رد الفرية عن ابن تيمية والاستواء عند الطبري

رجوع إلى قسم شبهات وردود
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أرسل لي أحد الإخوة مقالاً مختصراً لا أعرف كاتبه نقلاً عن مجموعة على الواتسآب، فيه افتراءات على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مع سلوك مسلك المتكلمين المتأثرين بالفلسفة اليونانية التي قعد قواعدها كفارٌ بعضهم ملاحدة لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر.
ومشكلة الفلاسفة أنهم يعتقدون أن عقولهم مطلقة، ويا للعجب! فإن الملاحدة منهم يعتقدون أن كل شيء نسبي، وأنه لا يوجد مطلق، ومع ذلك يتحدثون بعقولٍ يحسبون أنها مطلقة غير محدودة! ولو فهم الناس الجواهر والأعراض المخلوقة فهماً مطلقاً لاستطاعوا أن يخلقوا، فضلاً عن فهم كيفية صفات الله عز وجل وإحاطة العلم به أو بشيءٍ من صفاته.
والجوهر عند الفلاسفة والمتكلمين هو ما قام بنفسه وقسموه إلى نفسي وعقلي وجسماني، وعرف بعضهم الجوهر بأنه الأساس الذي يشكل للجسم أو المادة ما هي عليه فعلاً، ولهذا كثيراً ما يُطلق الجوهر على المادة والجسم، والعرض هو ما قام بغيره، مثل الحركة والسكون واللون والقوة والحرارة، ومن أنواع الأعراض بالمفهوم العصري الحديث الطاقة وصفات الأجسام كالطاقة الحركية ونحو ذلك.
فنحن البشر لا نفهم حقائق مطلقة للمخلوقات، فكل شيء نفهمه هو نسبة إلى آخر، فلا نفهم الحيز والمكان والجهة إلا نسبة إلى غيرها من المخلوقات، فمثلاً؛ لا نفهم الكتلة إلا نسبة إلى كتلة أخرى، ومع تقدم العلوم في عصرنا وظهور نظريات حديثة في نسبية الزمن ونحوها وتفجير الذرة وتبدل كثير من المفاهيم إلا أن مفاهيم الزمن والمكان والمادة والطاقة تبقى دائماً منسوبة إلى بعضها.
ولذا نجد في تعريف الكتلة والمادة ما يسميه المتكلمون بالدور، والدور هو توقف تعريف شيءٍ على نفسه أو توقف تعريف شيئين على بعضهما، فالكتلة هي مقدار ما يحتويه الجسم من مادة، والمادة كل شيء له كتلة ويشغل حيزاً، فتوقف تعريف الكتلة على المادة وتعريف المادة على الكتلة والحيز، والكتلة تُعرف بالوزن، والوزن يعرف بجاذبية الأرض أو غيرها من الأجسام وهي مواد.
ولا يمكن للإنسان معرفة المفاهيم الأساسية للمخلوقات معرفة مطلقة إلا إذا خرج منها ودرسها من خارجها، وكيف له ذلك وهو بنفسه مادة وطاقة ويشغل حيزاً ويعيش فترة زمنية محدودة وفي مكان محدود؟ فالزمن نسبة إلى حركة الأفلاك، فبحركتها نعرف الليل والنهار والشهور والسنين، وقد تحدثتُّ بشيء من التفصيل حول هذه المفاهيم في؛ مدونتي » ثقافة ومعارف » نظرية الانفجار الكبير، وحبذا الرجوع أيضاً إلى؛ مدونتي » ثقافة ومعارف » أيهما أصدق، المنطق السليم، أم الحس العام؟.
فالله تعالى ذُكرُهُ أخبر عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، وفي الآية نفي وإثبات، نفي المثلية عنه وإثبات السمع والبصر له سبحانه وتعالى، وكما يُقال في السمع والبصر من عدم مشابهتهما لسمع وبصر المخلوق يُقال في كل صفة ثابتة في الكتاب والسنة.
قال المفتري على ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ابن تيمية ينسب الجهة والمكان لله (وهذا كفر صريح))
لم يأت بنص لابن تيمية يثبت به دعواه، وقد نص ابن تيمية في لفظ الجهة أننا لا نثبته ولا ننفيه، وكذا كل ما لم يثبت في الكتاب والسنة، ولكنه نص على أنه لو أريد بالجهة الاستواء فالمعنى صحيح، وماذا نسمي ما وراء العالم؟ إن سميناه فراغاً كما يسميه المتكلمون، فالفراغ يرد عليه ما يرد على المكان والجهة، وإن سميناه ما وراء العالم، فما وراء جهة بمفهوم المتكلمين.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ الجهة ولا نفيه كما فيه إثبات العلو والاستواء والفوقية والعروج إليه ونحو ذلك، وقد علم أن ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق مباين للمخلوق - سبحانه وتعالى - ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. فيقال لمن نفى الجهة: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق؟ فالله ليس داخلاً في المخلوقات أم تريد بالجهة ما وراء العالم؟ فلا ريب أن الله فوق العالم مباين للمخلوقات) [1].
نقل ابن تيمية رحمه الله عن بعض السلف إثبات المكان، وأخبر أن منهم من يثبته ومنهم من ينفيه، وكل ما لم يرد فيه نص صريح صحيح لا خلاف في صحته لا يدخل في العقيدة، لأن العقيدة لا تبنى إلا على اليقين من حيث الدلالة والثبوت واتفاق السلف.
والصحيح في أحاديث الآحاد أن ثبوتها يقيني مطلق إذا احتفت بها القرائن مثل المتفق عليه لإجماع العلماء على صحته، وما لم تحتف به القرائن من خبر الآحاد فثبوته إما ظني أو يقيني نسبي كغيره من المسائل التي تثبت يقيناً عند بعض العلماء ومع ذلك تعد من المسائل الخفية التي لا يبدع مخالفها، وما ثبت عند بعض العلماء بيقين نسبي فإنه لا يُنكر عليه إثباته على وجه اليقين النسبي الذي لا يُلزم به غيره ولا يجعله من العقيدة والمعلوم من الدين بالضرورة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وهؤلاء يتكلمون بلفظ الجهة والحيز والمكان، ويعنون بها تارة أمراً معدوماً، وتارة أمراً موجوداً، ولهذا كان أهل الإثبات، من أهل الحديث والسلفية من جميع الطوائف، فمنهم من يطلق لفظ الجهة ومنهم من لا يطلقه، وهما قولان لأصحاب أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة وغيرهم من أهل الحديث والرأي. وكذلك لفظ المكان منهم من يطلقه ومنهم من يمنع منه، وأما لفظ المتحيز فمنهم من ينفيه، وأكثرهم لا يطلقه ولا ينفيه، لأن هذه ألفاظ مجملة تحتمل حقاً وباطلاً) [2].
ومن أثبت المكان من السلف فقد قصد بالمكان الاستواء، ولذا يكفي المسلم العامي أن يثبت العلو والاستواء وما ثبت على وجه معلوم من الدين بالضرورة،  فكما يُقال في قوله تعالى؛ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أن سمعه وبصره جل ثناؤه ليس كسمع وبصر المخلوق، فكذلك من أثبت المكان يقول مكانه غير المكان المخلوق باعتبار أنه من صفاته، وصفاته غير مخلوقة، وأما من نفى المكان من السلف فإنه نفى عنه المكان المخلوق.
ونفاة علو الله في الجملة صنفان: 1/ صنف قالوا هو في كل مكان. 2/ وصنف قال ليس في مكان، وقالوا إنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق العرش ولا تحته، ولا أمامه ولا خلفه، ولا عن يمينه ولا عن شماله!
فمن قال من نفاة الاستواء بأنه تعالى ذكرُهُ في كل مكان فقد أثبت له جل ثناؤه مكاناً، بل أثبت له مكانٌ مخلوق تعالى الله عما يقولون، ومن قال ليس له مكان لزمهم على قولهم تشبيهه جل ثناؤه بالعدم، بل جعلوه عدماً محضاً بقولهم؛ لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق العرش ولا تحته، ولا أمامه ولا خلفه، ولا عن يمينه ولا عن شماله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
فالواجب الإيمان بما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل مع قطع الطمع عن إدراك الكيفية والإحاطة بالله عز وجل أو بشيء من صفاته علماً، بل نؤمن بها بمعناها العام المُطلق ونمرها كما جاءت بها النصوص.
قال المفتري: (ابن تيمية يقول إن الله ينزل إلى السماء ولا يخلو منه العرش (وهذا كفر)).
مشكلة المتكلمين هي أنهم شبهوا أولاً ثم عطلوا ثانياً، وذلك لأنهم أطلقوا لعقولهم المحدودة العنان فيما لا سبيل لها إليه من الإحاطة بالصفات الإلهية علماً وإدراك كيفيتها، فلم يكتفوا بالإثبات المطلق والمعرفة للمعنى العام من غير إحاطة بالصفات الذاتية والفعلية، فأعملوا عقولهم التي لا تفهم الحقائق إلا بمقارنتها بأخرى في صفات الله جل ثناؤه، فلم يتصوروا الصفات من غير مقارنتها بالمخلوق وصفاته.
وأما أهل السنة ومنهم ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ فإنهم يثبتون لله نزولاً يليق بجلاله وكماله ليس كنزول المخلوقات، وقول ابن تيمية بأنه لا يخلو منه العرش نقله عن غيره من أئمة السنة كالإمام أحمد وحماد بن زيد والدارمي رحمهم الله تعالى، وكما سبق فإن كثيراً من نفاة الاستواء يقولون بأنه في كل مكان، وهذا يلزم منه أنه لا يخلو منه مكان بما في ذلك النجاسات تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، بخلاف القول بأنه لا يخلو منه العرش.
وإذا كان العلم الحديث وعلى ضوء النظرية النسبية الخاصة لانشتاين يرى أن المكان المخلوق الذي هو الفراغ ينكمش في السرعات العالية، فما المانع أن ينزل الله تعالى ويدنو من خلقه نزولاً يليق بجلاله وكماله مع عدم خلو العرش منه؟ وقد تحدثت عن تغير الزمن في النظرية النسبية الخاصة، ورجَّحت أنه أقرب إلى الصواب، ونقلتُ تعريف ابن تيمية رحمه الله تعالى للزمن في؛ مدونتي » ثقافة ومعارف » أيهما أصدق، المنطق السليم، أم الحس العام؟.
قال المفتري: (ابن تيمية يثبت الجهة لله ويجيز عليه مماسة النجاسات والشياطين وهذا كفر).
تقدم الكلام عن الجهة وأنها لا ثُبت ولا تُنفى في حق الله لعدم ورودها في الكتاب والسنة، وأما مماسة النجاسات والشياطين، فقد قطع المفتري كلام ابن تيمية عن آخره، فابن تيمية رحمه الله ينفي مماسة الخالق سبحانه للنجاسات والشياطين، وكلامه إلزام لمن يقول بأن الله في كل مكان تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وأنه قول باطل يلزم منه مماسة النجاسات، فتمام قوله هو: (وليس في مماسته للعرش ونحوه محذور كما في مماسته لكل مخلوق من النجاسات والشياطين وغير ذلك؛ فإن تنزيهه عن ذلك إنما أثبتناه لوجوب بعد هذه الأشياء عنه وكونها ملعونة مطرودة) [3].
فالمعنى هو أن مماسة العرش جائزة عقلاً في حق الله تعالى خلافاً لمماسة النجاسات والشياطين والتي هي لازم القول الباطل بأنه في كل مكان تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وقد ذكر أن ثمة من أثبت مماسة العرش من السلف فقال قبل ما سبق: (في المسألة قولان كما تقدم بيانه، وعلى هذا فلا يرد السؤال، ومنهم من أصحاب أحمد وغيره من ينفي المماسة، ومنهم من يقول لا أثبتها ولا أنفيها).
ولفظ المماسة هو مثل المكان؛ لم يرد على وجه يوجب أن يكون من المعلوم بالدين بالضرورة، فلا يعد من مسائل المعتقد، ويكفي المسلم العامي أن يثبت العلو والاستواء وما ثبت على وجه معلوم من الدين بالضرورة.
وقال المفتري: (ابن تيمية يثبت المماسة لله (وهذا كفر صريح))
لم يذكر نصاً لابن تيمية رحمه الله تعالى يثبت فيه المماسة، وكما سبق فإن كثيراً من نفاة الاستواء يقولون بأن الله تعالى في كل مكان، وهذا يلزم منه أنه مماس للعرش، بل ويلزم منه مماسة النجاسات والشياطين، وهو المحذور الذي أنكره عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وقد صرح الطبري رحمه الله تعالى في المصدر السابق بأن مماسة العرش جائزة عقلاً في حق الله تعالى، ولكن مشكلة المتكلمين كما سبق أنهم أرادوا فهم الصفات الثابتة بمقارنتها بصفات المخلوق،  فهم لا يفهمون من المماسة إلا مماسة مخلوق لمخلوق، وهذا ما أوقعهم في الحيرة والاضطراب، وسبق أن المماسة ليست من المسائل المعلومة من الدين بالضرورة وليست من مسائل المعتقد.
وقال المفتري: (ابن تيمية يثبت جلوس الله على العرش (وهذا كفر صريح)).
ما نقله عن ابن تيمية من أثر إقعاد النبي صلى الله عليه وسلم على العرش؛ ذكره الأئمة قبل شيخ الإسلام، ومنهم الطبري رحمه الله تعالى في؛ تفسير الطبري؛ الإسراء » 79 [4]، وقال عنه: (فإن ما قاله مجاهد من أن الله يقعد محمداً صلى الله عليه وسلم على عرشه، قول غير مدفوع صحته، لا من جهة خبر ولا نظر)، فطَعَن المُفتري في ابن تيمية ولم يطعن في غيره من الأئمة قبله من السلف! وهذا من بغيه وظلمه.
أثر إقعاد النبي صلى الله عليه وسلم على العرش ضعفه أهل العلم، قال عنه الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: (فأما قضية قعود نبينا على العرش فلم يثبت في ذلك نص، بل في الباب حديث واه وما فسر به مجاهد الآية كما ذكرناه) [5].
وقال عنه الألباني رحمه الله تعالى: (وذاك الأثر عنه ليس له طريق معتبر) [6].
ولم ينص شيخ الإسلام ابن تيمية على إثبات الجلوس والقعود لله جل في علاه، ولكنه بين أن من يثبت الجلوس من السلف فإنه يثبته على وجه يليق بجلال الله وعظمته وتنزيهه عن مشابهة خلقه ونفي حاجته تعالى إلى العرش وسائر خلقه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وإذا كان قعود الميت في قبره ليس هو مثل قعود البدن فما جاءت به الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم من لفظ القعود والجلوس في حق الله تعالى كحديث جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيرهما أولى أن لا يماثل صفات أجسام العباد) [7].
والمشهور في معنى الاستواء عن السلف العلو والارتفاع والاستقرار، وما قيل في المكان والمماسة يقال في الجلوس؛ لم يرد على وجه يوجب أن يكون من المعلوم بالدين بالضرورة، فلا يُعد من مسائل المعتقد، ويكفي المسلم العامي أن يُثبت العلو والاستواء وما ثبت على وجه معلوم من الدين بالضرورة، قال العثيمين رحمه الله تعالى: (فأما تفسير استواء الله تعالى على عرشه باستقراره عليه فهو مشهور عن السلف، نقله ابن القيم في النونية وغيره، وأما الجلوس والقعود فقد ذكره بعضهم، لكن في نفسي منه شيء، والله أعلم) [8].
وقال المفتري: (ابن تيمية يستشهد على عقيدته الكفرية بالإنجيل المحرف).
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ما في الإنجيل من إثبات علو الله تعالى لبيان أن العقيدة المذكورة في القرآن والسنة والتي عليها الصحابة رضي الله عنهم ذُكرت أيضاً في الكتب السابقة، وأن ما وافق القرآن والسنة من الكتب السابقة هو من القسم غير المحرف، وذلك لبيان أن العلو هو مما جاءت بإثباته كل الكتب والرسل.
وقال المفتري: (ابن تيمية يقول بعدم تحريف التوراة والإنجيل)
ومن كذب المفتري أنه بعد أن قال ما سبق، نقل العبارة التالية التي ليس فيها ما قال، فغاية ما فيها أن بعض أهل العلم يرى أن الكتب السابقة ليست محرفة، فنصُّ الكلام الذي نقله عن ابن تيمية هو: (ثم من هؤلاء من زعم أن كثيراً مما في التوراة أو الإنجيل باطل ليس من كلام الله، ومنهم من قال بل ذلك قليل، وقيل لم يحرف أحد شيئاً من حروف الكتب وإنما حرفوا معانيها بالتأويل، وهذان القولان قال كلاً منهما كثير من المسلمين).
نص كلام شيخ الإسلام في؛ مجموع الفتاوى [9]، فالتوراة الأصلية باللغة العبرية قد تكون مفقودة، فقد قيل بأن النسخة العبرية الحالية مترجمة من لغات أخرى، والإنجيل الأصلي المنزل على عيسى عليه السلام مفقود، فالأناجيل الموجودة هي من كتابة التلامذة وتلامذتهم، ولهذا تنسب إلى متى ويوحنا ولوقا ومرقس، وصياغتها تدل على أنها قصص رواها الكتبة وأنها ليست كلام الله عز وجل.
فمن العلماء من يرى أن كلام الله تعالى لا يحرف ولا يبدل، وهؤلاء استدلوا بقول الله تعالى ذكرهُ: {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ}، وقد ذكر ابن الجوزي في معنى الآية خمسة أقوال، أنظر؛ زاد المسير في علم التفسير؛ الأنعام » 34، [10].
قال البخاري رحمه الله تعالى: (يحرفون؛ يزيلون، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله عز وجل، ولكنهم يحرفونه؛ يتأولونه على غير تأويله)، قال ابن حجر رحمه الله تعالى: (قال شيخنا ابن الملقن في شرحه هذا الذي قاله أحد القولين في تفسير هذه الآية وهو مختاره –أي البخاري-)[11].
وقال المفتري: (ابن تيمية يكفر بقوله إن الله محمول ولو شاء لاستقر على ظهر بعوضة).
ما نقله من كلام ليس لابن تيمية رحمه الله تعالى، بل هو كلام نقله ابن تيمية رحمه الله تعالى عن عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله تعالى، ومن حيدة المفتري الطعن في الناقل وترك القائل، وهذا من الكيل بمكيالين بغياً وظلماً، لأنه لا سبيل له للطعن في الدارمي رحمه الله تعالى، وهذا الكلام من الدارمي رحمه الله تعالى هو من باب إلزام الخصم الذي نفى الاستواء، وفيه نفي حاجة الله تعالى إلى العرش وإلى أضعف مخلوقاته وهي البعوضة.
الاستواء عند ابن جرير الطبري رحمه الله
من أصرح أقوال الطبري رحمه الله تعالى في إثبات استواء الله على عرشه قوله: ((هو رابعهم) بمعنى: أنه مشاهدهم بعلمه، وهو على عرشه) [12]، وللطبري رحمه الله تعالى كتابين مطبوعين في العقيدة هما تبصير أولي النهى معالم الهدى، وصريح السنة، وفيهما تأكيد منهجه في مسائل الصفات وغيرها مما خالف فيه أهل البدع.
فقد وردني سؤال حول قول الطبري رحمه الله تعالى في الاستواء في التفسير: (والعجب ممن أنكر المعنى المفهم من كلام العرب في تأويل قول الله: "ثم استوى إلى السماء" الذي هو بمعنى العلو والارتفاع، هرباً عند نفسه من أن يلزمه بزعمه - إذا تأوله بمعناه المفهم كذلك - أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها - إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر. ثم لم ينج مما هرب منه! فيقال له: زعمت أن تأويل قوله "استوى" أقبل، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقل: علا عليها علو ملك وسلطان، لا علو انتقال وزوال. ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله) [13].
أما قوله (لا علو انتقال وزوال) فلا إشكال فيه، لأن السلف يثبتون ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات ومن ذلك الاستواء والنزول مع نفي علم الخلق بالكيفية، وعدم إثبات ما لم يثبته الله لنفسه ولا أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم كالانتقال والزوال.
وأما قوله: (فقل علا عليها علو ملك وسلطان)، فإثبات الطبري رحمه الله تعالى لصفة الاستواء بمعنى العلو والارتفاع واضح في تفسيره، وكذلك عدم تأويل العلو عن معنى علو الذات واضح في كلامه السابق، فلم يبق إلا احتمال أنه تأول آيات الاستواء التي فيها حرف ثم وهو الاستواء الفعلي مع إثباته الاستواء الذاتي أو أنه قال ذلك على سبيل الإلزام.
فقوله: (هرباً عند نفسه من أن يلزمه بزعمه - إذا تأوله بمعناه المفهم كذلك - أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها) فيه إشارة إلى معنى ثم التي تعني التراخي في الزمن وتوهم أنه تعالى ذكرُه كان تحتها، وحرف العطف ثم يعني المشاركة في الحكم مع الترتيب والتراخي في الزمن، مثل قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ} وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ}.
وأما قوله في تفسير قوله تعالى: {الرَّحْمَـٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ} في تفسير سورة طه في المصدر السابق: (وقد بينا معنى الاستواء بشواهده فيما مضى، وذكرنا اختلاف المختلفين فيه، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع) فإنه يشير إلى مطلق معنى الاستواء واختلاف الناس فيه، لا إلى إثبات أو نفي صفة الاستواء لله عز وجل، لأنه يشير ولابد إلى سورة البقرة، لأنها أول آية ذكر فيها الاستواء فيما أظن.
وفي آية البقرة عُدي الفعل (استوى) بإلى، ولذا ذكروا فيها معنى قصد وأقبل، بخلاف المواضع التي عدي فيها بعلى.
ومما قد يدل على أن تأويله لمعنى العلو قد يكون بغرض الإلزام قوله: (ثم لن يقول في شيء من ذلك قولاً إلا ألزم في الآخر مثله)، وابن جرير معروف بتنويع الردود ومنها مسلك الإلزام.
يؤكد إنكاره على من تأول الصفات على غير معناها الظاهر قوله: (والعجب ...) وقوله: (تأويله المستنكر).
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند السويد
يوم الأحد 21 مُحرم 1439هـ، 15 أكتوبر 2017م.

المصادر

[1] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج3/ص41-42)، تحقيق؛ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، الناشر؛ مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، عام النشر؛ 1416هـ/1995م.
[2] درء تعارض العقل والنقل (ج7/ص 15)، تحقيق؛ الدكتور محمد رشاد سالم، الناشر؛ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1411هـ - 1991م.
[3] بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (5/127)، تحقيق؛ مجموعة من المحققين، الناشر؛ مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، الطبعة الأولى، 1426هـ.
[4] تفسير الطبري (ج17/ص531)؛ الإسراء » 79، تحقيق؛ أحمد محمد شاكر، الناشر؛ مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 
[5] مختصر العلو للعلي العظيم (ص 14)، حققه واختصره؛ محمد ناصر الدين الألباني، الناشر؛ المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية 1412هـ-1991م.
[6] مختصر العلو للعلي العظيم (ص 16)، الطبعة السابقة.
[7] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج5/ص527)، الطبعة السابقة.
[8] مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (1/ 196)، جمع وترتيب؛ فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان، الناشر؛ دار الوطن - دار الثريا، الطبعة الأخيرة، 1413هـ.
[9] مجموع الفتاوى (ج13/ص104)، الطبعة السابقة.
[10] زاد المسير في علم التفسير (ج2/ص24)؛ الأنعام » 34، تحقيق؛ عبد الرزاق المهدي، الناشر؛ دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1422هـ.
[11] فتح الباري شرح صحيح البخاري (ج13/ص523)، الناشر؛ دار المعرفة، بيروت، 1379هـ، ترقيم؛ محمد فؤاد عبد الباقي، إخراج وتصحيح؛ محب الدين الخطيب.
[12] تفسير الطبري (ج23/ص237)؛ المجادلة » 8، الطبعة السابقة.
[13] تفسير الطبري (ج1/ص430)؛ البقرة » 29، الطبعة السابقة.

رجوع إلى قسم شبهات وردود

هناك 3 تعليقات:

  1. اثبات الطبري رحمه الله لعلو الله رغما عن انوف المعطله الذين اضاعوا ربهم لايعلمون اين هو

    بالمصادر



    ١

    تفسير الطبري - (ج 19 / ص 581)
    وقوله:( لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ) يقول: انظر إلى معبود موسى، الذي يعبده، ويدعو إلى عبادته( وَإِنِّي لأظُنُّهُ ) فيما يقول من أن له معبودا يعبده في السماء، وأنه هو الذي يؤيده وينصره، وهو الذي أرسله إلينا من الكاذبين; فذكر لنا أن هامان بنى له الصرح، فارتقى فوقه.

    ٢

    تفسير الطبري - (ج 23 / ص 237)
    وعني بقوله:( هُوَ رَابِعُهُمْ )، بمعنى: أنه مشاهدهم بعلمه، وهو على عرشه. كما حدثني عبد الله بن أبي زياد، قال: ثني نصر بن ميمون المضروب، قال: ثنا بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان، عن الضحاك، في قوله:( مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ ) ... إلى قوله:( هُوَ مَعَهُمْ ) قال: هو فوق العرش وعلمه معهم( أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .


    ٣

    تفسير الطبري - (ج 23 / ص 513)
    يقول تعالى ذكره:( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ) أيها الكافرون( أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ) يقول: فإذا الأرض تذهب بكم وتجيئ وتضطرب( أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ) وهو الله( أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ) وهو التراب فيه الحصباء الصغار( فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ) يقول: فستعلمون أيها الكفرة كيف عاقبة نذيري لكم، إذ كذبتم به، ورددتموه على رسولي


    ٤


    تفسير الطبري - (ج 21 / ص 387)
    ( وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا ) يقول: وإني لأظنّ موسى كاذبا فيما يقول ويدّعي من أن له في السماء ربا أرسله إلينا.تفسير الطبري - (ج 23 / ص 237)
    قوله:( هُوَ مَعَهُمْ ) قال: هو فوق العرش وعلمه معهم

    وبعد هذا ينسبوا له التفويض ؟



    ٥


    تفسير الطبري - (ج 19 / ص 580)
    القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) }
    يقول تعالى ذكره: وقال فرعون لأشراف قومه وسادتهم:( يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) فتعبدوه، وتصدّقوا قول موسى فيما جاءكم به من أن لكم وله ربا غيري ومعبودا سواي( فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ ) يقول: فاعمل لي آجرا، وذُكر أنه أوّل من طبخ الآجر وبنى به.


    ٦


    تفسير الطبري - (ج 19 / ص 581)
    وقوله:( لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ) يقول: انظر إلى معبود موسى، الذي يعبده، ويدعو إلى عبادته( وَإِنِّي لأظُنُّهُ ) فيما يقول من أن له معبودا يعبده في السماء، وأنه هو الذي يؤيده وينصره، وهو الذي أرسله إلينا من الكاذبين; فذكر لنا أن هامان بنى له الصرح، فارتقى فوقه.


    ٧


    تفسير الطبري - (ج 17 / ص 220)
    القول في تأويل قوله تعالى : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) }
    يقول تعالى ذكره: يخاف هؤلاء الملائكة التي في السموات ، وما في الأرض من دابة، ربهم من فوقهم، أن يعذّبهم إن عَصَوا أمره ،ويفعلون ما يؤمرون ، يقول: ويفعلون ما أمرهم الله به، فيؤدّون حقوقه ، ويجتنبون سُخْطه.

    ردحذف
    الردود
    1. جزاك الله خيراً على هذه النقولات وبارك الله فيك.

      حذف
  2. غير معرف3/07/2024 01:43:00 م

    أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف