الحكم بغير ما أنزل الله

من أسباب فتنة الغلو في التكفير أن الحُكم من الألفاظ المجملة التي يكون معناها حسب السياق، ولذا كانت من المتشابه على الجاهل ومن في قلبه زيغ، والراسخون في العلم يحملون المتشابه على المُحكم فيما يمكن تأويله، ويعملون بالمحكم ويفوضون علم ما لا يعلمون من المتشابه إلى الله سبحانه وتعالى.
الحُكم لغةً هو إثبات أمرٍ لأمر أو نفيه عنه، ومعناه في الاستعمال حسب مورده ومنه؛ التشريع، والتقنين (القرار العام في الدولة والمجتمع)، وتولي الشؤون العامة في الدولة والمجتمع، والفصل في النزاعات والقضاء في الأعيان.
الحُكم بغير ما أنزل الله على وجه القانون العام من الكبائر العظيمة التي هي كفرٌ محتمل، فيُشترط لتكفير فاعله استحلاله أو اتخاذه فكراً أو ديناً كالشريعة أو مقدماً عليها.
وكبائر الذنوب متفاوتة في الإثم، فمنها الموبقات ومنها دون ذلك، والموبقات متفاوتة وما دونها كذلك متفاوتة.
وأما قول الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} فهو أصالةً في الكفر الأكبر وفيمن جحد ما أنزل الله وحكم بغيره معتقداً صلاحه، وتتضمن الآية معنى الكفر الأصغر أيضاً.
وقد قال بالمعنيين ابن عباس رضي الله عنهما، ومن تأمل ما نقل عنه يفهم أن مراده هو أن الآية أصالة في الكفر الأكبر وأن هذا المعنى هو فيمن جحد ما أنزل الله مع تضمنها معنى الأصغر في حق المقرِّ بذنبه.
ويدل على هذا المعنى أيضاً مجموع أقوال السلف وسياق الجملة وسباقها في الآية.
مما يدل من كلام ابن عباس رضي الله عنهما أنها في الكفر الأكبر أصالة قوله: (من جحَد ما أنزل اللهُ فقد كفرَ، ومن أقرَّ به ولم يحكمْ فهو ظالمٌ فاسقٌ)، قال الألباني رحمه الله تعالى: (فيه ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس، لكنه جيد في الشواهد) [١].
ففرق ابن عباس رضي الله عنهما بين الكفر من جهة والظلم والفسق من جهة أخرى، فعد الجحود كفراً وعد الحكم بغير ما أنزل الله مع الإقرار فسقاً وظلماً.
وقد فرق الشارع بين الكفر والفسق في قول الله تعالى: (سِبابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وقِتالُهُ كُفْرٌ) [٢].
والكفر لغةً يعني التغطية، والفسق لغةً هو الخروج، وفي الاصطلاح؛ تنصرف كلمة الكفر أصالةً إلى الأكبر، وكلمة الفسق تنصرف أصالةً إلى ما دون الكفر، وهذا عند عدم وجود دليل يدل على خلاف هذه المعاني.
فقد ترد كلمة الكفر بمعنى الأصغر أو الكبيرة كما لو أبهمت، وعندئذ يكون معنى الفسق المقابل لها ما دون ذلك، كما في قول النبي ﷺ: (سِبابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وقِتالُهُ كُفْرٌ).
ومن ذلك قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
ومما يدل على أنَّ {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} فيمن جحد ما أنزل الله؛ سباقها، ويدل سياقها على أنها في الكفر الأكبر أصالةً.
أما دلالة السياق على أنها في الكفر الأكبر؛ فلتعريف الكافرين باللام وورودها بصيغة الخبر مع ضمير الفصل "هو"، ولأنها في اليهود الذين حرفوا الشرع واتخذوا غيره سنة متبعة.
فتعريف الكفر باللام يدل على أنه الأكبر ما لم يصرفه صارف في ذات السياق أو بدليل آخر في درجته.
قال ابن تيمية رحمه الله؛ (وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس بين العبد وبين الكفر - أو الشرك - إلا ترك الصلاة) وبين كفر منكر في الإثبات، وفرق أيضاً بين معنى الاسم المطلق إذا قيل: كافر أو مؤمن، وبين المعنى المطلق للاسم في جميع موارده كما في قوله: (لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض)) [٣].
وفائدة ضمير الفصل المعنوية هي تأكيد الخبر، وقد تدل على الاختصاص، فقول؛ "زيد هو الكريم" يعني أنه قد بلغ درجة عالية في الكرم وكأنه اختص به، فكذلك قول الله تعالى ذكرُهُ: {فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} يعني أنهم قد بلغوا دركة سحيقة في الكفر وكأنهم اختصوا به.
أما دليل السباق على أن الآية أصالةً فيمن جحد ما أنزل الله؛ فما ورد فيها من صفات التوراة والنبيين والمبدلين لكلام الله، فقد ورد فيها أن الله جل ثناؤه استحفظ الربانيين والأحبار كتاب الله، وورد فيها النهي عن الشراء بآيات الله ثمناً قليلاً، واستحفظوا تعني أنهم استؤمنوا على الكتاب بألا يبدلوا ولا يغيروا معانيه.
والمعلوم أن أهل الكتاب حرفوا المعاني والألفاظ واشتروا بذلك ثمناً قليلاً، فدلت الآية على أنها فيهم ومن سلك سبيلهم بجحود ما أنزل الله وتبديله وتغييره تديناً أو باتخاذه فكراً ورؤية كما لو كان بتحليل الحرام وتحريم الحلال.
وفي الآية كذلك ذكر أن التوراة فيها هدىً ونور، ففيها اهتداء النبيين والربانيين والأحبار بالتوراة واستنارتهم بها وحكمهم بها، فدلت على أن الكفار هم من يقابلهم، وهم من لا يهتدون بالوحي ولا يستنيرون به، وهذا حال المبدلين للشرع الجاحدين ما أنزل الله مع حُكمهم بغيره.
ومما يدل من سباق الجملة أن الآية تتضمن معنى الكفر الأصغر أنه ورد فيها الحكم العملي بما أنزل الله؛ {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ}.
وما كان كفراً أكبر فهو يتضمن معنى الكفر المُحتمل، وذلك لأن المنافقين يتظاهرون بالإسلام، فهؤلاء يقرون ظاهراً باعتقادهم في الشرع ويبطنون اعتقادهم الباطل مع حكمهم بغير ما أنزل الله غالباً أو على وجه التقنين العام.
ولأن الكفر المحتمل يحتمل الأكبر والأصغر، فالآية تتضمن معنى الكفر الأصغر أيضاً.
والكفر شعب و دركات متفاوتة كما أن الإيمان شعب، وعلة الكفر الأكبر في الآية مركبة من جزأين؛ الاعتقاد القلبي، والحكم العملي، فالأول شرك في الربوبية لاتخاذ غير الله تعالى مشرعاً، والثاني شرك في العبادة لطاعة غير الله فيما لم يأذن به مع اعتقاد صلاح العمل المخالف لشرع الله.
قال الله تعالى ذكرُهُ: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.
وتعدد الألفاظ في القرآن لابد له من معنىً وفائدة، وقد تعدد الوصف بالكفر تارةً وبالظلم تارةً وبالفسق أخرى، ونجد عند تأمل الآيات أن كل وصف في كل آية يناسب سياقها.
فقد ورد في الآية التي ذكرت فيها صفة الظلم بيان أن المعاملة في الشريعة بالمثل والتي هي غاية في العدل.
قال الله جل ثناؤُهُ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
وأما الآية التي وردت فيها صفة الفسق؛ ففيها الأمر بالحكم بما أنزل الله عملياً، وهي قول الله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
ومما يدل على صحة ما سبق ما نقل عن السلف من أقوال في معاني الآيات، وأكثر ما نقل عنهم من معانٍ مُرادة بالآيات لكونها معانٍ صحيحة وليس فيها تضاد، وذلك لأن من قواعد التفسير أن كل الأقوال غير المتضادة المنقولة عن السلف مُرادة إذا كان معنى النص يحتملها.
وخلاف التضاد في بعض ما نقل عن السلف ليس في أن مجرد الحكم بغير ما أنزل الله كفرٌ أصغر، وإنما هو في مثل قول الشعبي رحمه الله تعالى في الآية التي فيها وصف الكفر بأنها في المُسلمين وقول غيره بأنها في اليهود.
قال الشيخ الإمام الألباني رحمه الله تعالى: (روى ابن جرير الطبري بإسناد صحيح عن ابن عباس: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} قال: (هي به كفر، وليس كفراً بالله وملائكته وكتبه ورسله).
وفي رواية عنه في هذه الآية: (إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفراً ينقل عن الملة، كفر دون كفر). أخرجه الحاكم وقال: "صحيح الإسناد". ووافقه الذهبي، وحقهما أن يقولا: على شرط الشيخين، فإن إسناده كذلك) [٤].
وقال أيضاً: (وروى من طريقين عن عمران بن حدير قال: (أتى أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس (وفي الطريق الأخرى: نفر من الإباضية) فقالوا: أرأيت قول الله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} أحق هو؟ قال: نعم. قالوا: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون} أحق هو؟ قال: نعم. قالوا: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} أحق هو؟ قال: نعم.
قال: فقالوا: يا أبا مجلز فيحكم هؤلاء بما أنزل الله؟ قال: هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون وإليه يدعون -[يعني الأمراء]- فإن هم تركوا شيئاً منه عرفوا أنهم أصابوا ذنباً. فقالوا: لا والله، ولكنك تفرق. قال: أنتم أولى بهذا مني! لا أرى، وإنكم أنتم ترون هذا ولا تحرجون، ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك، أو نحواً من هذا)، وإسناده صحيح) [٥].
عن عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه قال: (أتيتُ النَّبيَّ ﷺ وفي عنقي صليبٌ من ذَهبٍ. فقالَ يا عديُّ اطرح عنْكَ هذا الوثَنَ وسمعتُهُ يقرأُ في سورةِ براءةٌ ﴿اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْبابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ قالَ أما إنَّهم لم يَكونوا يعبدونَهم ولَكنَّهم كانوا إذا أحلُّوا لَهم شيئًا استحلُّوهُ وإذا حرَّموا عليْهم شيئًا حرَّموه) [٦].
ومما يكفر به بعض غلاة التكفير من مسائل الحكم؛ التحاكم العملي لقضاء غير شرعي في المسائل النصية المعلومة، وذلك بفهمهم الذي لم يتبعوا فيه أهل العلم لقول الله تعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ ويُرِيدُ الشَّيْطانُ أنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا﴾.
قال الطبري رحمه الله تعالى في معنى هذه الآية: (يعني إلى: من يعظمونه، ويصدرون عن قوله، ويرضون بحكمه من دون حكم الله) [٧].

المصادر

[١] السلسلة الصحيحة(ج٦/ص١١٣-١١٤)، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض الطبعة الأولى، ١٤١٦هـ - ١٩٩٦م.
[٢] أخرجه البخاري (٤٨)، ومسلم (٦٤).
[٣] اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (ج١/ص٢٣٧-٢٣٨)، تحقيق؛ ناصر عبد الكريم العقل، دار عالم الكتب، بيروت – لبنان، الطبعة السابعة، ١٤١٩هـ - ١٩٩٩م.
[٤] موسوعة الألباني في العقيدة (ج٤/ص٤٢٥-٤٢٦)، صَنَعَهُ؛ شادي بن محمد بن سالم آل نعمان، الناشر؛ مركز النعمان للبحوث والدراسات الإسلامية وتحقيق التراث والترجمة، صنعاء - اليمن الطبعة: الأولى، ١٤٣١هـ - ٢٠١٠م.
[٥] موسوعة الألباني في العقيدة (ج٤/ص٤٢٦-٤٢٧)، الطبعة السابقة.
[٦] سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (ج٧/‏ص٨٦١).
[٧] تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (ج٨/ص‏٥٠٧).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق