دفاع عن نصوص الوحي الشريف ٢

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل القرآن هدىً للناس، يهدي به كثيراً، ويضل به كثيراً، وما يضل به إلا الفاسقين. فمن ابتغى الهدى في غيره أضله الله. والصلاة والسلام على من أعطاه الله بيان القرآن. وجعل سنته روحاً تحيا به القلوب ونوراً تستنير به الأبصار والقلوب.
في مقال له بصحيفة الرأي العام بتاريخ الخميس 13 مايو 2010م عاد بابكر فيصل بابكر هداه الله لهجومه على النصوص الشرعية بدءاً من عنوان مقاله، حيث عنون له ب "مدافع السلفية: العقلانية في ميزان مرمى سدنة النصوص"، حيث لا يزال يؤكِّد على ذم سدنة وخدمة النصوص الشرعية، وما علم أنَّ ذلك شرف عظيم يتشرف به المسلم الذي ذاق حلاوة الإيمان وأيقن بصدق النصوص الشرعية وعلو منزلتها، لأنَّها نصوص من وحي الله سبحانه وتعالى الذي أحاط بكل شئ علماً. وصدق من قال بأنَّ الوحي للعقل مثل ضوء الشمس للعين، فكما أنَّ العين لا ترى من غير ضوء، فإنَّ العقل يظل عاجزاً عن المعرفة والإدراك لكثير من الأمور من غير الوحي.
استمر في مدح المعتزلة قائلاً بأن حركتهم قامت على أساس الدفاع عن الإسلام ضد معارضيه، وهذا يدل إما على جهل بتاريخ المعتزلة وأسباب ظهورهم، أو بقصد التضليل والتلبيس. نعم دافع بعضهم عن الإسلام، وقد أجادوا في بعض ذلك وأساؤوا في بعض، ولكن إجادتهم لم تأت من علم الكلام وما يسمى بعلم المنطق، وإنما أتت من جهة كونهم مسلمين لا يخرجون عن دائرة أهل القبلة، وذلك لاستفادتهم من نصوص الوحي الشريف. وأما ادعاؤه أن السلفيين عجزوا عن الدفاع عن الإسلام ورد شبهات اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الملل والنحل بالعقل والمنطق فهو ما عليه إثباته وأنَّى له ذلك. فإنَّ لشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب بعنوان "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح"، فيه رد عليهم من كتبهم، ولتلميذه ابن القيم كتاب بعنوان "هداية الحيارى في الرد على اليهود والنصارى" فيه تفاسير لنصوص في الكتب التي تسمى بالمقدسة عند اليهود والنصارى. بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية رد حتى على المعتزلة والجهمية بسلاحهم وهو المنطق والعقل إضافة إلى نصوص الوحي، وهذا ما فعله سائر العلماء السلفيُّون في مختلف العصور.
وقد أشرت في مقالي السابق إلى أنَّ ما عند البشر من أخلاق فاضلة ومن تعاليم صحيحة هي من عند الله عز وجل وهي من بقايا تعاليم الرسل، وأن تقدم الغرب مبني على أساس بقايا من تعاليم صحيحة عندهم في كتابهم المقدس، وعلى الاستفادة من آخر رسالة للإسلام وهي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم في كثير من شؤونهم السياسية والاجتماعية والإدارية والقانونية، إضافة إلى اجتهادهم فيما هو مباح شرعاً من العلوم الإدارية والهندسية ونحوها. ولولا رحمة الله عز وجل بالناس وإبقائه لتلك التعاليم الصحيحة لفسدت الحياة البشرية، ولما استقامت للناس حياة. وهذا الذي جعل بعض المسلمين يفتخرون بعطاء علماء مسلمين في الحضارة المعاصرة، وإن كان بعض هؤلاء العلماء فيه بدعة أو زندقة، وذلك لأنهم استفادوا من الوحي المنزل على خاتم الرسل حتى في علومهم الدنيوية.
لقد استفاد هؤلاء في بعض علومهم الدنيوية من كتب اليونان الفلسفية التي لم تكن تفصل بين العلوم المادية المشاهدة التي تعلم بالمشاهدة والتجربة مع إعمال المنطق والعقل وبين العلوم الغيبية التي لا سبيل لمعرفتها بهذا الطريق، حيث قام علماء المسلمين بمن فيهم من فيه بدعة بتنقيح تلك الكتب، وفصلوا بين ما هو فلسفي تطبيقي، وما هو فلسفي نظري لا فائدة تطبيقية من ورائه، وما هو فلسفي سفسطي. ولكن أهل البدعة والنفاق منهم لم ينقحوها على الوجه الأكمل، حيث بقيت عندهم كثير من الأباطيل والترهات، وقد نقلت فيما سبق مدح شيخ الإسلام ابن تيمية أبرز رموز الدعوة السلفية لعلماء مسلمين فيهم بدعة فيما أحسنوا فيه من هذه العلوم.
وفيما سبق رد على ما ادَّعاه بابكر من القول بأنَّ السلفيين في مأزق عندما يذكِّرون العالم أجمع بأنَّ الفضل الأكبر في النهضة الأوروبية يعود للعلماء المسلمين، لأنَّ السلفيين يشيرون بذلك إلى فضل الوحي حتى على أهل البدعة من المسلمين لأنهم من الأمة، بل وحتى على المنافقين لتأثرهم بالوحي من حيث لا يشعرون. ولعل فيما سبق إجابة أيضاً على التساؤلات التي طرحها في مقاله الأخير هذا عن حكم السلفيين على بعض العلماء الذين ذكرهم، نعم حَكَم علماء سلفيُّون على بعضهم بالبدعة وعلى بعضهم بالنفاق والزندقة. وأطرح له في المقابل ذات الأسئلة التي سألها: ما حكم بابكر فيصل في فيثاغورس؟ وما هو حكمه في أرسطو؟ وما هو حكمه في إسحق نيوتن؟ وما هو حكمه في أنشتين؟ فإن قال هم مسلمون مهتدون فقد أحدث أمراً لم يسبقه عليه أحد لا من المسلمين ولا من غيرهم، وإن قال كفار ضالون، ولكن كفرهم وضلالهم لا يمنع أن يكونوا قد أحسنوا في بعض الأمور فأقول له: هكذا القول في بعض العلماء المبتدعة من المسلمين أنهم أحسنوا في أمور وأساؤوا في أُخرى.
إلا أنَّ علم الكلام والمنطق الذي ورثه هؤلاء المبتدعة من اليونان لا يفيد إلا قليلاً في علوم الدنيا ولا يفيد في علوم الآخرة شيئاً لأنَّ فيه كما سبق كثير من التطويل، وكثير من الأباطيل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (لا يكاد ينتفع بهذه الصناعة المنطقية في هذه العلوم إلا قليلاً، فإن العلوم الرياضية؛ من حساب العدد، وحساب المقدار الذهني والخارجي، قد علم أنَّ الخائضين فيها من الأولين والآخرين مستقلون بها من غير التفات إلى هذه الصناعة المنطقية وإصطلاح أهلها، وكذلك ما يصح من العلوم الطبيعية الكلية، والطبية، تجد الحاذقين فيها لم يستعينوا عليها بشئ من صناعة المنطق، بل إمام صناعة الطب بقراط له فيها من الكلام الذي تلقاه أهل الطب بالقبول ووجدوا مصداقه بالتجارب، وله فيها من القضايا الكلية التي هي عند عقلاء بني آدم من أعظم الأُمور، ومع هذا فليس مستعيناً بشئ من هذه الصناعة، بل كان قبل واضعيها) .
وللفائدة أذكر قول شيخ الإسلام في فلاسفة اليونان الضلال بأنهم من أعقل الناس، وقد نقلت نحواً من هذا في المقال السابق، وهذا يدل على العدل والإنصاف حتى مع غير المسلمين حيث قال رحمه الله تعالى عنهم: ( واعلم أنَّ بيان ما في كلامهم من الباطل والنقض، لا يستلزم كونهم أشقياء في الآخرة إلا إذا بعث الله إليهم رسولاً فلم يتبعوه، بل يعرف به أن من جاءته الرسل بالحق فعدل عن طريقهم إلى طريق هؤلاء كان من الأشقياء في الآخرة، والقوم لولا الأنبياء لكانوا أعقل الناس، لكن الأنبياء جاؤوا بالحق وبقاياه في الأمم وإن كفروا ببعضه ) ، وهذا يدل على ما أشرت إليه سابقاً من معرفة شيخ الإسلام بكثير من العلوم الدنيوية النافعة التي أحسن فيها هؤلاء الفلاسفة، وفي كلامه أيضاً إشارة إلى أن ما عند اليونان من حق وخير وصدق هو من بقايا تعاليم الرسل.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن ما يُسمَّى بعلم الكلام والمنطق علم لا فائدة فيه لا في العلوم الدنيوية ولا في الأخروية في أكثر من موضع من الفتاوى، أنقل منها قوله: ( بل الذي وجدناه بالاستقراء أن الخائضين في العلوم من أهل هذه الصناعة أكثر الناس شكاً واضطراباً، وأقلهم علماً وتحقيقاً، وأبعدهم عن تحقيق علم موزون، وإن كان فيهم من قد يحقِّق شيئاً من العلم، فذلك لصحة المادة والأدلة التي ينظر فيها، وصحة ذهنه وإدراكه، لا لأجل المنطق، بل إدخال صناعة المنطق في العلوم الصحيحة يطول العبارة ويبعد الإشارة )
وتأكيداً لما نقلته عن شيخ الإسلام ابن تيمية السابق من أنَّ الفلاسفة المسلمين أصلحوا فلسفة اليونان مستفيدين في ذلك من نصوص الوحي الشريف التي يقلل الكاتب هداه الله من شأنها أسوق عبارة أخرى له في هذا المعنى وهي قوله عن ابن سينا الذي حكم عليه كثير من السلف بالزندقة والنفاق: ( فابن سينا أصلح تلك الفلسفة الفاسدة بعض إصلاح حتى راجت على من يعرف دين الإسلام من الطلبة النظار ) . وعلماء السلف إنما حكموا عليه بالزندقة والنفاق لما أحدثه في الدين ومن ذلك كلامه في النبوات وأسرار الآيات والمنامات، لا لأنه نبغ في الطب. ولو كان حكمهم عليه بسبب نبوغه في الطب لحكموا على كل طبيب بذات الحكم. وابن سينا درس على بعض الملاحدة وعلى بعض المعتزلة والرافضة.
ثم واصل في إساءته للمنهج السلفي مدَّعياً أنه ومنذ عهد الخليفة المتوكل توحدت السلفية مع السلطة لتغييب العقل إلى الآن، وهذا الكلام يشتمل على ثلاثة مجازفات: أولها: ادَّعاؤه أن السلفية تغيب العقل، والحق هو أن السلفية هي عين العقل والحكمة. ثانيها: ادِّعاء التحالف المستمر بين السلطة الحاكمة والسلفية وكأنه لم يسمع بسجن الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله تعالى إمام أهل السنة والجماعة وسجن ابن تيمية رحمه الله تعالى، وطرد ونفي وسجن كثير من السلفيين من قبل سلطات حاكمة على مدار التاريخ الإسلامي. ثالثها: نسبة كل السلطات المتعاقبة في التاريخ الإسلامي إلى السلفية، وهو بهذا يأتي بتعريف جديد للسلفية لم أر أنَّ أحداً سبقه إليه، ولهذا فهو يُدخل في مسمى السلفيَّة من لا ينتسب إليها من أمثال الدكتور حسن الترابي وغيرهم، ولعله ينسب جميع التيارات المناوئة للعلمانية إلى السلفية، ولكنه أذعن وسلم بأن أوروبا استفادت من الحضارة الإسلامية عند خروجها من العصور الوسطى إلا أنه جهل أسباب تقدم الحضارة الإسلامية والأوروبية.
وأما ما ذكره من غلو حدث من بعض "الإخوان" الذين ناصروا عبد العزيز بن سعود والذين رفضوا بعض المخترعات الحديثة فإن هذا لجهل هؤلاء، ومثل هذا الكلام لم يصدر من العلماء السلفيين وإنما صدر من الجهلة، قال الشيخ السعدي رحمه الله: ( أول ما جاء مكبر الصوت ووضع في المسجد فإن بعض كبار السن لم يعجبهم ذلك وظنوا أن في المسألة بدعة وان استخدام مكبر الصوت حرام، لكن هذا شأن كبار السن والأشخاص الذين لا يفقهون الأمر على وجهه )، وعلى بابكر أن يأتي بقول واحد من العلماء السلفيين يمنع المخترعات الحديثة، وأما أن يذكر كلام بعض الجهلة وينسبه إلى السلفيَّة فهذا حكم لا يصدر إلا من ظالم حاقد على السلفيَّة، وأما أهل العدل والإنصاف فإنهم يحكمون بموازين العدل والقسط، فإنَّ استخدام السلفيين لهذه المخترعات كما اعترف بذلك الكاتب يدلُّ على أنهم لا يحرمونها، وأما لماذا لم يخترعوا بأنفسهم؟ فالسبب ليس في ذات المنهج، وإنما خارجه، ولا يسمح هذا المقال المختصر بالخوض في الأسباب.
ثم قال: "ففي الوقت الذي أثبت فيه العلم (العقل) منذ عدة قرون كروية الأرض ودورانها حول الشمس، ما زال شيوخ التيار السلفي يعارضون هذه المسلمات والحقائق العلمية الساطعة ويقولون إنّ الأرض غير كروية ولا تدور حول الشمس"، وهذا الكلام فيه مجازفات كثيرة أبدأ بنقض اثنتين منها؛ الأولى: زعمه أنَّ العلم أثبت منذ عدة قرون كروية الأرض ودورانها حول الشمس، وهذا من جهله بتاريخ وتطور علم الفلك، فإن كروية الأرض كانت جدلية علمية عند بعض العلماء من غير المسلمين في الوقت الذي كانت فيه حقيقة ثابتة عند المسلمين سنيهم وبدعيهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفي عام 728هـ أبرز علماء الدعوة السلفية منذ ذلك القرن: ( هذا وقد ثبت بالكتاب والسنة وإجماع علماء الأُمَّة أنَّ الأفلاك مستديرة) . وقال في الفتاوى: (اعلم أن الأرض قد اتفقوا على أنها كرية الشكل وهي في الماء المحيط بأكثرها) . وأيضاً ادِّعاؤه أنَّ دوران الأرض حول الشمس حقيقة علميَّة ثابتة منذ قرون، بينما هي نظرية فلكية حديثة. وادِّعاؤه أن شيوخ التيار السلفي يعارضون كروية الأرض دون إثبات لدعواه ولنسبته هذا الكلام إلى العلامة ابن باز رحمه الله تعالى، والدعاوى إذا لم تقم على بينات أصحابها أدعياء، ويوجد كلام للشيخ ابن باز رحمه الله تعالى يكذب هذه الفرية في؛ موقع سماحة الشيخ ابن باز » تكذيب ونقد لبعض ما نشرته مجلة (المصور).
ومجازفة أخرى في كلامه السابق وهي ظنه بأن كل ما أثبته العلم يعدُّ حقيقة، وأنَّ كل حقيقة يُسفَّه كل من أنكرها. والسبب في ظنه بأنَّ كل ما في العلم حقيقة هو أنه متخصِّص فيما أظن في العلوم السياسية ولا دراية له بالعلوم التطبيقية والفيزيائية التي يتحدث عنها، وأما السبب في ظنه أنَّ كل حقيقة يسفَّه كل من أنكرها فلجهله ونقص علمه. وحتى تخصصه في العلوم السياسية فيبدو أنه تخصص في الجماعات الإسلامية التي يطلق عليها اسم السلفية جزافاً، وهو متأثر بالمستشرقين في علومه ودراسته، حيث أشار في مقاله هذا إلى أنه أعد رسالة في الدراسات العليا بجامعة دينفر، وأن جزءاً أساسياً منها في كتاب لسيد قطب.
فالحقائق العقلية الظاهرة التي تدركُّها كل العقول هي التي يُسفَّه من ينكرها، وهي مثل قاعدة أنَّ الكل أكبر من الجزء، وهي داخلة فيما يسميه الأصوليون بالأحكام العقلية، وأما الأحكام العقلية اليقينية الخفيَّة التي تحتاج إلى نظر ودراسة وبحث فلا يُسفَّه كل من أنكرها حتى ولو كانت حقائق ثابتة عند الدارسين أو عند بعضهم. ولفائدة القارئ فإنَّ الأحكام الشرعية اليقينية الظاهرة المعلومة من الدين بالضرورة يبدَّع أو يُكفَّر من أنكرها بشروط للتبديع والتكفير، وأما الأحكام اليقينية الخفية التي يختلف فيها العلماء، كأن يكون في المسألة نصٌّ علم به أحد الأئمة أو العلماء أو الصحابة وجهله الآخر فإنه لا يبدع القائل بخلافها في الأصل، وقد نص شيخ الإسلام على أن اليقين والظن أمر نسبي يختلف من شخص إلى آخر. والمقصود في بعض الأحكام، فوجوب الصلوات الخمس حكم شرعي يقيني وهو ليس نسبي.
الأمر الثاني الذي يجب أن يعرفه بابكر هو أن العلوم الفيزيائية وغيرها من العلوم الدنيوية يقسم الإدراك فيها إلى ثلاث أقسام، وهي تقسيمات تشبه بعض تقسيمات الأصوليين للإدراك إلا أنَّ تقسيمات الأصوليين أوسع وأدق، وليس هذا موضع بيان تقسيمات الإدراك عند علماء أصول الفقه. وأما الإدراك في العلوم الدنيوية فهي الفرضية، والنظرية ، والحقيقة العلمية، فالنظرية احتمال صحتها راجحة، وهي بهذا المفهوم مثل الظن عند علماء الفقه والأُصول، والحقائق العلمية هي مثل المسائل اليقينيَّة عند الفقهاء والأُصوليين، هذا في العلوم الطبيعية وأما في الرياضية فالنظرية بمعنى الحقيقة كنظرية فيثاغورس.
من أمثلة الحقائق العلميَّة الخفيَّة التي تدرك بالدراسة والنظر والاجتهاد مسألة دوران الأرض حول محورها، فاللَّيل والنَّهار وساعات اليوم تنتج عن اكتمال دوران الأرض حول محورها المائل عن الشمس بزاوية، وأما اكتمال دوران الشمس حول الأرض قديماً أو الأرض حول الشمس حديثاً فهو الذي تنتج عنه السنة الشمسية (الميلادية)، وبغير دوران الأرض حول محورها وميلان محور دورانها بزاوية عن المسير الظاهري للشمس لايمكن تفسير ظاهرة طول النهار صيفاً في القطب الشمالي لستة أشهر والليل شتاءاً لستة أشهر في القطب الجنوبي ثم انعكاس تلك الظاهرة في النصف الباقي من السنة، وعندما يكون النصف الشمالي من الأرض في فصل الصيف يكون الجنوبي في فصل الشتاء، وينعكس الأمر في النصف الثاني من السنة، وتحدث هذه الظاهرة بسبب انتقال تعامد الشمس بين مداري الجدي والسرطان (23.5ش – 23.5ج).
وبما سبق يتحتم أن نجد العذر لأحد العلماء والذي يرى أنّ الأرض ساكنة، علماً بأن هذا العالم صرَّح بأنَّ هذا رأيه وفهمه للنصوص ولم يجزم به، بل صرَّح أنَّ الأمر محتمل، ومثل هذه الآراء يجب ألا تحملنا على تسفيه هؤلاء العلماء، لأنَّ مثل هذه الحقائق تحتاج إلى شئ من النظر والدراسة، وقد يخطئ فيها الإنسان، وهي مثل المسائل اليقينية الشرعية الخفية التي يعلمها بعض العلماء ويجهلها آخرون. ولهذا فإن شيخ الإسلام ابن تيمية قال في قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في مسألة اختلاف المطالع بتحديدها بمسافة القصر: هذا لعدم علمه بهذا الفن يقصد علم الهيئة (الفلك حديثاً) إلا أنه لم يتهجم على الإمام الشافعي كما يفعل بابكر وأضرابه. وقد نص شيخ الإسلام أن رؤية أهل الشرق رؤية لأهل الغرب، وهذا ما قرأته لأحد علماء الفلك المسلمين المعاصرين، وهو رأي الشيخ العثيمين فيما أفتى به مسلمي أمريكا، وهو الشيخ الذي يسفه رأيه بابكر، وأنا على يقين أن العثيمين رحمه الله أعلم بالفلك من بابكر حتى ولو أخطأ في بعض المسائل الفلكية.
وأمَّا مسألة دوران الأرض حول الشمس والتي ذكر بابكر أنَّ الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى نفاها فلا أظن أنها حقيقة علمية ثابتة، ويغلب على ظني أنها نظرية، ولكني لا أجزم بذلك لعدم تخصصي في علم الفلك، ولكن بحكم معرفتي بالنظريات والنماذج الرياضية وعنايتي بالجوانب النظرية والفلسفية في الفيزياء أثناء دراستي تقنية المعلومات بجامعة متروبوليا للعلوم التطبيقية بفنلندة فهذا الذي أظنه، ولا أجزم خشية القول بغير علم في مسألة لم أبحثها من جميع جوانبها، ومن أراد اليقين فعليه أن يسأل علماء الفلك وليس الأدبيين من أمثال بابكر فيصل.
وأنقل بعض كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في حقائق فلكية، وأترك أخرى للاختصار، للتدليل على ما ذكرته سابقاً من أنَّ ابن تيمية له معرفة واسعة وعميقة بما انتهى إليه العلم في زمنه في مسائل علم الفلك والحساب والهندسة التحليلية، وهو كلامه في صحة حساب الخسوف والكسوف، حيث قال رحمه الله تعالى: (كما يُعرف وقت الكسوف والخسوف، فإن الشمس لا تكسف في سنة الله التي جعل لها إلا عند الاستسرار، إذا وقع القمر بينها وبين أبصار الناس على محاذاة مضبوطة، وكذلك القمر لا يخسف إلا في ليالي الإبدار على محاذاة مضبوطة لتحول الأرض بينه وبين الشمس، فمعرفة الكسوف والخسوف لمن صح حسابه مثل معرفة كل أحد أن ليلة الحادي والثلاثين من الشهر لا بد أن يطلع الهلال، وإنما يقع الشك ليلة الثلاثين، فنقول الحاسب غاية ما يمكنه إذا صح حسابه أن يعرف مثلاً أنَّ القرصين اجتمعا في الساعة الفلانيَّة، وأنَّه عند غروب الشمس يكون قد فارقها القمر، إمَّا بعشر درجات مثلاً، أو أقل، أو أكثر. والدرجة جزء من ثلاثمائة وستين جزءاً من الفلك). بل إن لشيخ الإسلام ابن تيمية اجتهادات علمية خاصة في حساب وقتي العشاء والفجر وفي الذرة وفي غير ذلك من المسائل العلمية التي لها علاقة بالعلوم الدنيوية لا أحب ذكرها هنا للاختصار.
ولفائدة القارئ أنقل كلاماً كنت قد كتبته في مقال لي بعنوان ابن تيمية وعلم الفلك فيه شئ من بيان كيفية تطوُّر المعلومة من الفرضية إلى النظرية وربما الحقيقة في بعض الأحيان، إلا أنه كلام مختصر، لأن عادتي عندما أكتب الميل إلى الإختصار، فأرجو ألا يكون اختصاراً مخلاً بالمعنى. والمهم أن يعلم أن كثيراً من المعلومات تبقى في طور النظرية، والتي قد يظن غير العلماء أنها حقائق ثابتة، وأقصد بالعلماء هنا المتخصصون في العلوم النظرية العلمية مثل الفيزياء والفلك ونحو ذلك، وأما المهندسون الذين يدرسون الفيزياء، فإنهم تطبيقيون أكثر من كونهم علماء، وغالباً ما يكتفون بحل المسائل للاستعداد للامتحانات، ولا يدرسون الجوانب النظرية والفلسفية في مثل هذه العلوم، وأرجو أن يستفيد من هذه المعلومات التالية كثير من الإخوة لا سيما المهندسون ونحوهم:
وأُريد أن أُنبِّه إلى أنَّ المعلومة في العلوم التطبيقية مبنية على المشاهدة والتجربة، وعلى هذا الأساس تنشأ النظريات التي تضع نماذج لمفاهيم لا يُمكن الاعتماد فيها على مجرَّد الإحساس العام، مثل الذرة التي لا يمكن أن تُرى ولو بأقوى المجاهر، ومثل النجوم والكواكب ومساراتها وحركاتها، ومثل تفسير الزمن ونسبيته، وقوانين الحركة والسكون والطاقة، وغير ذلك من النظريات والنماذج التي تكون مقبولة في المجتمع العلمي قبل اكتشاف ظواهر جديدة، وبعد اكتشاف ظواهر جديدة يُستبدل النموذج القديم بآخر، ويكون الجديد صالحاً لتعريف الظواهر المعروفة سابقاً، مع صلاحيته لتفسير الظواهر المكتشفة حديثاً، وقد تبقى النظريات القديمة صالحة لظروف معيَّنة، مثل نظرية نيوتن للأجسام الكبيرة، ونظرية أنشتاين للأجسام المتناهية في الصغر وعلم الفيزياء النووية، وذلك لأنَّ التعديلات يُمكن تجاهلها عند التعامل مع الأجسام الكبيرة، ومثل قانون حفظ المادة عند التعامل مع الأجسام الكبيرة نسبياً كما هو الحال في التفاعلات الكيميائية والذي لابد أن يُستبدل بقانون حفظ المادة-الطاقة في الفيزياء النووية.
والسبب في صلاحية النظريات والنماذج الحديثة لتفسير الظواهر القديمة والجديدة معاً هو أنَّ أكثر من نموذج يصلح لحساب نفس الظاهرة، ولهذا نجد في العلوم التطبيقية أنَّ النموذج قد يكون رياضياً فقط، ولا يمثِّل الحقيقة، فتعريف النموذج الرياضي هو أنه تبسيط للحقيقة، ومن أمثلة ذلك النماذج الرياضية لظاهرة التردُّد. فحقيقة التردُّد هي تكرار الحدث، ويُسمَّى أيضاً الذبذبة، ووحدة التردُّد هي الهيرتز (مرَّة/ثانية)، وأبسط نموذجان رياضيان للتردُّد هما الموجات والحركة الدائرية لخط مستقيم، أرجو النظر إلى الصورة التي في الأسفل.

وكل واحد من النموذجين له فوائد حسابية وثمثيلية للتحليل السليم، وأصل نموذج الحركة الدائرية هو أنَّ المُراد حسابيَّاً معرفة كم مرَّة وقع الحدث، وأفضل طريقة للحساب هي تجاهل حقائق كثيرة، وتبسيط النموذج وكأنَّ الإلكترون مثلاً يدور في دائرة، وأخذ نقطة مرجعية منها يبدأ وإليها يعود بعد اكتمال الدائرة، وهذه النقطة المرجعية هي ما يُعرف بالفيز وهي عبارة عن زاوية يتم بها تحديد موضع بداية الحدث من نقطة مرجعية وهي المحور السيني، وتجاهل حقيقة كيفية حركة الإلكترون.
علماً بأنَّ حقيقة الإلكترون رياضيَّة حسابيَّة، وهي السالب (-)، وهذه ليست حقيقة محسوسة، فليس خطأً إذا اعتبرناه (+) بشرط اعتبار البروتون معاكساً له، كما في المتجهات. وحركة الإلكترون غير مؤكَّدة، حيث يرى أحد علماء الفيزياء أنه لا يتحرك من مكانه وإنَّما يتذبذب في مكانه، وهذه الذبذبة هي التي تحدث الأثر الكهربائي، وكلام هذا الفيزيائي أقرب للصحة، وليس هذا موضع شرحه. ومن الإلكترون جاءت كلمة (electricity) بالإنجليزية، ومن الكهرمان جاءت كلمة الكهرباء باللُّغة العربيَّة.
وكلمة الإلكترون هي كلمة لاتينية، وتعني بالعربية الكهرمان، وهو عبارة عن مادة متحجِّرة ذات لون مصفر يميل إلى البرتقالي وأحياناً يميل إلى البني، وتتكون مادة الكهرمان من الصمغ الراتنجي الذي تفرزه إحدى أشجار الصنوبر والتي تنمو في أوروبا الشمالية منذ 50 مليون سنة مضت. عندما يُدلك الكهرمان بالصوف يولِّد كهربية ساكنة.
وقد تمَّ اكتشاف كثير من الظواهر الفلكيَّة التي لم يكن بالإمكان مشاهدتها من قبل لوجود الآلات المساعدة لزيادة إحساس البشر، مثل التلسكوبات والمركبات الفضائية التي تلتقط الصور من مستويات عالية وإرسالها إلى المحطَّات الأرضيَّة عبر الأقمار الصناعية، ووجود أجهزة الكمبيوتر التي تساعد الإنسان في تحليل المعلومات، وفي حساب الكميات بكفاءة عالية وسرعة فائقة. وما زال الفلكيُّون يكتشفون الكثير، ولن يستطيع أحد أن يقطع بأنَّ النظريات الفلكية (النماذج الفلكية) الحديثة هي الأخيرة، وعلماء الفلك والفيزياء يعرفون هذه الحقيقة التي يجهلها بعض الأكاديميين.
وكثير من النظريات الفلكيَّة المقرَّرة منذ عهد ابن تيمية وما قبله لا تزال صالحة لتفسير كثير من الظواهر رغم تغيير النموذج الفلكي، مع عدم صلاحيتها لتفسير ما عُرِف حديثاً، فمن التغيرات التي حدثت في الفلك اعتبار أنَّ الشمس هي المركز وليس الأرض، فهذا التغيير لا يؤثِّر في كثير من الحقائق الحسابية التي كانت تتم قبل مئات السنين، وذلك لأن تلك الحقائق ثابتة، وإنما تم تعديل النموذج لاستيعاب ظواهر جديدة، مع بقاء تلك الحقائق من غير تغيير.
فدوران الأرض حول الشمس أو دوران الشمس حول الأرض لا يغيِّر من الحسابات القديمة لليل والنهار والشهور والسنة والكسوف والخسوف ونحوها من الظواهر، وإنما يتعذَّر إدخال ظواهر مكتشفة حديثاً في النموذج القديم، فالنسبة الرياضية واحدة في كثير من الظواهر، سواء كانت الأرض هي التي تدور حول الشمس أو العكس. ومن الظواهر التي عجز النموذج الأرضي عن تفسيرها ظاهرة الحركة التراجعية للمريخ.
وقد فسَّر كوبرنيك الحركة التراجعية للمريخ بمرور المريخ في دورة حول الشمس قرب الأرض وأن سرعة المريخ أقل من سرعة الأرض. ويمكن شرح ذلك بمرور قطار سريع بمحاذاة قطار بطئ متحرِّك في نفس الاتجاه بحيث يبدو للناظر من القطار السريع أن البطئ يرجع إلى الخلف. نيكولاس كوبرنيك (1474م – 1543م) هو واضع نموذج المجموعة الشمسية المقبول في الوسط العلمي المعاصر، وهو النموذج الذي ألغى نموذج بطليموس (90م – 168م) لتفسير ظاهرة الحركة التراجعية للمرِّيخ. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
هلسنكي، فنلندة
يوم الخميس 6 جمادى الآخرة 1431هـ الموافق 20 مايو 2010م
pdf

رجوع إلى قسم شبهات وردود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق