قتل النفس المحرَّمة

قد وردت نصوص كثيرة في النهي عن قتل النفس التي حرم اللهُ إلَّا بالحق. من ذلك قول الحق تبارك وتعالى: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) }[1]. ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِى فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)[2]. ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ)[3].
ومع ورود الأدلَّة الكثيرة في حُرمة قتل النَّفس بغير حق والوعيد الشديد لقاتل النفس والنهي عن الإفساد في الأرض، إلا أنَّ الغلاة الذين يدعون الإصلاح استسهلوا الأمر، وأباحوا بشبهات قتل الأنفس وتدمير الممتلكات وترويع الآمنين، كما حدث من تفجيرات استهدفت سياحاً غربيين أو منشآت حُكومية أو أجنبية في بلاد المسلمين كمصر وإندونيسيا والسعودية والمغرب، وفي بلاد غير المسلمين في دول إفريقية وآسيوية وغربيَّة والتي انتهكت فيها دماء معصومة من دماء المسلمين وغيرهم.
يقول اللهُ عزَّ وجل: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) }[4]. قال أبوالعباس ابن تيمية رحمه اللهُ تعالى عند كلامه على هذه الآية: (وإن كان قتل النفوس فيه شرّ فالفتنة الحاصلة بالكفر وظهور أهله أعظم من ذلك، فيدفع أعظم الفاسدين بالتزام أدناهما)[5]، فهذا يَدلُّ على أَنَّ القتل والإتلاف والتدمير مفسدةٌ من حيث الأصل، وإِنَّما أُجيز منه ما يدرأُ الفتنة ويحقِّق المصلحة، فإذا لم يكن فيه مصلحةٌ كان مفسدةً محضة.
من أكثر ما استمسكوا به من شبههم مسألة التبييت وقتل الترس، وطلباً للاختصار إليك الشروط التي ذكرها أهل العلم في هذه المسألة، وأترك المقارنة بين هذه الشروط وأفعال الغلاة للقارئ الكريم.
الشرط الأول؛ وجود الضرر الأعظم، ومن ذلك أن يكون القتال أو الالتحام أو الإفساد قائماً، قال ابن قدامة رحمه اللّه: (وإن تترسوا بمسلم ولم تدع حاجة إلى رميهم لكون الحرب غير قائمة، أو لإمكان القدرة عليهم بدونه، أو للأمن من شرِّهم، لم يجز رميهم)[6]. وقال الإمام الشافعي رحمه اللهُ: (وإذا تترسوا بالصبيان المسلمين أو غير المسلمين والمسلمون ملتحمون فلا بأس أن يعمدوا المقاتلة دون المسلمين والصبيان، وإن كانوا غير ملتحمين أحببت له الكف عنهم حتى يمكنهم أن يقاتلوهم غير متترسين)[7].
الشرط الثاني؛ التعيُّن، بمعنى أنَّه لا يمكن إزالة الضرر الأكبر ولا التوصُّل إلى رمي المحاربين من الكفار إلا برمي الترس، كما سبق في قول ابن قدامة رحمه الله، وقال الإمام النووي رحمه اللّه: (لو تترس الكفَّار بمسلمين من الأسارى وغيرهم، نظر إن لم تدع ضرورة إلى رميهم واحتمل الحال الإعراض عنهم لم يجز رميهم)[8].
الشرط الثالث؛ رُجحان الضرر المراد إزالته، بمعنى أنَّ الضرر الذي يُخشى في حال ترك الرمي أشدَّ من الضرر الحاصل برمي الترس، قال ابن تيمية رحمه اللّه تعالى: (فإذا كان الرجل يفعل ما يعتقد أنَّه يُقتل به لأجل مصلحة الجهاد، مع أنَّ قتله نفسه أعظم من قتله لغيره، كان ما يفضي إلى قتل غيره لأجل مصلحة الدِّين التي لا تحصل إلا بذلك، ودفع ضرر العدو المفسد للدِّين والدنيا الذي لا يندفع إلَّا بذلك من باب أولى)[9].
الشرط الرابع؛ أن يكون حدوث الضرر المراد إزالته قطعيَّاً أو بظن غالب، حيث لا يجوز العمل بالوهم وهو الظن المرجوح، وهذا أمرٌ معلوم بالشرع والفطرة السليمة.
الشرط الخامس؛ أن يقصد رمي العدو لا الترس، كما سبق في كلام الشافعي رحمه الله، وقال ابن قدامة رحمه الله: (وإن دعت الحاجة إلى رميهم للخوف على المسلمين، جاز رميهم، لأنها حال ضرورة ويقصد الكفار) [10].
الشرط السادس؛ أن تكون للضرر المراد دفعه أمارات في الحال تدل على احتمال وقوعه بظن غالب، لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ}، والمخمصة هي الجوع الشديد الذي يتوقع أن يترتب عليه ضرر بظن غالب.
فإذا قال قائِل؛ أليس من الممكن أن يخطئ الإنسان في تقدير المصلحة وحدِّ الضرورة؟ وقد قال شيخ الإسلام في أحكام الضرورات والتعارض والتزاحم أنَّ المتوسِّطين قد لا يتبيَّن لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة من المضرَّة، وأليس كلُّ مجتهد معرَّضٌ للخطأ؟
فجواب ذلك هو أن الكلام هنا ليس عن خطأٍ في واقعة، بل عن منهجٍ منحرف، فمن كان فكره مبنيٌّ على أنَّ القدرة لا تكون شرط صحَّة بحال من الأحوال، أو أنَّه يكفي تحقيق بعض المصالح القليلة مثل تجرئة قلوب المؤمنين دون النظر فيما يقابلها من مفاسد، أو أنَّه لا ينظر إلى مصلحةٍ ولا إلى مفسدة، فماذا يُتوقَّع حينئذٍ؟
وأما الخطأ في واقعة أو مسألة ققد تقدَّم أنَّ خالداً رضي الله عنه قتل ناساً خطأً وأخذ أموالهم بنوع شبهة، فأعطى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الدية في الأنفس وضمِن الأموال، والخطأ ولو في واقعة أو مسألة يُذَمُّ صاحبه إذا لم يكن من أهل الاجتهاد، وكان من العابثين بأمور الإسلام والمسلمين، لذا قال النَّبي صلى الله عليه وسلم فيمن أفتى المشجوج بغير علم: (اللهمَّ إنَّي أبرءأُ إليك مما فعل خالد)، ولم يقل أبرأ إليك من خالد.
وقصة المشجوج وردت عن جابر رضي الله عنه حيث قال: (خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجَّه في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك، فقال: "قتلوه قتلهم اللهُ، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر، أو يعصب عن جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده")[11].

المصادر

[1] سورة النساء، الآية رقم 93
[2] صحيح البخاري، الديات، 6862
[3] سنن النسائي، تحريم الدم، 4004
[4] سورة البقرة 217
[5] مجموع الفتاوى (ج28/ص513)
[6] المغني (ج9/ص288)، مكتبة القاهرة، 1388هـ - 1968م.
[7] الأم (ج4/ص306)، دار المعرفة – بيروت، 1410هـ-1990م.
[8] روضة الطالبين (ج10/ص 246)، تحقيق؛ زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت- دمشق- عمان، الطبعة الثالثة، 1412هـ/1991م.
[9] مجموع الفتاوى (ج28/ص540)
[10] المغني (ج9/ص288)، مكتبة القاهرة، 1388هـ - 1968م.
[11] سنن الدارمي، الطهارة، 692 ورواه أبوداوود وابن ماجة والدارقطني وابن حبان والحاكم.

pdf
القدرة قد تكون شرط صحَّة أو وجوب   المحتويات   استهداف المدنيين والمعاملة بالمثل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق