلاثا وثلاثين مرة.
قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)).
أيها المسلمون، اسمحوا لي باستغلال فرصة العطلة لأوجه رسالة للجميع أخص بها الصغار والشباب؛
فلتكن أيها الشاب والصبي متميزاً بين الآخرين في عبادتك لربك، ومعاملتك للخلق، لتكن متميزاً في البيت والشارع والمدرسة والعمل.
لتكن أيها الصبي والشاب متميزاً في البيت بين إخوانك وأخواتك في كسب رضا والديك ومحبة إخوانك وأخواتك.
ولتكن متميزاً في الشوارع والطرقات والحافلات والمركبات في حسن التصرف والخلق.
ولتكن متميزاً في مدرستك ومكان عملك في دراستك ودرجاتك وعملك وكسبك وانتاجك ومالك.
وليكن ذلك كله لأجل الدين، ولا تنس نصيبك من الدنيا.
أيها المسلمون، من غير الكسب الدنيوي من الشهادات العلمية العالية والمال والوظائف الدنيوية الهامة، لن يستطع المسلمون في مثل هذه البلاد بناء مساجدهم ولا تفريغ أئمة مساجدهم ودعاتهم، ولا حفظ حقوقهم الدينية والدنيوية.
فبالشهادة العالية مثلاً قد يتمكن المسلم من الوظائف الخدمية الهامة ليخدم من خلالها المجتمع ويرفع عن المسلمين ما قد يقع عليهم من تضييق وتمييز في التوظيف والعمل.
وبالجملة فإن الدينا تخدم الدين، ولذا قدم الله عز وجل جهاد المال على جهاد النفس في كثير من آيات الكتاب العزيز.
أخي المسلم، لتكن صاحب همة عالية، فإذا كنت ممن يطلب المال للآخرة وليس للتفاخر والدنيا، فلا تكتف بالقليل، فأعمال البر والخير والدعوة بحاجة إلى مالك.
فهذه البلاد بلاد منتجة، تشجع على العمل والوظيفة والاستثمار، والاستثمار والأعمال الخاصة والمشتركة أفضل في اكتساب المال لمن كان قادراً عليها، من غير تلبس بالحرام والربا.
فالعمل الخاص والمشترك أفضل في الجملة من العمل والتوظف عند الآخرين؛ فالطبيب صاحب العيادة الخاصة أوفر حظاً ممن يعمل عند غيره، وكذا المهندس، والنظاف صاحب شركة النظافة أوفر حظاً، وكذا الطباخ الذي يملك مطعماً أو يشارك فيه، وهكذا.
أيها المسلمون، ليس الفقير أفضل من الغني، ولا الغني أفضل من الفقير، وإنما الفضل بالنية والعمل، ولكن الغنى أفضل من الفقر وطلب الغنى والكسب مرغب فيه إذا كان لأجل الصدقة ولأجل الدين، وطلب الغنى لأجل الدنيا والإكثار من متعها والتفاخر مكروه.
فبالأعمال الصالحة والنوايا فقط يتفاضل الناس، فمن نوى الصدقة أعطاه الله عز وجل أجرها وإن لم يتصدق، ومن تصدق رياءاً وسمعة لم يجد من أجر صدقته شيئاً، وقد يتصدق الإنسان بالقليل فيجد الأجر الكثير وقد يتصدق بالكثير فلا يجد من الأجر إلا القليل.
ولو أمكن النظر في قلوب الناس لوجدنا أن بعض الفقراء يحبون الدنيا والمال لأجل الدنيا أضعاف ما عند بعض الأغنياء من حب للدنيا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 
أيها المسلمون، إن الحرص على الدنيا لأجل الدنيا والتفاخر بها خطره على الدين عظيم. فتجد طالب الدنيا يطلب الجاه والشرف من السلطان والوظائف العالية والشهادات الرفيعة والمال و سائر أنواع التميز من الحرام.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ)).
وليحذر محب التنافس والتميز من الحسد الذي يأكل الحسنات كما تأكل النار الحط.
أخي المسلم، إذا سألت الله عز وجل الدنيا من الجاه والسلطان وسعة الرزق والمال، فلا تنذر، ولا تعد الله عز وجل بتسخير الدنيا للدين ولا بالإنفاق، بل اسأل الله عز وجل أن يعينك على الإنفاق في سبل الخير.
قال الله عز وجل: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)}.
أيها المسلمون، إن من يطلب الدنيا للآخرة لا يسخط إذا حرمه الله عز ما يرغب فيه من أمور الدنيا الفانية، لعلمه بأن الله عز وجل إنما يعطى ويمنع لحكم بالغة.
فإن من عباد الله عز وجل من لا يصلحه إلا الغنى فإذا أفقره الله كفر، ومن عباد الله عز وجل من لا يصلحه إلا الفقر فإن أغناه الله عز وجل طغى وتجبر، قال الله عز وجل: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ}.
فلو تساوى الناس في الثراء والكسب والأعمال والوظائف لفسدت الحياة ولما تسخر بعضهم لبعض لإعمار الأرض، هذا حلاق، وهذا مزارع، وذاك تاجر، وآخر عالم.
قال الله عز وجل: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَاۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّاۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
يوم الجمعة 13 رجب 1436هـ، 1 مايو 2015م
لوند، السويد
pdf

رجوع إلى قسم إرشادات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق