حكم من عاون مشركين على المسلمين

معاونة كفارٍ على المسلمين محتملة للكفر الأكبر والأصغر، وليست كفراً بيِّناً ولا ناقضاً صريحاً للإسلام، وهذا الحُكم هو القول الفصل الذي لا شك فيه والذي لا يسع مسلم مخالفته لدلالة الكتاب والسنة عليه كما نص على ذلك الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (وليس الدلالة على عورة مسلم ولا تأييد كافر بأن يحذر أن المسلمين يريدون منه غرة ليحذرها أو يتقدم في نكاية المسلمين بكفر بين، فقلت للشافعي: أقلت هذا خبراً أم قياساً؟ قال قلته بما لا يسع مسلماً علمه عندي أن يخالفه بالسنة المنصوصة بعد الاستدلال بالكتاب، فقيل للشافعي: فاذكر السنة فيه، فذكر حديث حاطب رضي الله عنه) [1].
دلالة الكتاب هي الآيات التي نزلت في شأن حاطب رضي الله عنه، وفيها خطاب من يفعل ذلك بصفة الإيمان مع فعلهم المُنكر وإنكار فعلهم، وذلك في قوله تعالى ذكرُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ}، والمودة هنا دنيوية لا تنافي أصل الإيمان.
وإطلاق القول بأن معاونة مشركين على المسلمين من نواقض الإسلام لا دليل عليه من الكتاب ولا من السنة ولا من أقوال سلف الأُمة، وهو من زلات العلماء.
ويجب حفظ قدر العلماء مع التحذير من زلاتهم، فهذا القول من أسباب الغلو في التكفير، ولكن يجب أولاً قبل اعتبار قول العالم زلة التأويل له بنحو أنه ربما أراد المعاونة المستمرة التي لا ينفك عنها صاحبها لكل مشرك على كل مسلم أو معاونتهم لأجل دينهم.
فإن لم يكن بد من اعتبار قول العالم في مسألة من زلات العلماء كما هو ظاهر قول الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى في مسألة معاونة المشركين على المسلمين؛ فيجب حفظ قدره في العلم والدعوة والأثر الحسن.
قال ابن تيمية رحمه اللَّه تعالى: (وقد تحصل للرَّجل موادَّتهم لرحم أو حاجة فتكون ذنباً ينقص به إيمانه ولا يكون به كافراً، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل اللهُ فيه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ }[2])[3].
عَنْ عَلِىٍّ رضي الله عنه قَالَ (بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا مَرْثَدٍ وَالزُّبَيْرَ وَكُلُّنَا فَارِسٌ قَالَ: "انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ".
فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا حَيْثُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا الْكِتَابُ. فَقَالَتْ مَا مَعَنَا كِتَابٌ. فَأَنَخْنَاهَا فَالْتَمَسْنَا فَلَمْ نَرَ كِتَابًا، فَقُلْنَا مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُجَرِّدَنَّكِ.
فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ أَهْوَتْ إِلَى حُجْزَتِهَا وَهْىَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ فَأَخْرَجَتْهُ، فَانْطَلَقْنَا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَقَالَ عُمَرُ "يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِى فَلأَضْرِبْ عُنُقَهُ".
فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ".
قَالَ حَاطِبٌ "وَاللَّهِ مَا بِى أَنْ لاَ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِى عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِى وَمَالِى، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلاَّ لَهُ هُنَاكَ مِنْ عَشِيرَتِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ".
فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ، وَلاَ تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيْرًا".
فَقَالَ عُمَرُ "إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِى فَلأَضْرِبَ عُنُقَهُ".
فَقَالَ: "أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ، أَوْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ". فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ "اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ"
)[4].
جاء في بعض روايات الحديث أنَّ حاطباً رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلام)، وفي رواية (أَمَا إِنِّي لَمْ أَفْعَلْهُ غِشًّا يَا رَسُولَ اللهِ وَلا نِفَاقًا قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللهَ مُظْهِرٌ رَسُولَهُ وَمُتِمٌّ لَهُ أَمْرَهُ)، وفي رواية؛ (فقلت أكتب كتاباً لا يضرُّ اللهَ ولا رسوله).
قال الحافظ ابن حجر رحمه اللهُ تعالى: (وَعُذْر حَاطِب مَا ذَكَرَهُ، فَإِنَّهُ صَنَعَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلاً أَنْ لا ضَرَر فِيهِ)[5]، مما يرجِّح كلام الحافظ قول حاطب رضي الله عنه: (عَلِمْتُ أَنَّ اللهَ مُظْهِرٌ رَسُولَهُ وَمُتِمٌّ لَهُ أَمْرَهُ)، وقوله: (فقلت أكتب كتاباً لا يضر اللهَ ولا رسوله)، وقوله: (أَمَا إِنِّي لَمْ أَفْعَلْهُ غِشًّا).
ولو كان فعل حاطب رضي الله عنه صريحاً في الكفر الأكبر لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن مقصده؛ "مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟"، لأن الكفر الصريح مستلزم لكفر الباطن، ولا يحتمل غير الكفر الأكبر عند عدم وجود مانع من موانع التكفير الظاهرة كالخطأ والتأويل والجهل والإكراه.
وأما الزعم بأن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم حاطباً رضي الله عنه هو للتحقق من عدم وجود مانع من موانع تكفير من وقع في الكفر الصريح فبعيد، وذلك لأن جواب حاطب رضي الله فيه بيان أنه لم يفعله رضاً بالكفر وأنه علم أن الله مظهرٌ دينه، والمعنى أنه تأول أن مظاهرته للمشركين لن تظهرهم على الإسلام، وهذه أمورٌ قلبية، ليس فيها مانع من موانع التكفير الظاهرة مِن خطأ أو إكراهٍ أو جهل أو تأويل نص.
والأصل في الأحكام العموم حتى يأتي دليل بالخصوص، ولذا قال الشافعي رحمه الله تعالى رداً على هذه الشبهة في تتمة للكلام السابق في قصة حاطب رضي الله عنه: (وكل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عام حتى يأتي عنه دلالة على أنه أراد به خاصاً).
فلا وجه للقول بالخصوصية في التكفير، أما في القتل تعزيراً فيُقاس على حاطب رضي الله عنه أهل  السبق والفضل في الإسلام، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: (فإذا كان هذا من الرجل ذي الهيئة بجهالة كما كان هذا من حاطب بجهالة وكان غير متهم أحببت أن يتجافى له، وإذا كان من غير ذي الهيئة كان للإمام والله تعالى أعلم تعزيره)، المصدر السابق.
الجهالة في كلام الشافعي رحمه الله هي اقتراف الذنب، كما ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وليست الجهل بالحُكم، لأنَّ من رضي بالكفر وظهوره فهو كافرٌ علم أن فعله كفرٌ أم لم يعلم.
ومن أبعد الأقوال عن أصول الشريعة في الخصوصية القول بأن المانع من تكفير حاطب رضي الله عنه شهوده بدراً، إذ لا ينفع مع الكفر طاعة، وقد نص على ذلك ابن تيمية رحمه الله في كلامه عن معنى غفران ذنوب من شهد بدراً وأن الكفر الأكبر لا يُغفر إلا بالتوبة.
قال ابن تيمية رحمه الله: (قوله لأهل بدر ونحوهم: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) إن حمل على الصغائر أو على المغفرة مع التوبة لم يكن فرق بينهم وبين غيرهم، فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر لما قد علم أن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة، لا يجوز حمله على مجرد الصغائر المكفرة باجتناب الكبائر) [6].
فقصة حاطب رضي الله عنه تدل على أن فعله كبيرة مغفورة بحسنات سابقة، وكلام ابن تيمية التالي صريح في أنه كبيرة، وقاله بعد ذكره قصة حاطب رضي الله عنه ودخول أهل بيعة الرضوان الجنة، وقبل ذكر ما سبق من بيانه أنَّ شهود بدر لا يغفر الكفر الأكبر.
قال في المصدر السابق: (وهذه النصوص تقتضي أن السيئات مغفورة بتلك الحسنات، ولم يشترط مع ذلك توبة، وإلا فلا اختصاص لأولئك بهذا، والحديث يقتضي المغفرة بذلك العمل، وإذا قيل؛ إن هذا لأن أحداً من أولئك لم يكن له إلا صغائر؛ لم يكن ذلك من خصائصه أيضاً، وأن هذا يستلزم تجويز الكبيرة من هؤلاء المغفور لهم، وأيضاً قد دلت نصوص الكتاب والسنة، على أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب).
وقد نص ابن القيم رحمه الله على أن جس حاطب رضي الله عنه كبيرة دون الشرك، وأن مفسدتها أقل من المصالح التي تضمنتها حسنة شهود بدر من الإيمان والطاعة والمحبة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (أن الكبيرة العظيمة مما دون الشرك قد تكفر بالحسنة الكبيرة الماحية، كما وقع الجس من حاطب مكفراً بشهوده بدراً، فإن ما اشتملت عليه هذه الحسنة العظيمة من المصلحة وتضمنته من محبة الله لها ورضاه بها وفرحه بها ومباهاته للملائكة بفاعلها، أعظم مما اشتملت عليه سيئة الجس من المفسدة وتضمنته من بغض الله لها) [7].
وبما سبق يتبيَّن خطأ من استدل بتكفير عمر بن الخطاب حاطباً رضي الله عنهما على أن الفعل كفرٌ صريح، وأن خطأ عمر رضي الله عنه كان فقط في إنزال الحُكم على حاطب، وقد نص ابن تيمية رحمه الله تعالى على أن خطأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في أصل حُكم الجاسوس.
قال ابن تيمية رحمه الله: (والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية كما قد بسط في غير موضع كمن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث وكان لذلك ما يعارضه ويبين المراد ولم يعرفه مثل من اعتقد أن الذبيح إسحاق لحديث اعتقد ثبوته أو اعتقد أن الله لا يُرى ...إلى قوله أو اعتقد أن من جس للعدو وأعلمهم بغزو النبي صلى الله عليه وسلم فهو منافق، كما اعتقد ذلك عمر في حاطب وقال: دعني أضرب عنق هذا المنافق) [8].
ولهذا لم يقل أحد من أئمة المسلمين بأن الجاسوس المسلم يقتل كفراً، وإنما اختلفوا هل يقتل تعزيراً أم لا.
قال الحافظ النووي رحمه الله تعالى: (وأما الجاسوس المسلم فقال الشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وبعض المالكية وجماهير العلماء رحمهم الله تعالى: يعزره الإمام بما يرى من ضرب وحبس ونحوهما، ولا يجوز قتله، وقال مالك -رحمه الله تعالى-: يجتهد فيه الإمام، ولم يفسر الاجتهاد، وقال القاضي عياض رحمه الله: قال كبار أصحابه يُقتل، قال: واختلفوا في تركه بالتوبة، قال الماجشون: إن عرف بذلك قتل، وإلا عزر) [9].
والصحيح والله تعالى أعلم أن أمره إلى الإمام وأن قتله جائز تعزيراً، وأمَّا عدم قتل النبي صلى الله عليه وسلم حاطباً رضي الله عنه فقد ذهب ابن القيم رحمه الله تعالى أنه حُكم خاص بحاطب رضي الله عنه، وذهب بعض الشافعية إلى قياس من له سبق وأثرٌ حسن في الإسلام على حاطب رضي الله عنه، قال ابن حجر رحمه الله تعالى: (وقد نقل الطحاوي الإجماع على أن الجاسوس المسلم لا يباح دمه، وقال الشافعية والأكثر يعزر، وإن كان من أهل الهيئات يُعفى عنه، وكذا قال الأوزاعي وأبو حنيفة يوجع عقوبة ويطال حبسه) [10].
فاختار ابن القيم رحمه الله تعالى أن العلة قاصرة في حُكم عدم قتل حاطب رضي الله عنه فقال: (ثبت عنه أنه قتل جاسوساً من المشركين، وثبت عنه (أنه لم يقتل حاطباً، وقد جس عليه، واستأذنه عمر في قتله فقال: وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فاستدل به من لا يرى قتل المسلم الجاسوس، كالشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة رحمهم الله، واستدل به من يرى قتله، كمالك، وابن عقيل من أصحاب أحمد -رحمه الله- وغيرهما قالوا: لأنه علل بعلة مانعة من القتل منتفية في غيره، ولو كان الإسلام مانعاً من قتله، لم يعلل بأخص منه، لأنَّ الحكم إذا علل بالأعم، كان الأخص عديم التأثير، وهذا أقوى، والله أعلم)[11].
فلا شك في أن معاونة مشركين على المسلمين كفر محتمل، يدل على ذلك ما سبق نقله من قول الإمام الشافعي رحمه الله في أن مظاهرة كفارٍ على المسلمين ليست كفراً بيناً، يعني أنها محتملة للكفر الأكبر والأصغر، وفيه: "لا يسع مسلماً علمه عندي أن يخالفه بالسنة المنصوصة بعد الاستدلال بالكتاب"، وكذا اتفاق الأئمة على أن الجاسوس المسلم لا يقتل كفراً.
ومن أعان كفاراً على المسلمين من غير أن يتأوَّل أن فعله لا ضرر فيه على الإسلام أو من غير أن يتأول أن مساعدته لا أثر لها في انتصارهم فهو كافر، حتى ولو كان ذلك لأجل المال والدنيا، وحتى ولو لم يكن يكره المسلمين ويحبُّ الكفَّار، وذلك لرضاه بالكفر وانشراح صدره به واستحبابه الحياة الدنيا على الآخرة.
وقد تقدَّم أنَّ من شرك المحبة ما يكون شركاً أكبر، وأن من فعل أو قال الكفر البين الصريح اختياراً من غير مانع من موانع التكفير فهو كافر، حتى ولو كان ذلك لمصلحة دنيوية، وذلك لرضاه بالكفر وانشراح صدره به واسحبابه الحياة الدنيا على الآخرة.
قال اللهُ تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) }[12]، وقال اللهُ تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَ‌ٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) }[13].
ولكن يجب الحذر من الغلو في التكفير، فقد لا تكون مظاهرة مسلم لكفار على المسلمين استهانةً بالإسلام ولا استحباباً للحياة الدنيا على الآخرة، فقد يظنُّ من عاونهم من الفساق أن الكفار غالبون لا محالة، وأن مظاهرته لهم لا أثر لها، أو لكونه يعتقد كفر المسلمين كمن لم تقم عليه الحجة من الخوارج.
ولذا لم يكفِّر ابن تيمية رحمه الله تعالى بالعموم إلا الغلاة من الروافض ونحوهم ممن خرج عن أصل الشهادتين، فلم يكفر كل عوام الإمامية مع أنه وصفهم بأنهم يوالون اليهود والنصارى والمشركين على المسلمين كما سبق في مبحث ضوابط في التكفير التكفير.
ولم أجد ما نقله الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في الدرر السنية عن ابن تيمية رحمهما الله أنه قال في الاختيارات الفقهية: (من جمز إلى معسكر التتر ولحق بهم ارتد وحل ماله ودمه).
فقد بحثت في نسخة إلكترونية لكتاب الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية لعلاء الدين أبي الحسن البعلي الحنبلي فلم أجد هذا النص، ويدل على قصور في هذا النقل ما سبق من كلام ابن تيمية في قصة حاطب رضي الله عنه وما يلي من كلامه في الفتاوى.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى فيمن قفز إلى معسكر التتار من المسلمين: (فإنه لا ينضم إليهم طوعاً من المظهرين للإسلام إلا منافق أو زنديق أو فاسق فاجر) [14]، فقوله (أو فاسق فاجر) يدل على أنه لا يكفر كل من انضم إلى التتار من المسلمين.
وأما قوله قبل ذلك: (فمن قفز عنهم إلى التتار كان أحق بالقتال من كثير من التتار، فإن التتار فيهم المكره وغير المكره. وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي)، فليس فيه تكفير بمجرد الانضام إلى التتار.
الردة هنا عند شيخ الإسلام هي بالامتناع عن الشرائع الظاهرة المتواترة والقتال مع التتار على ذلك، وليست بمجرد اللحاق بالتتار، ولذا قال قبلها بأنَّ من قفز إليهم أحق بالقتال، وقد سبق أنه يرى أن الممتنعين عن الشرائع المعلومة يعاملون عند القتال معاملة الكفار وإن أقروا بوجوبها، وسيأتي تصريحه بسبب الردة وأنها بقدر ما اتردوا عنه من الشرائع.
وقد قال قبل ذلك (والعلماء لهم في قتال من يستحق القتال من أهل القبلة طريقان)، يؤكد ذلك قوله: (وقد أجمع المسلمون على وجوب قتال الخوارج والروافض ونحوهم إذا فارقوا جماعة المسلمين كما قاتلهم علي رضي الله عنه، ...إلى قوله: وكل من قفز إليهم من أمراء العسكر وغير الأمراء فحكمه حكمهم، وفيهم من الردة عن شرائع الإسلام بقدر ما ارتد عنه من شرائع الإسلام).
قوله: (حكمه حكمهم) يعني في القتال، وسبق قوله بأن الخوارج والروافض والممتنعين عن شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة المقرين بوجوبها لهم حكم خاص في القتال ليس كالبغاة وأنهم ليسوا كالمرتدين عن أصل الإسلام، وسبق في ضوابط التكفير أن ابن تيمية لا يكفر عوام الروافض الإمامية مع وصفه لهم بأنهم يوالون الكفار على المسلمين.
وقد قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في الخوارج: (والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالاً للأمَّة وتكفيراً لها، ولم يكن من الصحابة من يكفرهم لا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين)[15].
يؤكد ما سبق قوله في حُكم الجاسوس المسلم: (وأما مالك وغيره، فحكي عنه أن من الجرائم ما يبلغ به القتل، ووافقه بعض أصحاب أحمد، في مثل الجاسوس المسلم، إذا تجسس للعدو على المسلمين، فإن أحمد يتوقف في قتله، وجوز مالك وبعض الحنابلة كالقاضي أبي يعلى) [16].
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن ردة من ارتد عن الشرائع أخف من ردة من ارتد عن أصل الدين، فقال: (وإذا كانت الردة عن أصل الدين أعظم من الكفر بأصل الدين فالردة عن شرائعه أعظم من خروج الخارج الأصلي عن شرائعه).
فالكفر بعضه أعظم وأشد من بعض، ولهذا فالنار دركات متفاوتة، وأخف أهل النار عذاباً رجل له شراكان من نار يغلي منهما دماغه، قال الله تعالى ذكرُه؛ {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
والغلو في كل شيء مذموم، فكما يذم الغلو في النفي يذم كذلك في الإثبات، وكما يذم في البدعة يذم في الإنكار على المبتدعة، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وفي الحنبلية أيضاً مبتدعة، وإن كانت البدعة في غيرهم أكثر، وبدعتهم غالباً في زيادة الإثبات في حق الله وفي زيادة الإنكار على مخالفهم بالتكفير وغيره، لأن أحمد كان مثبتاً لما جاءت به السنة) [17].
هذا في مظاهرة كفارٍ على المسلمين، وأما الاستعانة بالكفار في قتالٍ على مسلم أو على كافر؛ فالمسألة فيها خلاف بين العلماء، أما في غير القتال فواضح، أرأيت لو أراد مسلمٌ قتلك فرأيت كافراً فاستعنت به على المسلم هل يحرم ذلك؟ وأما في القتال؛ فمن أجازها حال السعة والاختيار اشترط شروطاً منها أن يكون الكافر مأموناً وأن تكون الراية والغلبة للمسلمين، وأما عند الاضطرار؛ فيظهر أنَّ شرط الاستعانة بكافر على مسلم ألا يكون الضرر على الإسلام والمسلمين المُحتمل بالاستعانة بالكفار مثل أو أكثر مما يراد دفعه من ضرر، ومن ذلك ألا يؤذي الكفار المسلمين البُغاة بمثل ولا أكثر مما يراد دفعه من أذى البغاة على غيرهم من المسلمين.
قال ابن حزم رحمه الله تعالى: (هل يُستعان على أهل البغي بأهل الحرب أو بأهل الذمة أو بأهل بغي آخرين؟ اختلف الناس في هذا، فقالت طائفة: لا يجوز أن يُستعان عليهم بحربي ولا بذمي ولا بمن يستحل قتالهم مدبرين، وهذا قول الشافعي رضي الله عنه، وقال أصحاب أبي حنيفة: لا بأس بأن يستعان عليهم بأهل الحرب وبأهل الذمة وبأمثالهم من أهل البغي.
وقد ذكرنا هذا في كتاب الجهاد من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إننا لا نستعين بمشرك)، وهذا عموم مانع من أن يستعان به في ولاية أو قتال أو شيء من الأشياء، إلا ما صح الإجماع على جواز الاستعانة به فيه؛ كخدمة الدابة أو الاستئجار أو قضاء الحاجة ونحو ذلك مما لا يخرجون فيه عن الصغار، والمشرك؛ اسم يقع على الذمي والحربي.
هذا عندنا ما دام في أهل العدل منعة، فإن أشرفوا على الهلكة واضطروا ولم تكن لهم حيلة، فلا بأس بأن يلجؤوا إلى أهل الحرب وأن يمتنعوا بأهل الذمة، ما أيقنو أنهم في استنصارهم لا يؤذون مسلماً ولا ذمياً في دم أو مال أو حرمة مما لا يحل، برهان ذلك؛ قول الله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه}، وهذا عموم لكل من اضطر إليه، إلا ما منع منه نص أو إجماع.
فإن علم المسلم - واحداً كان أو جماعة - أن من استنصر به من أهل الحرب، أو الذمة يؤذون مسلماً أو ذمياً فيما لا يحل، فحرام عليه أن يستعين بهما، وإن هلك، لكن يصبر لأمر الله تعالى -وإن تلفت نفسه وأهله وماله- أو يقاتل حتى يموت شهيداً كريماً) [18].

المصادر

[1] الأم للشافعي (ج4/ص264)، الناشر؛ دار المعرفة، بيروت، سنة النشر؛ 1410هـ/1990م.
[2] سورة الممتحنة، آية رقم 1.
[3] مجموع الفتاوى (ج7/ص522-523)، الناشر؛ مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، عام النشر؛ 1416هـ/1995م.
[4] البخاري، المغازي، حديث رقم 3983
[5] فتح البارئ (8/503)، كتاب التفسير، سورة الممتحنة، باب { لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ (1) }
[6] مجموع الفتاوى (ج7/ص490)، الطبعة السابقة.
[7] زاد المعاد (ج3/ص372)، مؤسسة الرسالة، بيروت - مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، الطبعة السابعة والعشرون، 1415هـ /1994م.
[8] مجموع الفتاوى (ج20/ص33-35)، الطبعة السابقة.
[9] شرح النووي على مسلم (ج12/ص67)، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الثانية، 1392هـ
[10] فتح الباري (ج12/ص310)، دار المعرفة - بيروت، 1379هـ
[11]  زاد المعاد (ج3/ص104)، مؤسسة الرسالة، بيروت - مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، الطبعة السابعة والعشرون، 1415هـ /1994م.
[12] سورة هود آيات رقم 15- 16
[13] سورة النحل، آيات رقم 106- 107.
[14] مجموع الفتاوى (ج28/ص535)، الطبعة اسابقة.
[15] مجموع الفتاوى (ج7/ص217-218)، الطبعة السابقة.
[16] مجموع الفتاوى (ج28/ص345)، الطبعة السابقة.
[17] مجموع الفتاوى (ج20/ص186)، الطبعة السابقة.
[18] المحلى بالآثار (ج11/ص354-355)، دار الفكر – بيروت.
pdf
الممتنعون عن الشرائع الظاهرة المتواترة   المحتويات  الولاء الشرعي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق