استهداف المدنيين والمعاملة بالمثل

يحرم قتل الرجال المدنيين القادرين على القتال من أهل الحرب حتى ولو لم يكن لهم عهد ولا أمان ولا ذمة، وعليه الإجماع عند الاتفاق مع غير المُسلمين عليه.
فقد دلت النصوص الصريحة المستفيضة ودل الإجماع على وجوب الوفاء بالعقود وتحريم الغدر.
وفي التعاقد على منع قتل المدنيين تحقيق مصالح ضرورية، ففيه حفظ نفوس المسلمين والإحسان إلى الناس أجمعين.
والإجماع منعقد كذلك على تحريم قتل المستأمَن (بفتح الميم) والمستأمِن (بكسر الميم) من المحاربين، بمعنى المحارب يدخل بلاد المسلمين بأمانهم، والمسلم يدخل دار الحرب بأمانهم.
بل الصحيح قطعاً عدم جواز قتل الرجال المدنيين مطلقاً.
وذلك لأن قياس سائر المدنيين على من وردت النصوص بالنهي عن قتلهم قياس جلي تعضده مجموع النصوص في الحرب والسلم والرحمة بالخلق وقصد هدايتهم.
والقياس الجلي في حكم المنصوص عليه.
ولو جاز قتل المدني لجاز قتل الراهب من باب أولى، وتحريم قتل الرهبان هو قول الجمهور، وقيل أنه سنة الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
ودلالة النصوص المستفيضة قطعية على أن الغاية من الرسالة هي الرحمة بالخلق وهدايتهم لا قتلهم.
ودلالة النصوص قطعية على أن أحكام القتال كلها مبنية على منع عدوان الكفار وسد ذرائعه والمعاملة بالمثل، أنظر مبحث؛ سبب مشروعية الجهاد، ومبحث؛ سبب مشروعية الإرقاق.
وأما ما ورد من الأمر بقتل كل من أنبت من بني قريظة إن صح فيُحمل على أن كل رجالهم كانوا مشاركين في القتال، يدل على ذلك أن حكم قتلهم كان إقراراً لقول سعد بن معاذ رضي الله عنه: (فإني أحكم أن تقتل مقاتلتهم).
وقد يكون المدني معارضاً للعدوان أو جاهلاً به، فكيف يجوز قتل من يعارض العدوان ومن لا يعرف عن الحرب شيئاً؟
قال ابن تيمية رحمه الله: (وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة، كالنساء والصبيان، والراهب والشيخ الكبير، والأعمى والزمن ونحوهم فلا يقتل عند جمهور العلماء، إلا أن يقاتل بقوله أو فعله) [١]، وقال أبضاً: (وذلك أن الله تعالى أباح من قتل النفوس، ما يُحتاج إليه في صلاح الخلق، كما قال تعالى: ﴿والفتنة أكبر من القتل﴾، أي أن القتل، وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه، فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه) [٢].
وأمّا فتوى بعض المعاصرين بجواز المعاملة بالمثل في استهداف النساء والأطفال فتُعد من زلات العلماء، وذلك لأنه قول محدث لم يقل به أحد من السلف أو السابقين، وقد حدث استهداف النساء والأطفال في عدوان الكفار من التتار وغيرهم على المسلمين.
وقد كان استهداف النساء والأطفال موجوداً قبل الرسالة قطعاً، وقد دلت النصوص على تحريم قتلهم مع احتمال وجود استهدافهم من بعض الكفار أيام الرسالة.
ولا يُقاس القتل على الأسر ولا على الدية على العاقلة في المؤاخذة بجريرة الغير للفارق بين الأصل والفرع، ولأن في الأسر مصلحة للأسير بدخوله في الإسلام أو بتعجيل بعض العقوبات له في الدنيا إذا استمر على كفره.
هذا إضافة إلى ما في الأسر من مصالح للمسلمين، وهو عقوبة للمقاتلين من الكفار ونكاية فيهم وليس عقوبة للأسرى من غير المقاتلين لما سبق.

تعريف المدني

مصطلح المدني حديث، ولكن حقيقة المسألة متصورة منذ القرن الأول.
وقول ابن تيمية رحمه الله ما معناه أن القتال على الجند أوجب للعهد والرزق (الراتب) معناه أن وجوبه على المدني أقل درجة، فالجندي عاهد الله ثم قيادته والناس على الدفاع عن الدين والأرض والناس وممتلكاتهم.
وأول من أعطى العطايا للجند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان المقاتلون يعطون من الغنيمة.
وكان كل الناس مقاتلين في عهد الرسالة، ولكن النبي ﷺ ما كان يستنفر كل المقاتلين في كل حال.
وتركت تعريف المدني لأنه معلوم، وليكون الكلام ميسراً، فتعريف المعروف تعقيد.
والحد (الجامع المانع) جيد لا سيما للمختصين خاصة النصوص القانونية لأنه أضبط، ولكن اشتراطه في كل تعريف تكلف.
وقد ورد في السنة التعريف بالمثال، والقرآن ميسر للذكر والفهم، بلغة الناس لا لغة أهل اختصاص، وكان البيان النبوي ميسراً، كالبيان بالعمل في الوضوء والصلاة والحج؛ (من توضأ نحو وضوئي هذا)، (صلوا كما رأيتموني أصلي)، (خذوا عني مناسككم).

المصادر

[١] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج٢٨/ص٣٥٤)، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
[٢] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج٢٨/ص٣٥٥)، الطبعة السابقة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق