إنكار المنكر باليد

رجوع إلى قسم منهج وإصلاح

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين.
إنكار المنكرات باليد خاص بمن له صلاحية الإنكار، كالوالد في بيته على أولاده، وكل راعٍ في رعيته إذا كانت له صلاحية إنكار باليد فيها.
العموم في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطيع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، ليس فيه دليل على جواز إنكار من ليست له صلاحية باليد، وذلك من وجهين؛
الأول؛ أن القدرة هنا لا تتحقق إلا لمن له صلاحية، ولا يصح القول بأن القدرة هنا شرط وجوب فقط، بل هي شرط وجوب وصحة، وذلك لأن الأصل في الأحكام الشرعية أنها تحقق المصالح وتدفع المفاسد بأعلى درجاتها، والإنكار باليد من غير صلاحية يترتب عليه غالباً ضرر أعظم قطعاً، والأحكام إنما تجري على الغالب الأعم.
ولا تُقاس القدرة هنا على القدرة في نصح الإمام الوارد في حديث؛ (سَيِّدُ الشُّهَداءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، ورجلٌ قام إلى إمامٍ جائِرٍ فأمرَهُ ونَهاهُ، فَقَتَلهُ)، وذلك للفارق، فنصح الإمام لا يتعدى ضرره غالباً الناصح، ولذا كان شرط القدرة فيه شرط وجوب فقط.
وما في نصح الإمام من ضرر فإنه يؤول إلى مصلحة، ففيه مصلحتان؛ الأولى؛ الشهادة أو الأجر على البلاء، الثانية؛ تحريض الناس على مقاومة ظلم الأئمة بالطرق المشروعة بشروطها، ومن الشروط؛ ألا ينزع مُنكِرُ ظلم الإمام يداً من طاعة ولا ينقض البيعة.
وقد يكون شرط القدرة في نصح الإمام شرط صحة إذا كان الضرر متعدياً إلى غير الناصح كما نص على ذلك العلماء، كما لو كان الضرر على زوجته وأولاده، وهذه قاعدة عامة في كل ما كان وسيلة إلى عبادة مما هو من جنس المعاملات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإنَّ الأمر والنَّهي وإن كان متضمِّناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فيُنظر في المعارض له؛ فإن كان الذي يفوِّت من المصالح أو يحصِّل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به، بل يكون محرَّماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة) [1].
الثاني؛ أن الأمر هنا من النبي صلى الله عليه وسلم صدر على وجهين؛ الأول؛ على وجه التشريع باعتبار أنه رسول الله، والثاني؛ على وجه أمر الناس في عهده باعتبار أنه هو الإمام الحاكم، فيكون في أمره كل الناس بذلك تفويض للجميع بإزالة المنكرات باليد، فيكون العموم في الأمر هنا من جهة جواز أن يأمر الإمام الحاكم كل الناس بإزالة المنكرات بأيديهم كإراقة الخمر وتكسير آلات الطرب والمعازف.
ويجوز للإمام الحاكم أن يجعل صلاحية إنكار المنكرات باليد خاصةً بالبعض اعتباراً للمفاسد والمصالح، لأن الأصل في وسائل العبادات الإرسال إلا لنص، فهي من قبيل المصالح المرسلة، فجاز لولي الأمر أن يخص الأمر بالإنكار باليد بعض الناس.
ولا يخالف هذا التخصيص شروط المصالح المرسلة، لأن الرعية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا خير الناس فلا يتوقع منهم تجاوز الحد الشرعي في الإنكار ونحو ذلك مما يحتمل من غيرهم، فاحتمال كثرة التعدي والخطأ في الإنكار في العهود المتأخرة يُعد باعثاً مقتضياً لحُكم التخصيص لم يكن في عهد الرسالة.
المنهي عنه إنما هو تقديم الرأي على النص، وليس في اشتراط أن يكون للمُنكِر باليد صلاحية معارضة للنصوص، بل هو موافق للنصوص، وليس في النصوص مخالفة لصريح المعقول، ومن صريح المعقول أن إنكار من ليست له صلاحية منكر العامة باليد يترتب عليه شر عظيم وضرر أعظم، وموافقة الشريعة للحِكم والمصالح والرحمة والعدل دليل على أنها من لدن حكيم خبير.
قال ابن القيّم رحمه الله تعالى في تغيُّر الفتوى واختلافها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيّات والعوائد: (هذا فصل عظيم النفع جداً، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أنَّ الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به.
فإنَّ الشريعة مبناها وأساسَها على الحكم، ومصالح العباد، في المعاش والمعاد. وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها.
فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل.
فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته الدالّة عليه وعلى صدق رسوله
) [2].
وليس في الجزم بحكم عقلي لا يخالف النصوص تقديم للعقل على النقل، فمن الأحكام العقلية ما هو قطعي بدهي كقاعدة أن الكل أكبر من الجزء والأحكام الحسابية العددية المحضة، وقد يتعلق الحكم العقلي بحكم شرعي كضرر السجائر الذي جزم المحققون من العلماء بحرمته.
ما اطلعت عليه مما استدل به القائلون بجواز إنكار المنكر باليد للجميع ينقسم إلى ثلاثة أقسام؛
الأول؛ استدلالهم بعموم حديث؛ (من رأى منكم منكراً ...) وقد تقدم الكلام عليه.
الثاني؛ استدلالهم بما ورد عن بعض الأئمة والعلماء من أمرٍ للعامة بتكسير آلات اللهو والخمر ونحو ذلك، وهذا يُحمل على أن الإمام في عهدهم كان مفوِّضاً للناس بتغيير المنكر باليد.
ويُحمل كذلك تغيير ابن تيمية رحمه الله تعالى منكر العامة باليد على أنه كان بتفويضٍ إما خاص أو عام من الإمام الحاكم في عهده، وذلك لأنه قد نص على أن من شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عموماً والإنكار باليد خصوصاً ألا يترتب عليه ضرر أعظم.
الثالث؛ استدلالهم بما ورد في الحديث وقال به بعض السلف من جواز إنكار منكر الإمام الحاكم باليد بشرط عدم نزع يدٍ من طاعة، ولا يصح قياس العامة على الإمام في الإنكار باليد، وذلك لأن دائرة الإنكار على العامة أوسع بكثير من دائرة الإنكار على السلطات الحاكمة فيختلف الضرر المترتب على كلٍ منهما.
فقد لا يترتب على إنكار منكر الإمام باليد فوضى وشر متعدٍ كما قد يترتب ذلك على إنكار منكر العامة من غير صلاحية، ولأن من أجاز إنكار منكر الإمام الحاكم باليد اشترط ألا يتعدى ضرر الإنكار المُنكِرَ إلى غيرهِ، ومن باب أولى ألا يتعدى الضرر الخاص إلى الدعوة.
وأما ما ورد عن بعض العلماء من تجويز إقامة الحدود والإنكار باليد من غير سلطان، فإنهم قد اشترطوا عدم الضرر الأعظم، ولا يكون ذلك إلا في حال توافق الناس على ذلك في مثل البوادي والقرى.
وأما من عمم جواز ذلك فلم يشترطوا إذن السلطان فهو اجتهاد منهم لا يوافقوا عليه، ومع ذلك فإنهم اشترطوا عدم ضرر أعظم، والضرر الأعظم متحقق غالباً لا محالة في الإنكار باليد من غير صلاحية.
ومن القواعد العامة المهمة في هذا الباب التي دلت عليها النصوص وأقوال العلماء أنه لا يجوز تمني البلاء، ولا يجوز تعريض النفس للبلاء إلا لمصلحة راجحة أو دفع ضرر راجح.
يقول اللّه عزَّ وجل: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}، قال ابن تيمية رحمه اللّه في هذه الآية: (وإن كان قتل النفوس فيه شرّ؛ فالفتنة الحاصلة بالكفر وظهور أهله أعظم من ذلك، فيدفع أعظم الفاسدين بالتزام أدناهما) [3].
ولهذا فإذا كانت الدولة تسمح بالضغط على السلطات بوسائل ضغط سلمية تشترط فيها عدم التخريب والإتلاف، فإن الالتزام بهذه الشروط فيه من تحقيق المصالح ودرء المفاسد ما لا يخفى، والسلطات تشترط عادة تصريحاً من الشرطة، ومن الأفضل طلب حماية من الشرطة للوقفات الاحتجاجية.
والتظاهر من إظهار أمر ما، ويشمل الاحتجاج بالوقوف والاحتجاج بالمسير في الطرقات، والمسيرات لا يمكن ضبطها غالباً، ويشترط ألا تكون التظاهرات بمنكر كالإضرابات، ولا بما لا يمكن ضبطه غالباً كالمسيرات، ويشترط ألا تكون التظاهرات والاحتجاجات ثورية تطالب بسقوط النظام لما يترتب على ذلك من ضرر أعظم.
ومما يحسن التنبيه إليه أن الاحتجاجات قد لا تجدي شيئاً إذا لم تكن ثمة جهة تنظمها، فالاحتجاجات كالشجرة لا بد من رعايتها وسقايتها بعد زرعها، فلابد ان تتلوها احتجاجات ومكاتبات ومؤتمرات صحفية وندوات ومقالات ونحو ذلك من تنوع أساليب الضغط وتكرارها، ولهذا فأنا أدعو إلى تكوين مؤسسات أو منظمات تشْوَقية، وللمزيد حول التشوقة ووسائل الضغط يُرجى الرجوع إلى؛ مدونتي » إصلاح »التَّشْوَقِيَّة الشرعية بديلاً للديمقراطية الوضعية.
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
السبت 22 صفر 1441ه، 26 أكتوبر 2019م

المصادر

[1] مجموع الفتاوى (ج28/ص129).
[2] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج3/ص11)، تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، ييروت الطبعة الأولى، 1411هـ - 1991م.
[3] مجموع الفتاوى (ج28/ص513).

رجوع إلى قسم منهج وإصلاح

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق