الربا في الأوراق النقدية

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن سلك سبيلهم إلى يوم الدين.

المحتويات

١. تمهيد
٢. الربا في العُملات
٣. ربا القروض
٤. الفرق بين ربا القروض وربا البيوع
٥. الشرط الجزائي
٦. علة الثمنية
٧. شبهة حول تحريم الربا
٨. الخاتمة
٩. قائمة المراجع
بسبب قول الفقهاء؛ "الأجناس الربوية" و "الربويات" و "ما يجري فيه الربا"؛ التبس فهم حقيقة الربا على بعضٍ بمن فيهم طلاب علم في زماننا.
ومقصود الفقهاء هو ما يجري فيه ربا البيوع.
ولغموض هذا الاختصار في زمن ضعف الفقه، فيجب أن يستبدل بقول؛ "أجناس ربا البيوع" و "ربويات ربا البيوع" و "ما يجري فيه ربا البيوع". 
فربا القروض يجري في كل شيء بإجماع العلماء، وما اختلف فيه مما قيل عنه استثناء هو استثناء منفصل في حقيقة الأمر.
وذلك لأن القرض في معناه اللغوي لا يكون إلا فيما يعاد لصاحبه، والإعادة تقتضي أن يكن المعاد من نفس جنس المُستَلف وغرضه ومنفعته، والإعادة تقتضي كذلك النسيئة (التأخير).
ولا يُشترط في المُعاد أن تكون له نفس قيمته عند استلافه، وذلك لأن قيمة كل شيء تتغير بالعرض والطلب، والعرض متعلق بالندرة والوفرة.
وحقيقة الربا المحرم لذاته هي القرض الذي جر نفعاً، وهو معنى الربا عند إطلاقه في نصوص الكتاب والسنة.
ولذا أجمع العلماء على قاعدة "كل قرض جر نفعاً فهو ربا".
وأمّا ربا البيوع فهو محرّم لغيره سواء كان نسيئة أو فضلاً، لأنّ ما فيه نسيئة من ربا البيوع لا يُسمى ربا بيوع في حقيقة الأمر إلا إذا اختلف جنس البدل أو غرضه أو منفعته.
فبعض ما يطلق عليه ربا بيوع هو في حقيقته ربا قروض، وإنما أُطلق عليه ربا بيوع مجازاً لأن أجناسه يجري فيها ربا البيوع.
ومعنى قول النبي ﷺ: (إنما الربا في النسيئة) هو أن حقيقة الربا المحرم لذاته لا تكون إلا فيما كان فيه نسيئة (تأخير)، وأن ربا الفضل محرم لغيره، قاله ابن تيمية رحمه الله تعالى.
والنظر يدل على أن ربا البيوع محرم لغيره، وذلك لأن المحرم لغيره لا ضرر في ذاته، وإنما ضرره في كونه ذريعة لغيره مما فيه ضرر.
وواضح أن ربا البيوع لا ضرر فيه في ذاته سواء كان نسيئة أو فضلاً.
فمثال ربا الفضل هو استبدال جرامي ذهب من عيار ١٨ بجرام ذهب من عيار ٢٤ حالاً (يداً بيد).
ومثال ربا النسيئة من ربا البيوع هو استبدال جرامي ذهب من عيار ١٨ بجرام ذهب من عيار ٢٤ مع النسيئة (التأخير).
ربويات ربا البيوع عند الفقهاء هي أصناف معينة من الأموال، والمال في اللغة كل شيء له قيمة.
المنصوص عليها من ربويات ربا البيوع ستة أصناف، أربعة منها أطعمة وهي؛ الحنطة والشعير والتمر والملح، والصنفان الآخران هما النقدان؛ الذهب والفضة، والحنطة والبر والقمح متقاربة.
وقاس كثير من العلماء أصنافاً أُخرى على هذه الأصناف الستة الواردة في السنة، واقتصر الظاهرية على ما ورد في النص، واختلف العلماء الذين قاسوا عليها غيرها في علة القياس وبالتالي في الأصناف المقيسة عليها.
ولا خلاف بين العلماء في تحريم ربا البيوع سواء كان نسيئة أو فضلاً.
وربا القروض كله ربا نسيئة، لأنه لا يتصور قرض بدون نسيئة كما سبق.
فإذا اتّحد صنف البدلين وتماثلا في الغرض والمنفعة مع النسيئة فإنه قرض وإن سماه المتبادِلان بيعاً، فإذا جر نفعاً فهو ربا.
وربا القروض في أجناس ربا البيوع أشد حرمة من غيره، وهو محرم لذاته، وذلك لأن تحريم بيع هذه الأصناف إذا لم تستوف شروطها يدل على أن الربا الحقيقي فيها أشد حرمة من الربا الحقيقي في غيرها.
تحريم ربا القروض في العملات الورقية والمعدنية يرجع إلى سببين؛ أحدهما مجمع عليه، والثاني محل خلاف معروف بين الفقهاء.
ومع أنّ السبب الأول فيه نزاع في بعض تفريعاته وتخريجاته إلا أنّها نزاعات غير مؤثِّرة في حكم ربا القروض البنكية خصوصاً وربا العملات الورقية والمعدنية عموماً، ومنها ما يعد خلافاً غير معتبر.
وأما السبب الثاني؛ فمع كونه محل خلاف إلا أنّه الأرجح.
والسبب الأول هو؛ أنّ ربا القروض البنكيّة (إقراض العُملات الورقية والمعدنيّة) هو من ربا القروض إذا اشترط المقرِض الزيادة، وهو السبب المجمع عليه.
وربا القروض هو ربا الجاهليّة الذي جاءت النصوص بتحريمه، فالآيات والأحاديث التي ورد فيها تحريم الربا في الجملة هي في هذا النوع من الربا.
ولذا اتّفقت المجامع الفقهيّة المعاصرة على تحريم ربا العملات والأوراق النقديّة.
وقد اتّفق الفقهاء على أنّ ربا القروض يجري في كلّ بدلٍ من نفس الصنف والغرض والمنفعة، لأنّ هذا معنى القرض، فالفقهاء متفقون على أنّه لا يختص بالربويات.
السبب الثاني هو؛ أنَّ الأوراق النقدية تعدُّ من الربويات قياساً على الدنانير والدراهم بجامع الثمنية، وهو السبب المختلف فيه بين الفقهاء إلا أنّه الأرجح.
ربا القروض لا يختص بالربويات كما تقدَّم، وذلك لأن ربا الجاهلية الذي جاءت النصوص بتحريمه كان في كل شيء من نفس الجنس والغرض والمنفعة.
إضافةً إلى النصوص الصريحة في تحريم ربا القروض، فتحريمها في كل صنف تماثلت أغراض آحاده ومنافعها محل إجماع، ولم يخالف في ذلك أحد من أهل العلم.
قال ابن حزم الظاهري رحمه الله تعالى: ( مسألة: والربا لا يجوز في البيع، والسلم في ستة أشياء فقط: في التمر، والقمح، والشعير، والملح، والذهب، والفضة - وهو في القرض في كل شيء )[١].
وقال ابن رشد الحفيد: (واتفق العلماء على أن الربا يوجد في شيئين: في البيع، وفيما تقرر في الذمة من بيع، أو سلف، أو غير ذلك.
فأما الربا فيما تقرر في الذمة فهو صنفان: صنف متفق عليه، وهو ربا الجاهلية الذي نهي عنه، وذلك أنهم كانوا يسلفون بالزيادة وينظرون، فكانوا يقولون: أنظرني أزدك، وهذا هو الذي عناه عليه الصلاة والسلام بقوله في حجة الوداع: "ألا وإن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب".
والثاني: "ضع وتعجل" وهو مختلف فيه، وسنذكره فيما بعد.
وأما الربا في البيع فإن العلماء أجمعوا على أنه صنفان: نسيئة، وتفاضل )[٢].
ومما يدل على أن الربا في القروض في كل صنف تماثلت أغراض آحاده ومنافعها إضافة إلى النصوص الدالة على تحريم الربا قاعدة؛ "كل قرض جر نفعاً فهو ربا".
ومع أنَّ رفع هذا القول إلى النبي ﷺ لا يصح؛ إلا أنَّ أدلة الكتاب والسنة تدل عليه، وتعضده الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والأئمة، ويدل عليه المعقول، فهي قاعدة مجمع على مضمونها ولم يخالف فيها أحد من العلماء، وهي عامة ولا تختص بالأجناس الربوية.
والراجح في النفع في قولهم؛ "كل قرض جر نفعاً فهو ربا" أنّه االمشروط المنفصل عن القرض، لقولهم؛ جرّ، ولأنّ ما ليس فيه تماثل لا يسمّى قرضاً.
ولذا فالرّاجح أنّ مبادلة ما اختلفت جودته من غير ربويات ربا البيوع لا بأس به، لأنّه لا يدخل في معنى القرض ابتداءاً، فهو مثل اختلاف المنافع والأغراض الذي هو مذهب الإمام مالك رحمه الله.
المسائل المختلف فيها من ربا القروض لا أثر لها في مسألة ربا القروض البنكية.
فأما غير المعتبر منها فهو خلافهم في الحد الفاصل بين ربا القروض وربا البيوع إذا كان نسيئةً، فبعض الفقهاء أرجع الفرق إلى الصيغة وشكل العقد، وهو قول واهٍ ضعيف، إذ العبرة في العقود بالمعاني وليست بالألفاظ والمباني.
ومع ضعف هذا القول فإنه لا أثر له في حكم القروض البنكية خصوصاً وإقراض العملات الورقية والمعدنية عموماً، لأنَّ أصحاب البنوك يسمونها قروضاً.
وأضعف منه التفريق بين ربا القروض وربا البيوع بالنية إذ لا سبيل لأحد المتعاقدين أن يعرف نية الآخر.
فلا فرق في ربا القروض بينما لو قلت بعتك أو قلت أقرضتك، وإنما الفرق هو أن ربا القروض المجمع عليه هو في اتِّحاد صنف البدلين وتماثلهما في الغرض والمنفعة والجودة مع التأخير والزيادة لأجل الأجل.
ولا أثر لاختلاف القيمة كما تقدّم، إذ لو كان اختلاف القيمة مؤثراً لكان تحريم الربا عبثاً ينزه عنه الشرع، وذلك لأنّ قيمة كل شيء تتغيّر بالعرض والطلب.
فلو كان المبيعان من جنس واحد وتماثلا في الأغراض والمنافع والجودة، فإنّه لا معنى للمبادلة مع التأخير إلا القرض، وهو عقد إرفاق في الأصل، فلا تجوز فيه الزيادة سواء كانت عيناً أو منفعة.
ويصح عقلاً وقوع البيع على مبيعين متّحدين في النوع ولكنهما مختلفين في بعض المنافع والأغراض والجودة مع اختلاف مقدار كلٍ سواء كان حالاً أو نسيئة، ولا ينبغي الخلاف في جوازه حالاً في غير الربويات، وقد أجازه بعضهم نسيئةً في غير الربويات وعدّه بيعاً شرعياً، كالإمام مالك رحمه الله خلا الجودة، ومنعه بعضٌ.
قيل لابن القاسم رحمه الله: (أرأيت إن أسلمت السيف في السيفين إذا اختلفت صفاتهما؟ قال: لا يصلح ذلك في رأيي لأنّ السيوف منافعها واحدة وإن اختلفت في الجودة، إلا أن تختلف المنافع فيها اختلافاً بيناً فلا بأس أن يسلم السيف القاطع في السيفين ليسا مثله في منافعه وقطعه وجودته) [٣].
وقد دلَّ العقل على أنَّ التسميات والألفاظ لا تغير شيئاً من الحقائق والمعاني، ومما يدل على أنه لا أثر للتسميات والألفاظ في تحليل ربا القروض قول الله عز وجل: { ذَ‌ٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا }.
ولهذا خالف بعض الشافعية مذهب الإمام فأجازوا بيع المعاطاة، وهو البيع من غير صيغة بِعتُكَ وقَبِلْتُ ونحوهما، كالنووي رحمه الله الذي نص على جوازه في روضة الطالبين.
والدليل على جواز بيع المعاطاة عموم قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ}، فإنَّ تخصيص بيع المعاطاة من هذا العموم تخصيص بلا دليل.
ولأن الربا في القروض في كل شئ حتى غير الربويات فقد ذهب المالكية والحنابلة إلى تحريم فلس بفلسين نسيئة مع أن الفلوس عندهم ليست من الربويات، ولهذا أجازوا الفلس بالفلسين حالاً، والفلوس كانت تُضْربُ من النحاس.
ولهذا فإنَّ الشيخ السعدي رحمه الله تعالى أفتى بحرمة ربا القروض البنكية مع أنه يرى أن النقود الورقية ليست من الربويات.
وأمّا الإمام الشافعي رحمه الله فإن صح أنّه أجاز الفلس بالفلسين نسيئةً فسبب ذلك هو اعتباره الألفاظ في العقود، وليس لخلافه في أصل تحريم ربا القروض ولا أنه في كل شئ، وقد قال الإمام النووي رحمه الله وهو من الشافعية عن هذا القول المنسوب للإمام: ( وهو شاذ غلط )، وتمام كلامه في آخر هذا الباب.
والقول بجواز الفلس بالفلسين نسيئة عن الإمام الشافعي رحمه الله وارد، وذلك لأنّه يرى أنّ الفلوس ليست من ربويات ربا البيوع، وأصوله تدل على أنّه يجيز الفلس بالفلسين بلفظ البيع ويمنعه بلفظ القرض.
قال ابن تيمية رحمه الله: ( وهو حجة على الشافعي وأحمد في رواية إذ كانوا يجوزون بيع غير الربوي كالموزون غير النقدين بجنسه متفاضلًا ويحرمون ذلك بلفظ القرض. وهؤلاء يجعلون الأحكام تختلف بمجرد اللفظ مع اتحاد المقصود ) [٤].
وما نصّ عليه الإمام الشافعي في الأمّ في جواز السلف في الفلوس إلى أجل ليس في استبدالها بجسنها مع الزيادة بصيغة السلف.
فقول الإمام الشافعي رحمه الله: (ولا بأس بالسلف في الفلوس إلى أجل; لأنَّ ذلك ليس مما فيه الربا) [٥]، ليس هو في سلف الفلس بالفلسين كما ظنّ بعضهم.
فهو في اشتراط قضاء سلف الفلوس بغيرها، لأنّه أورده تحت باب؛ ما جاء في الصرف، وقال بعده؛ (ومن أسلف رجلاً دراهم على أنّها بدينار أو بنصف دينار فليس عليه إلا مثل دراهمه وليس له عليه دينار ولا نصف دينار) [٥].
فأصول الإمام الشافعي تدلّ على أنّه إذا صح عنه الفلس بالفلسين نسيئةً مع التفاضل أنه يجيزه بصيغة البيع ولا يجيزه بصيغة القرض.
ولهذا فإنَّ ابن رشد الحفيد الذي ذكر فيما نقلته عنه سابقاً اتفاق الفقهاء على تحريم ربا القروض مطلقاً ذكر عن الإمام الشافعي جواز التفاضل والتأخير في الصنف الواحد من غير الربويات عندما تحدت عن بيوع الربا.
قال ابن رشد الحفيد في كلامه في ربا البيوع: ( وأما ما يجوز فيه الأمران جميعاً (أعني: التفاضل والنساء)، فما لم يكن ربوياً عند الشافعي. وأما عند مالك فما لم يكن ربوياً ولا كان صنفاً واحداً متماثلاً، أو صنفاً واحداً بإطلاق على مذهب أبي حنيفة ) [٦].
وحجة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى التي ساقها ابن رشد هي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشاً فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة ).
وليس في الحديث حُجَّة لهذا القول لأن الحيوانات تختلف غالباً في الغرض والمنفعة وإن اتفقت في الاسم والصنف، وإنما يحرم الـتأخير والتفاضل في غير الربوي فيما كان صنفاً واحداً متماثلاً على مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى.
فالقاعدة هي أنَّ اتحاد البدلين في الصنف والغرض والمنفعة مع التأخير لا يخرج عن معنى القرض، فإذا كان مع ذلك زيادة عينية أو منفعة كان رباً لأنه قرض جر منفعة.
والحيوانات لا تتماثل غالباً، والأحكام تجري على الغالب الأعم، فلذا كان البعير بالبعيرين بيع شرعي صحيح وليس فيه شبهة قرضٍ جرَّ نفعاً، ولذا بوَّب أبو داوود رحمه الله تعالى للحديث بِ؛ "باب في الرخصة في ذلك".
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: ( قوله: "وقال ابن عباس: قد يكون البعير خيراً من البعيرين" وصله الشافعي من طريق طاوس أنَّ ابن عباس سئل عن بعير ببعيرين فقاله. ) [٧].
وقد اختلفوا في مسائل أخرى لا أثر لها أيضاً في حُكم القروض البنكية؛ كاختلافهم في المشروط عرفاً، وكاختلافهم في غير المشروط، والصحيح أن الزيادة غير المشروطة جائزة لدلالة النصوص على ذلك، وكاختلافهم في حُكم إقراض من عُرف بحُسن القضاء بالزيادة فيه، وكاختلافهم فيما إذا كان شرط الزيادة في الصفة كرد الأجود، وكاختلافهم في رده ببلد آخر.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: ( يحرم كل قرض جر منفعة، كشرط رد الصحيح عن المكسر، أو الجيد عن الرديء، وكشرط رده ببلد آخر، فإن شرط زيادة في القدر حرم إن كان المال ربوياً، وكذا إن كان غير ربوي على الصحيح. وحكى الإمام أنه يصح الشرط الجار للمنفعة في غير الربوي، وهو شاذ غلط ) [٨].
وحول العبرة بالمعاني؛ فلجواز إقراض الذهب، ولأنّه لا يقع إبدال ذهب بذهب حالاً بمثله بغرض البيع، فما ورد في السنّة في الأصناف الستة من قول النبي ﷺ: (مثلاً بمثل، يداً بيد) هو لتأكيد النهي عن ربا الفضل.
يؤكّد ذلك أنّ العلماء يستدلون به على تحريم ربا الفضل، ويستدلون بقوله (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) على تحريم ربا النسيئة من صنفي ربا البيوع.
هذا إضافةً إلى أنّ السنّة لا تنهى عن شيءٍ عبثاً.
ولا يصحّ أن يقال النهي هنا عمّا كان بصيغة البيع والجواز فيما كان بصيغة القرض، لأنّ العبرة في العقود بالمعاني وليست بالأشكال والمباني.
والقول بأنّ الظاهر الحرفي غير مراد ليس خروجاً عن الظاهر، لأنّ المقدّم هو ظاهر الاستعمال، ولذا فلو قال والد لولده؛ إذا لم تشتر التمر فلا ترجع إلى البيت، فإنّه لو جدّ في شراء التمر ولم يستطع ثم لم يعد إلى البيت يكون قد خالف أمر والده.
وقد يتردّد المعنى بين ظاهر الاستعمال وظاهر اللغة، فيجوز حنيئذٍ الاختلاف في معنى الحديث، ومثاله قول النبي ﷺ: (لا يصلينّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة) [٩].
فالقول باشتراط التماثل والتقابض إذا تساوى الجنسان لا يعني تحريم إقراض الذهب والدنانير الذهبية بالإجماع، ولأنّه لا يصح التفريق بين البيع والقرض بالاسم والشكل دون المسمّى والمعنى، فلزم أن يكون الشرط المنصوص عليه حرفياً غير مراد.
ويتضح هذا أكثر بالنظر إلى أنّ البيع المنهي عنه لا يحدث في الواقع، مما يدلّ على أنه خرج مخرج التأكيد على غير ظاهره اللّغوي [١٠]
القرض مما سبق هو كل معاوضة ومبادلة اتحد فيها البدلان في الجنس وتماثلا في المنافع والأغراض، وتسمية ما كان كذلك بيعاً لا يصح، فلو قال بعتك أو أقرضتك فهو قرض ما دام أنَّ البدلين متحدين في الجنس ومتماثلين في الأغراض.
وأما الشرط الجزائي فمنه ما هو محرم ومنه ما هو جائز، على التفصيل التالي؛
فإذا كان الشرط الجزائي في بطاقات الإئتمان ونحو ذلك، فهو ربا الجاهلية الذي لا شك في تحريمه: "إما أن تقضي وإما أن تُربي"، وهو داخل في القاعدة المجمع عليها؛ "كل قرض جر نفعاً فهو ربا"، وذلك لاتحاد البدلين في الجنس والأغراض.
وأما الشرط الجزائي في بيع الأجل فهو لا يختلف عن أصل عقد بيع الأجل نفسه، وهذا إذا تحقق في الشرط الجزائي شرطا معلومية الأجل ومعلومية الزيادة، وهذان الشرطان لازمان في كل بيع أجل ومنه بيع التقسيط.
وتسمية ما في الذمة في بيع الأجل ديناً لم تمنع الزيادة فيه، فكذلك الحال في شرط الجزاء، لا فرق بينه وبين أصل عقد بيع الأجل لا في النسيئة ولا في الزيادة لأجل النسيئة والأجل، وذلك لاختلاف البدلين في الجنس في هذه الحالة.
ومسألة حُكم الشرط الجزائي تعود إلى اعتبار المعاني لا الألفاظ والمباني في العقود، فإذا احتد البدلان في الجنس والأغراض فهو قرض، وأما إذا اختلفا في الجنس والأغراض ولم يكونا ربويين فهو بيع أجل جائز بشروطه.
الرّاجح هو أنّ الثمنية هي علّة الرّبا في الدنانير الذهبيّة والدراهم الفضيّة، وهي علّة متعدّية، وعلّة الربا في غير المسكوك من الذهب والفضّة هي كونهما جنس الأثمان، وهي علّة قاصرة.
فالربويات المجمع عليها ستة أصناف، واختلف الفقهاء في القياس عليها؛ فمنعه الظاهرية، واختلف غيرهم في علّة قياس النقدين وعلّة المطعومات الأربعة.
وقد ورد ذِكر الربويات الستة في عدة أحاديث منها؛ (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح مثلاً بمثل، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) [١١].
علة الثمنية في الدنانير والدراهم واضحة ومناسبة كما قد نصَّ على ذلك ابن تيمية رحمه الله.
ويصح التعليل بعلتين في محلين مختلفين؛ الثمنية في المضروبة دنانير ودراهم، وكون الذهب والفضة جنس للأثمان في غير المضروبة.
فالنصوص جاءت بتحريم الربا في الذهب والفضة ويدخل فيها غير المضروبة، وجاءت بتحريمه في الدنانير والدراهم وهي المضروبة.
فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنَّ رسول الله ﷺ قال: ( لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ) [١٢].
والصحيح هو أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يرى أن الثمنية علة في ربا النقدين.
وأخطأ بعض الشافعية بظنهم أنّ الإمام الشافعي رحمه الله يجعلها علّة قاصرة بإطلاق بسبب قوله: ( والذهب والوَرِق مباينان لكل شيء; لأنهما أثمان كل شيء ولا يقاس عليهما شيء من الطعام ولا من غيره ) [١٣].
فإنَّ العُملات الورقية والمعدنية اليوم أثمان كل شيء وليست أثماناً للمحقرات فقط.
وأما الفلوس التي عدَّها الإمام الشافعي رحمه الله تعالى من غير الأجناس الربوية فقد كانت في زمنه أثماناً للمحقرات فقط، وكانت تُضرب من النحاس، ولذلك علَّل بعض الفقهاء عدم جريان الربا في الفلوس بندرة التعامل بها.
فقول الإمام الشافعي عن الذهب والفضة: (لأنهما أثمان كل شيء) يدلُّ دلالة واضحة على أن السبب في أن علة الثمنية قاصرة في الفلوس هو أنها ليست أثماناً لكل شيء.
فقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى عن النقدين: (لا يقاس عليهما شئ من الطعام ولا من غيره) مع ما سبق؛ يدلُّ على أنه يرى أن العلة قاصرة في عهده لأن الفلوس لم تكن أثماناً لكل شئ وإنما كانت للمحقرات فقط.
فالأصل في العلة أن تكون متعدية، وقد نص الإمام النووي رحمه الله تعالى على أن العلة القاصرة قد تتغير بتغير الزمان والحال فتصير متعدية.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: (ثم لغير المتعدية فائدتان (إحداهما) أن تعرف أن الحكم مقصور عليها، فلا تطمع في القياس (والثانية) أنه ربما حدث ما يشارك الأصل في العلة فيلحق به، وأجابوا عن الفلوس بأن العلة عندنا كون الذهب والفضة جنس الأثمان غالباً، وإن لم تكن أثماناً، والله سبحانه أعلم) [١٤].
وأما قول بعض الأحناف رداً على الشافعية: "التعليل بالثمنية ينتقض طرداً وعكساً، فأما طرداً فبالفلوس وأما عكساً فبآنية الذهب والفضة"، فالإجابة عن الفلوس بما سبق من كونها لم تكن أثماناً لكل شئ وإنما كانت للمحقَّرات فقط.
 وأما آنية الذهب والفضة فقد نص كثير من الشافعية على أنَّ علة تحريم الربا في النقدين هي كونها جنس الأثمان غالباً، فقيد "جنس" لإدخال غير المضروبة كأواني الذهب والفضة، وأما قيد "غالباً" فقد ذكر كثير من الشافعية أن المراد به إخراج الفلوس إذا راجت رواج النقدين، إلا أنَّ إخراج الفلوس الرائجة رواج النقدين يخالف كلام الإمام الشافعي رحمه الله تعالى الذي جعل الثمنية لكل شئ علَّة جريان الربا في النقدين، وجريان الربا في الفلوس الرائجة هو مذهب الخراسانيين من الشافعية.
ولعل الصحيح أن يقال بأنَّ للنقدين علتين في محلين مختلفين؛ وهما الثمنية وكونها جنس الأثمان، فتكون الثمنية علة للمضروبة كالدناير والدراهم، وكونها جنس الأثمان لغير المضروبة، فعلة كونها جنس الأثمان قاصرة، وعلة الثمنية متعدية.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في المصدر السابق: (قال الماوردي: ومن أصحابنا من يقول: العلة كونهما قيم المتلفات قال: ومن أصحابنا من جمعهما)، يعني جمع العلتين.
وممن نص على أن الثمنية علة في النقدين من الشافعية؛ الإمام النووي رحمه الله تعالى فقال: ( الطعم علة لحرمة الربا في المطعومات فقط، والثمنية علة حرمة الربا في النقد فالعلتان موجبتان لنوع حرمة الربا المقيد بذلك المحل ) [١٥].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ( والمقصود هنا: الكلام في علة تحريم الربا في الدنانير والدراهم، والأظهر أن العلة في ذلك هي الثمنية، لا الوزن، كما قاله جمهور العلماء ا. هـ. ) [١٦].
وقال أيضاً: ( والتعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب؛ فإِنَّ المقصود من الأثمان أن تكون معياراً للأموال، يتوسل بها إلى معرفة مقادير الأموال، ولا يقصد الانتفاع بعينها) [١٧].
والتعليل بالثمنية ليس منقولاً عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وحده، فقد نسبه ابن تيمية رحمه الله تعالى من الحنابلة إلى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في إحدى الروايتين عنه، ونسبه كذلك إلى الإمام مالك رحمه الله تعالى في رواية عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ( وقد اختلفوا في كثير من "مسائل الربا" قديماً وحديثاً.
واختلفوا في تحريم التفاضل في الأصناف الستة الذهب والفضة والحنطة والشعير والتمر والملح: هل هو التماثل؟ وهو الكيل والوزن. أو هو الثمنية والطعم أو هو الثمنية والتماثل مع الطعم والقوت وما يصلحه؟ أو النهي غير معلل والحكم مقصور على مورد النص؟ على أقوال مشهورة.
و"الأول" مذهب أبي حنيفة وأحمد في أشهر الروايات عنه.
و"الثاني" قول الشافعي وأحمد في رواية.
و"الثالث" قول أحمد في رواية ثالثة اختارها أبو محمد، وقول مالك قريب من هذا، وهذا القول أرجح من غيره.
و"الرابع" قول داود وأصحابه ويروى عن قتادة. ورجح ابن عقيل هذا القول في مفرداته وضعف الأقوال المتقدمة
) [١٨].
ونص ابن حزم رحمه الله تعالى على أن التعليل بالثمنية في النقدين هو قول الإمام مالك رحمه الله تعالى حيث قال: ( كما قال الشافعي: علة الربا الطعم، والتثمين. وقول مالك: علة الربا الادخار فيما يؤكل، والتثمين ) [١٩].
الكلام في ردّ هذه الشبهة ليس لبيان أضرار الربا، وإنّما هو لبيان أنّ تحريمه ليس فيه ظلم كما يدعي بعضٌ.
سبق أنّ ربا القروض هو ربا الجاهليّة وأنّه محرم لذاته، وأنّه يجري في كل صنف تماثلت أغراض أفراده ومنافعها، بخلاف ربا البيوع الذي يجري فقط في الربويات الستة وما يُقاس عليها.
فبعضٌ يدّعي أنّ تحريم الربا ظلمٌ بسبب ما يسمّى بالقيمة الزمنيّة للأشياء.
وجوابه أنّ قيمة الأشياء تنقص عند الضعف الاقتصادي الكلي أو المرحلي، فإن زدات القيمة، فإنّ عدم ردّ المثل ليس ظلماً لأنّ اعتبار العدل في منفعة الأشياء أهمّ من اعتباره في قيمتها بالنقدين أو بغيرهما.
وبيانه؛ أنّ الأشياء صنفان؛ أثمان ومثمنات.
أما المثمنات فمنفعتها في ذاتها، فردّ مثلها يحقّق العدل أكثر من اعتبار قيمتها، كردّ تمر أو حديدٍ بمثله في الوزن.
وأمّا الأثمان؛ فمنفتها في قوّة شرائها، وقوّة شرائها كذلك تتغير بزيادة تارةً ونقصان أخرى.
وتغيّر قيمة العملة قد يكون مجازيّاً، فإن كان حقيقيّاً؛ فقد يكون بسبب طبيعي وهو نمو الاقتصاد أو ضعفه، وقد يكون بفعل فاعل.
فإن كان تغيّر قيمة العملة مجازياً فعدم الظلم في ردّ المثل واضح بيّن.
فإذا زادت القوّة الشرائيّة للأثمان زيادةً حقيقيّة، فليس في ردّ المثل ظلم، لأنّ للأثمان قيمة زمنيّة عندما يكون الاقتصاد في نمو، فهذه الزيادة من حق الدائن الذي تبرّع بماله للمدين، وزيادة القوّة الشرائيّة تحدث بصورة طبيعيّة عند نمو الاقتصاد.
وضرر نقصان القوّة الشرائيّة واقع على الدائن والمدين معاً، فليس في عدم تعويض الدائن ظلمٌ له، وفي تحميل المدين تعويض الدائن تكليفٌ بما لا يُطاق.
وأما نقصان العملة بسبب فعل فاعل؛ فإذا كان المُتلاعب بالعملة دائناً فإنّ في الربا زيادة ظلم على المدين، وإن كان مديناً، فمقتضى العدل أن يعوّض كل من تضرّر وليس الدائن فقط.
وتغيّر قيمة العملة قد يكون مجازياً، فالزيادة مجازية إذا كانت بسبب نقصان قيمة ما يقابلها من العملات العالميّة، وأما النقصان المجازي فيكون بسبب زيادة قيمة ما يقابلها من العملات العالميّة.
وأما التغيّر الحقيقي في قيمة العملة فإنّه يكون عندما يتغيّر الوضع الاقتصادي أو عند التلاعب بالعملة، وذلك لأنّ العملات لا سيّما غير المغطاة بالذهب أو الفضّة لا تختلف عن السلع في تأثر قيمتها بالعرض والطلب.
فزيادة الطلب المحلي والعالمي على العُملة يزيد من قيمتها، ونقصان الطلب عليها بسبب ركود في الحركة الاقتصادية يُنقص من قيمتها، مثلها مثل السلع.
فتغيّر قيمة العملة عند التلاعب بها يكون بزيادة عرضها، وقد يكون بسبب تدخل الدولة أو تزوير العملة.
أما تدخل الدولة؛ فقد تكون زيادة عرض العملة بسبب زيادة طباعة العملة أو زيادة عددها الرقمي في حواسيب المصرف المركزي.
فإذا كانت الدولة هي الدائن، فاشتراط الربا عند نقصان العملة بسبب تلاعب الدولة فيه زيادة ظلم، لأنّ ما حدث في حقيقته هو أنّ الدولة سرقت من الناس بمن فيهم الدائنين والمدينين نقوداً لسداد عجز عندها في الميزانية.
وبالمثال يتضح المقال؛ فإذا كان لديك مائة دولار، فطبعت الحكومة الأمريكية مزيداً من الدولارات، فنقصت قيمة ما عندك من دولارات لتساوي سبعين من القيمة السابقة، فإنّ الحكومة الأمريكية تكون قد سرقت منك ما يُقارب الثلاثين دولاراً.
والدول لا تلجأ للطباعة عند ضعف الاقتصاد إلا لسدّ نقصٍ في ميزانياتها، لأنه إجراءٌ مضر بالاقتصاد، ولهذا تحارب الدول تزوير العملات.
فالثابت بالدراسة والتجربة أنّ زيادة الطباعة دون زيادة الإنتاج تؤدّي إلى التضخم.
والعملات ثمنٌ للسلع والخدمات، فكيف يصح مساواة العملات بالسلع والخدمات في الاتّجار بها من غير ضوابط خاصة؟
ولعلّ هذه هي الحكمة في جعل النقدين من ربويات ربا البيوع الستة، والربا الحقيقي في ربويات ربا البيوع أغلظ من الربا في غيرها.
فالثمنية هي علة الربوية في النقدين على الأرجح، والربويات كما سبق هي التي يحرم فيها ما لا يحرم في غيرها من السلع.
ولعل من الحِكم في منع استخدام آنية الذهب والفضة عدم تعريضهما للاتجار فيهما كبقية السلع والخدمات دون ضوابط خاصة.
فالدنانير الذهبية والدراهم الفضية تسك منهما.
وللمزيد حول التضخم وأضرار الربا في الأوراق النقدية يمكن الرجوع إلى هذين المقالين؛ مدونتي » سياسة واقتصاد » من أجل تبسيط فهم الأزمة الإقتصادية العالمية و؛ مدونتي » سياسة واقتصاد » أثر الربا على الاقتصاد.
ربا القروض البنكية خصوصاً والعملات الورقية والمعدنية عموماً محرّم بالنصوص والإجماع، وذلك لدخوله في ربا القروض والذي هو ربا الجاهليّة الذي جاءت النصوص بتحريمه، وهو أشدّ أنواع الربا.
يُضاف إلى ذلك أنّ الأصحّ من أقوال أهل العلم قياس العُملات الورقيّة والمعدنيّة على الدنانير والدراهم بجامع الثمنيّة في كلّ، والتعليل بالثمنيّة تعليل بوصف ظاهر منضبط ومناسب للحُكم لما تَضَمَّنَهُ من حِكَم ومقاصد، فهو تعليل صحيح يحوي جميع شروط العلل الاجتهاديّة.
وبناءً على ما سبق فإنّه يجري في العملات الورقيّة والمعدنيّة ربا البيوع، سواء كان ربا النسيئة أو الفضل، قياساً على النقدين، كما يجري فيها ربا القروض والذي لا يُتَصوَّرُ إلا نسيئة.
وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى على أنّ ربا الفضل محرم لغيره لقول النبي ﷺ: (إنما الربا في النسيئة)، فدلَّ الحديث على أنَّ المحرّم في الحقيقة ولذاته لا يكون إلا في النسيئة، وربا الفضل لا يكون إلا في الربويّات.
ومن الأدلّة وأقوال الفقهاء يُعلم أنّ حقيقة الربا إنّما هي في القروض سواءٌ كان في الربويّات أو في غيرها.
والنصوص وأقوال الفقهاء والتأمُّل في الحِكَم والمعاني تدلّنا على أنّ أشدّ أنواع الربا حرمة ما كان قرضاً وكان من جنس الربويّات، ولذا كان الاحتياط في الربويّات أكثر من غيرها، فيكفي في الربويّات اتّحاد الجنس الربوي لتحريم التفاضل مع النسيئة.
وأما في غير الربويّات فيترجَّحُ قول الإمام مالك رحمه الله تعالى باشتراط اتّحاد الجنس مع التماثل في الأغراض والمنافع لتحريم التأخير مع التفاضل.
فالربا في الدنانير والدراهم والعُملات الورقية والمعدنية هو من أشدّ أنواع الربا.
وجعل الأثمان عروض تجارة يعرضها للتذبذب، والأثمان معيار تقيّم به المثمنات، فيجب أن يكون المعيار ثابتاً لا يتغيّر بسبب غير النمو والضعف الاقتصادي العام.
وتغيّر قيمة الذهب باكتشاف مناجم جديدة لا يضر، لأنّ زيادة مقدار المتداول من الذهب مع نقص قيمة الوحدة كالجرام فيه ثبات كلي للمعيار.
وتقليل تعرُّض النقدين للتجارة هو من حِكم تحريم استعمال الذهب والفضة في غير ما رخّص فيه الشرع (حُلي النساء وخاتم الفضة للرجال والضبة اليسيرة).
ولهذا فالأفضل تغطية العملة االورقيّة والرقميّة بعملة مسكوكة من الذهب أو الفضّة، وتُشترى المحقّرات بجزء مطبوع ورقمي من العملة الذهبيّة أو الفضيّة.
والفلوس التي ذكرها الفقهاء كالإمام الشافعي رحمه الله كانت تسكّ من النحاس، وكانت لشراء المحقّرات في العصور الأولى لمُلك المُسلمين، إذ لا يمكن مثلاً شراء كوب قهوة بدرهم فضي أو دينار ذهبي.
فالواقع يدلّ على أنّ رواج الأوراق النقديّة بالطريقة التي راجت بها في عصرنا فيه ظلم للنّاس، وذلك لأنّ طباعة المزيد منها ينقص قيمتها الحقيقيّة، والدولة تتملك العملات الزائدة بالطباعة، وفي هذا سرقة لأموال الناس.
فعندما تمر الدولة بأزمات مالية فإنها تطبع مزيداً من الأوراق النقدية لسدّ نقص ميزانيتها، وقد تطبع لزيادة شديدة في قيمة العملة المحليّة مقابل العملات الأجنبيّة المُضرّة بحركة الصادر، وقد تطبع لنقص حادٍّ في العملة بسبب مزيد طلب محليٍّ وعالميٍّ عليها.
وفي القريب الماضي كانت الحُكومات تغطي عملاتها بالذهب والفضّة والمعادن الثمينة، ثم رفعت الحكومة الأمريكية التغطية عام ١٩٧١م، ثم تبعتها على ذلك الدول الأخرى.
ولابدّ من وضع طرق ولوائح للتحقّق من عدم زيادة الدول العملات الورقيّة والرقميّة المتداولة بالطباعة أو في حواسيب المصرف المركزي.
وبدأت تروج في الآونة الأخيرة بعض العملات الرقميّة ومن أشهرها البِتكوين، وممّا فيها من مخالفات شرعيّة أنها مبيعات مجهولة الغرض والمنفعة، فهي ليست عملات يُشترى بها كل شيء.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ولهذا ينبغي للسلطان أن يضرب لهم فلوساً تكون بقيمة العدل في معاملاتهم; من غير ظلم لهم.
ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس أصلاً; بأن يشتري نحاساً فيضربه فيتجر فيه ولا بأن يحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم ويضرب لهم غيرها; بل يضرب ما يضرب بقيمته من غير ربح فيه; للمصلحة العامة ويعطي أجرة الصناع من بيت المال.
فإن التجارة فيها باب عظيم من أبواب ظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل؛ فإنه إذا حرم المعاملة بها حتى صارت عرضاً وضرب لهم فلوسا أخرى: أفسد ما عندهم من الأموال بنقص أسعارها فيظلمهم فيها وظلمهم فيها بصرفها بأغلى سعرها.
وأيضاً فإذا اختلفت مقادير الفلوس: صارت ذريعة إلى أن الظلمة يأخذون صغاراً فيصرفونها وينقلونها إلى بلد آخر ويخرجون صغارها فتفسد أموال الناس
) [٢٠].
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمد نور
لوند، السويد
الخميس ١٢ ربيع الأول ١٤٣٧هـ، ٢٤ ديسمبر ٢٠١٥م.
[١] المحلى بالآثار (ج٧/ص٤٠١)، دار الفكر، بيروت.
[٢] بداية المجتهد ونهاية المقتصد (ج٣/ص١٤٨)، دار الحديث، القاهرة، ١٤٢٦هـ - ٢٠٠٤م.
[٣] المدونة (ج٣/‏ص٧١) - مالك بن أنس (ت ١٧٩).
[٤] جامع المسائل لابن تيمية، المجموعة الثامنة (ص٣١٥)، تحقيق؛ محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، مكة، الطبعة الأولى، ١٤٣٣هـ.
[٥] الأم للشافعي (ج٣/ص٣٣)، كتاب البيوع » باب الربا، دار المعرفة، بيروت، ١٤١]هـ/١٩٩٠م.
[٦] بداية المجتهد ونهاية المقتصد (ج٣/ص١٥٣)، الطبعة السابقة.
[٧] فتح الباري شرح صحيح البخاري (ج٤/ص٤١٩) » كتاب البيوع » باب بيع العبد والحيوان بالحيوان نسيئة، دار المعرفة، بيروت، ١٣٧٩هـ، ترقيم؛ محمد فؤاد عبد الباقي، إخراج وتصحيح؛ محب الدين الخطيب عليه، تعليق؛ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
[٨] روضة الطالبين وعمدة المفتين (ج٤/ص٣٤)، تحقيق؛ زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، عمان، الطبعة الثالثة، ١٤١٢هـ / ١٩٩١م.
[٩] أخرجه البخاري (٤١١٩) ومسلم (١٧٧٠).
[١٠] إنها حرفية لا ظاهرية.
[١١] سنن الدارقطني (٢٨٧٦) » كتاب البيوع » باب البيوع.
[١٢] صحيح مسلم (٧٨) (١٥٨٥) » كتاب المساقاة » باب الربا.
[١٣] الأم للشافعي (ج٣/ص١٥)، الطبعة السابقة.
[١٤] المجموع شرح المهذب (ج٩/ص٣٩٤)، ط المنيرية - النووي (ت ٦٧٦).
[١٥] المجموع شرح المهذب (ج٩/ص٣٩٥)، ط المنيرية - النووي (ت ٦٧٦).
[١٦] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج٢٩/ص٤٧١) تحقيق؛ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، السعودية، 1416هـ/1995م.
[١٧] المصدر السابق.
[١٨] المصدر السابق.
[١٩] المحلى بالآثار (ج٧/ص٤٠٤)، دار الفكر، بيروت.
[٢٠] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج٢٩/ص٤٦٩)، الطبعة السابقة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق