حُكم المُرتد

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.

المحتويات

١. من يُقتل من المرتدين
٢. نفي المرتد
٣. معاني أحاديث قتل المُرتد
٤. تقديم النصوص على الإجماع الظني
٥. دلالة "أو" في آية الحرابة
٦. معنى النفي
٧. حديث الأعرابي
٨. ردة الصبي
٩. الردة والحرية

من يُقتل من المرتدين

الكفر الطاريء أغلظ من الكفر الأصلي، وليس ذلك لمجرد إدراك صاحب الكفر الطاريء صدق الإسلام ذهنياً، وإنما لإدراكه صدق الإسلام فهماً وتذوقاً بنحو أداء الصلوات وقراءة القرآن.
يُقتل المرتد المبدل لدينه بزندقةٍ كابن عربي أو بجحودِ أحكامٍ معلومةٍ بالضرورة كمانعي الزكاة، ولا خيار غير القتل في عقاب المبدل لدينه.
ويعاقب المرتد المحارب بالقتل أو بما هو دونه، وذلك حسب جريمته أو أثرها وحاله.
ولا يُعاقب من أعلن خروجه من الإسلام ما لم يكن محارباً.
والمبدل لدينه هو المُحرف له، وحول معاني ما ورد من نصوص في قتل المرتد انظر مبحث؛ معاني أحاديث قتل المُرتد.
استعملتُ كلمة المرتد في صاحب الكفر الطاريء جرياناً على اصطلاح الفقهاء مع أن فيه نظر، وذلك لأن المعنى اللغوي للردة هو الرجوع، والمسألة لا تختص بمن رجع إلى كفر، وإنما تشمل من نشأ في الإسلام ثم كفر بعد البلوغ.
والأرجح صحة ردة الصبي المميز، ولكنه لا يعاقب على ما يتعلق بها إلا بعد سن البلوغ، انظر مبحث؛ ردة الصبي.
ومن نشأ على كفر صريح كالإلحاد قبل سن التمييز؛ كفره أصلي وليس طارئاً، فإذا نشأ على تبديل الدين عوقب بما دون القتل كالحبس، ولا يُكفَّر بمخالفة مفصل الإيمان إلا من قامت عليه الحجة الرسالية.
والزنديق هو من ظهر جلياً نفاقه وخداعه، وذلك بإتيان الكفر الصريح مع التظاهر بالإسلام، وإذا أظهر توبة يُعلم بقرائن يقينية أنها مخادعة ليس فيها احتمال صدق، كمن يقول لا إله إلا الله وهو يعني أن كل شيء هو الله تعالى عما يقولون علواً كبيراً، وقد أطلق السلف كلمة الزنديق على صاحب النفاق البيِّن.
وأما المُنافق فإنه من لم يتبيَّن نفاقه للناس، لأنه يأتي غالباً بكفر مُحتمِل، وإذا تاب من كفر صريح ففي توبته احتمال صدق.
ولا يصح القول بقتل كل مرتد، بدليل أن آية الحرابة لم تُفرق بين المُرتد والمُسلم والذمي في الحُكم، وذلك لِسبب نزولها، وحديث عائشة رضي الله عنها يؤكد أن آية الحرابة تشمل المرتدين.
فقد دلت الآية والحديث على أن عقوبة المُحارب قاطع الطريق قد تكون بما دون القتل؛ كقطع يده ورجله من خلاف، وكنفيه من أرض قراره وذويه بالسجن أو التغريب أو المُلاحقة.
وآية الحرابة هي قول الله تعالى ذكرُهُ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَ‌ٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
وحديث عائشة رضي الله عنها هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال؛ زان محصن يرجم، ورجل قتل متعمداً فيقتل، ورجل يخرج من الإسلام حارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض)، قال الألباني: (وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين) [1].
والقول بأن الخروج من الإسلام في هذا الحديث يعني الخروج عن أحكامه بالمعصية تأويل وخروج عن الظاهر من غير دليل أو قرينة تخرجه عن ظاهره، يؤكد ذلك موافقة الحديث لآية الحرابة في الحُكم. 
وزيادة (يخرج من الإسلام) مقبولة على رواية أبي داود التي فيها؛ (خرج محارباً لله ورسوله)، وقد تدل على ذلك رواية؛ (التارك لدينه المفارق للجماعة).
دعوى إجماع الصحابة رضي الله عنهم على قتل كل مرتد ينقضها ما صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القول بنفي مرتدين محاربين بالحبس.
وقد نُقل الإجماع على قتل كل مُرتد في القرن الثاني، وأكثر إجماعات غير الصحابة ظنية لتفرق المُسلمين في الأمصار، ولأن الإجماع مبني على عدم العلم بالمخالف أو القائل فلا يكون يقينياً إلا بقرائن.
ولا يُستدل بالإجماع الظني إلا إذا لم يخالف نصاً أعلى، والأصل أن النصوص أعلى ما لم يتقوَ الإجماع الظني بقرائن.
وأول من نقل الإجماع على قتل كل مرتد هو الإمام الشافعي رحمه الله تعالى بناءاً على أصله في الإكراه في الدين، فهو يقول بقتال أهل الأوثان حتى يُسلموا وأن الجزية لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس باعتبار أن لهم شبهة كتاب [2].
وهو قول غير معتبر لمخالفته نصاً في المسألة وإجماع العلماء المعاصرين على تركه، فقد روى مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريدة رضي الله عنه: (وإذا لقيت عدوك من المشركين؛ فادعهم إلى ثلاث خصال ... إلى قوله: فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم) [3].
ويعد الإجماع الظني متوهماً إذا خالف نصاً أعلى منه، والنص الظني مقدم على الإجماع الظني الذي لم يتقوَ بقرائن، ودلالة آية الحرابة وحديث عائشة رضي الله عنها صريحة على أنه لا يُقتل كل مرتد.
يؤكد توهم الإجماع ما صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القول بنفي مرتدين مُحاربين بالحبس بدل قتلهم، وقول الثوري والنخعي رحمهما الله تعالى بنفي المرتد بالحبس حتى يتوب أو يموت، ونقلُ ابن تيمية عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه لا يُقتل غير المحارب من المرتدين.
وتدل آية الحرابة وحديث عائشة رضي الله عنها على أن نفي المُرتد المنقول عن بعض السلف خاص بالمُحارب الساعي في الأرض فساداً كقاطع الطريق.
ما صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القول بحبس مرتدين محاربين منقول في باب نفي المرتد، وكذا قول الثوري والنخعي في ذلك.
قال ابن حزم رحمه الله تعالى: (النفي يقع من الحدود في المحاربة بالقرآن، وفي الزنى بالسنة، وحكم به قوم في الردة، وفي الخمر، والسرقة) [4].
وأما قول أبي حنيفة؛ فقد قال ابن تيمية رحمهما الله تعالى: (وأما على مذهب أبي حنيفة فقد يعارض بما قد يقال: إنه لا يوجب قتل أحد على ترك واجب أصلاً حتى الإيمان؛ فإنه لا يقتل إلا المحارب لوجود الحراب منه وهو فعل المنهي عنه، ويسوي بين الكفر الأصلي والطارئ؛ فلا يقتل المرتد لعدم الحراب منه، ولا يقتل من ترك الصلاة أو الزكاة إلا إذا كان في طائفة ممتنعة فيقاتلهم لوجود الحراب كما يقاتل البغاة) [5].
ويجوز على الأرجح الإحداث بما لا يخالف إجماع السابقين، سواءٌ عُلم محل الإجماع من مُقتضى قولٍ واحد أو اختلافٍ على قولين أو أكثر.
وقد اتفقت الأقوال الثلاثة في جواز عقوبة المحارب، وهي؛ قتل كل مرتد، وعدم جواز قتل غير المحارب، ومشروعية نفي المرتد، فالقول الحادث هنا لا يرفع ما اتفقت عليه أقوال السابقين، ويتفق مع كل منها بوجه من الوجوه، ويتفق قبلها مع النصوص.
يُضاف إلى ما سبق أن عدم الإكراه في الدين أصلٌ جامع، دلت عليه آيات مُحكمة غير منسوخة، فلا يُستثنى من ذلك إلا بقدَرٍ لا يخالف هذا الأصل.
فتدل نصوص عدم الإكراه في الدين مع عدم ورود نص خاصٍ يدل على عقوبة غير المبدل لدينه والمحارب على أن غيرهما من المرتدين لا يعاقب مطلقاً سواء بالقتل أو بما هو دونه، والمبدل لدينه هو الزنديق والجاحد لمعلوم في الدين بالضرورة.
ويلزم أن تكون ردة من يعاقب بالقتل فقط أخطر من ردة من يعاقب بالقتل وما دونه، والنصوص تدل على أن المرتد المحارب يعاقب بالقتل وما دونه، وأنه لا خيار غير القتل في عقاب المرتد المبدل لدينه.
والردة عن بعض شرائع الدين أخف ولكنها أخطر من الردة عن أصل الدين، وذلك لأن المُرتد عن بعض الشرائع بمثابة المنافق.
ومن ورد قتلهم أو قتالهم من المرتدين عن السلف والسابقين إما مبدلون لدينهم بزندقة أو جحود أحكام؛ كمانعي الزكاة، والجعد بن درهم، وابن عربي، أو محاربون؛ كبعض من ارتد إلى دينه السابق، ومدعي النبوة، والمرتدين من العرب، انظر مبحث؛ معاني أحاديث قتل المُرتد.
ومما يستأنس به من المعقول في أن من يعاقبون من المرتدين بقتل أو تخيير هم الزنادقة والمبدلون للأحكام والمحاربون؛ أن القول بأن في الإسلام إكراه من أعظم أبواب الطعن في الدين.

نفي المرتد

حديث عائشة رضي الله عنها صريح في نفي المرتد، ونزلت آية الحرابة في العرنيين المُرتدين على الأرجح، قال الطبري رحمه الله تعالى: (وقلنا كان نزول ذلك بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ما فعل، لتظاهر الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك)، وكان قد قال قبل ذلك: (وقال آخرون: بل نزلت في قوم من عرينة وعكل، ارتدوا عن الإسلام، وحاربوا الله ورسوله) [6].
وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله تعالى لحديث العرنيين ب؛ باب المحاربين من أهل الكفر والردة وذكر الآية، وتبويبه في صحيح مسلم هو؛ باب حكم المحاربين والمرتدين.
والمحاربة ظاهرة في محاربة أصل الدين، وتشمل المحاربةَ بالمعاصي، ولا تكون مُحاربة أصل الدين إلا من كافر، وإذا احتمل اللفظ معانٍ صحيحة غير متضادة فإنه يُحمل عليها جميعاً.
لعموم معنى المحاربة ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإن حُكم المحاربة يشمل المُسلم والمرتد والذمي.
وآية الحرابة غير منسوخة ودلالتها مع حديث عائشة رضي الله عنها مُحكمة على مشروعية نفي المُرتد المُحارب وعقابه حسب جريمته أو أثرها وحاله بنحو قطع يده ورجله من خلاف، وهذه عقوبات دون القتل.
وفي آية الحرابة عطف الإفساد في الأرض على محاربة الله ورسوله مما يؤكد أن العقوبة هي بسبب المحاربة بالفعل لا الكفر المجرد ولا المعصية المجردة.
والقول بمشروعية نفي المُرتد لا يخالف الإجماع لدلالة آية الحرابة وحديث عائشة عليه، فالنص يدل على وجود قائل بمقتضاه وإن لم يعلم، كيف وقد علم بقائل؟
فعدم العلم بقائل أو مُخالف إجماع ظني في الأصل، فلا يُعتبر حجةً إلا إذا لم يوجد نص في المسألة، لأن النصوص ولو كانت ظنية مقدمة على الإجماع الظني الذي لم يتقوَ بقرائن.
وإنما يُرد القول الحادث إذا خالف مقتضى إجماع مظنون دون الاستناد إلى نص غير منسوخ ولا معارض له من جنسه.
وقد صح القول بنفي مرتدين محاربين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ رضي الله عنه قالَ: (بَعَثَنِي أبُو مُوسى بِفَتْحِ تُسْتَرَ إلى عُمَرَ، فَسَألَنِي عُمَرُ - وكانَ سِتَّةُ نَفَرٍ مِن بَنِي بَكْرِ بْنِ وائِلٍ قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الإسْلامِ، ولَحِقُوا بِالمُشْرِكِينَ -، فَقالَ: «ما فَعَلَ النَّفَرُ مِن بَكْرِ بْنِ وائِلٍ؟»
قالَ: فَأخَذْتُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ لِأُشْغِلَهُ عَنْهُمْ، فَقالَ: «ما فَعَلَ النَّفَرُ مِن بَكْرِ بْنِ وائِلٍ؟» قُلْتُ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قَوْمٌ ارْتَدُّوا عَنِ الإسْلامِ، ولَحِقُوا بِالمُشْرِكِينَ، ما سَبِيلُهُمْ إلّا القَتْلَ.
فَقالَ عُمَرُ: «لَأنْ أكُونَ أخَذْتُهُمْ سِلْمًا، أحَبُّ إلَيَّ مِمّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ مِن صَفْراءَ أوْ بَيْضاءَ».
قالَ: قُلْتُ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وما كُنْتَ صانِعًا بِهِمْ لَوْ أخَذْتَهُمْ؟
قالَ: «كُنْتُ عارِضًا عَلَيْهِمُ البابَ الَّذِي خَرَجُوا مِنهُ، أنْ يَدْخُلُوا فِيهِ، فَإنْ فَعَلُوا ذَلِكَ، قَبِلْتُ مِنهُمْ، وإلّا اسْتَوْدَعْتُهُمُ السِّجْنَ»)، صحح إسناده ابن تيمية وابن كثير والعيني رحمهم الله تعالى جميعاً [7].
واضح من الأثر أن حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالسجن هو فيمن لحق بالمحاربين من المرتدين، وأبعد من قال بأن معنى كلامه استتابة المرتدين قبل قتلهم، فلا يوجد في كلامه ما يدل على هذا المعنى، بل فيه ما يدل على خلاف ما ذهبوا إليه، وذلك لقوله بسجنهم فقط بعد أن سئل هل لهم من سبيل غير القتل، ولأنه ذكر السجن بعد استتابتهم.
يؤكد ذلك موافقة حُكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لآية الحرابة وحديث عائشة رضي الله عنها.
وأما الروايات الأخرى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقتل المرتد بعد استتابته وبحبسه ثلاثاً لاستتابته إن صحت؛ فإنها لا تتعارض مع ما سبق بل تتوافق معه، فإن عقوبة المحارب حسب عظم الجريمة أو أثرها وحال المُجرم وأثره.
فالصحيح في دلالة "أو" في آية الحرابة وحديث عائشة رضي الله عنها أنها للتنويع والتخيير، وتنويع العقوبة بقدر عظم الجريمة، وتخيير الحاكم يكون بنظره في أثر الجريمة وحال المجرم.
وقد قال النخعي والثوري رحمهما الله تعالى بحبس المرتد واستتابته إلى أن يتوب أو يموت، وقد ذهب بعضٌ إلى أن قولهما معناه أنه يستتاب كلما كرر الردة بعد توبة وأنه لا يتعارض مع القول بقتله، وذهب آخرون إلى أنهما يريان أنه يُحبس ولا يُقتل وهو الراجح، ولا يبعد أن لهما أقوالاً متعددة حسب حال المُرتد.
ولأنه لابد من وجود قائل بمقتضى النص المُحكم غير المنسوخ، فغالباً ما يكون قول الأئمة بالحبس مع الاستتابة في المرتد المحارب بنحو إخافة سبيل أو التحاق بمحاربين.
قال العمراني الشافعي رحمه الله تعالى: (وقال الثوري: يستتاب أبداً، ويحبس إلى أن يتوب أو يموت) [8].
وقال ابن الفرس رحمه الله تعالى: (وقال النخعي والثوري: يستتاب محبوساً أبداً) [9].
وقال ابن حزم رحمه الله تعالى: (وطائِفَةٌ قالَتْ: يُسْتَتابُ أبَدًا، ولا يُقْتَلُ) 10].
وسبق نقل قول ابن حزم رحمه الله تعالى: (النفي يقع من الحدود في المحاربة بالقرآن، وفي الزنى بالسنة، وحكم به قوم في الردة، وفي الخمر، والسرقة) [11].
أما قول الجصاص رحمه الله تعالى: (والمرتد لا يُنفى)، فمخالف لآية الحرابة وحديث عائشة رضي الله عنهما، وقد قال بأن آية الحرابة لا تشمل المرتدين حتى ولو نزلت فيهم، وهذا غريب! واستفاض في الاستدلال بكلام عقلي لا يُسلم به.
ولا إشكال في قول الجصاص رحمه الله تعالى: (لا خلاف بين السلف والخلف من فقهاء الأمصار أن هذا الحكم غير مخصوص بأهل الردة وأنه فيمن قطع الطريق وإن كان من أهل الملة. وحُكي عن بعض المتأخرين ممن لا يعتد به أن ذلك مخصوص بالمرتدين؛ وهو قول ساقط مردود مخالف للآية وإجماع السلف والخلف) [12].
فلا إشكال في القول بأن الآية لا تقتصر على المرتدين، ولكن لا يصح أنها لا تشمل المرتدين، وحديث عائشة رضي الله عنهما يؤكد أن آية الحرابة تشمل المرتدين.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (ويستدل بذلك من يقول: إن آية المحاربة تختص بالمرتدين، فمن ارتد وحارب، فعل به ما في الآية، ومن حارب من غير ردة، أقيمت عليه أحكام المسلمين من القصاص والقطع في السرقة، وهذا رواية عن أحمد لكنها غير مشهورة عنه، وكذا قال طائفة من السلف: إن آية المحاربة تختص بالمرتدين، منهم أبو قلابة وغيره) [13].
والراجح هو أن حكم الحرابة لا يختص بالمرتدين، وذلك لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وسبق أن المحاربة تشمل محاربة أصل الدين والمحاربة بالمعاصي، ولأنه لم يرد تفريق بين المسلم والكافر في أحكام القصاص ونحوها من أحكام الجنايات والسعي في الأرض فساداً.

معاني أحاديث قتل المُرتد

طريقة الأئمة والسلف في فهم النصوص هو إعمالها جميعاً وحمل بعضها على بعض، وقد بين العلماء أن إعمال بعض النصوص والإعراض عن أخرى هي طريقة أهل البدع والأهواء.
ولما سبق ذكره لا سيما النصوص فإن الأحاديث الصحيحة في قتل المُرتد إما في الزنادقة أو في المبدلين لأحكام الدين المعلومة بالضرورة التي يكفر مُنكرها أو في المُحاربين، وفي التالي بيان معاني جملة من الأحاديث يُقاس عليها غيرها مما صح في هذا الباب.
أولها؛ حديث (من بدل دينه فاقتلوه)، فالتبديل بهذا الاستعمال يعني التحريف، يؤكد ذلك روايته في زنادقة، فهو فيمن حرف دينه بتغيير معالمه كما يفعل الزنادقة أو بتغيير بعض أحكامه الظاهرة المتواترة التي لا ينكرها إلا كافر بالإسلام والرسالة، وقد أطلق السلف كلمة الزنادقة على أصحاب النفاق البين.
فالحديث هو حديث ابن عباس رضي الله عنهما في صحيح البخاري؛ (أُتِيَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عنْه بزَنادِقَةٍ فأحْرَقَهُمْ، فَبَلَغَ ذلكَ ابْنَ عبّاسٍ، فقالَ: لو كُنْتُ أنا لَمْ أُحْرِقْهُمْ، لِنَهْيِ رَسولِ اللَّهِ ﷺ: لا تُعَذِّبُوا بعَذابِ اللَّهِ ولَقَتَلْتُهُمْ، لِقَوْلِ رَسولِ اللَّهِ ﷺ: (مَن بَدَّلَ دِينَهُ فاقْتُلُوهُ)) [14].
وبدّل في أصل اللغة تختلف عن أبدل، فبدَّل تعني غيّر الشيء عن حاله، وأبدل تعني جعل شيئاً مكان شيء آخر، قال ابن منظور رحمه الله تعالى: (والأصل في التبديل تغيير الشيء عن حاله، والأصل في الإبدال جعل شيء مكان شيء آخر) [15].
وبدّل تُستعمل بمعنى أبدل بتعديتها بالباء ونحو ذلك، ولذا فمعنى (بدل دينه) حرفه وغيّره بدون انتقال منه إلى دين آخر، وأما "بدّل دينه بِغيره" و "استبدل دينه" و"أبدل دينه" فتعني؛ انتقل من دينه إلى آخر.
وورود الحديث بصيغة؛ (بدل دينه) وليس بصيغة؛ (بدل الدين) للدلالة على أنه يختص بمن ينتسب إلى الدين دون الكافر الأصلي، وللدلالة على أنه يشمل من اتبع غيره في التبديل ولا يختص بمن بدل الدين بنفسه.
والحديث صريح الدلالة من جهة ظاهر اللغة ورواية الصحابة رضي الله عنهم إياه في الزنادقة، والسلف أطلقوا كلمة الزنديق على صاحب النفاق البيِّن، وقيل في كلمة الزندقة أنها فارسية.
والحديث الثاني؛ حديث (التارك لدينه المفارق للجماعة)، وهو إما موافقٌ لحديث (من بدل دينه فاقتلوه) أو في المحارب، وذلك لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، فلم يكن ليقل (المفارق للجماعة) إلا لمعنىً زائد ولو للتأكيد.
وليس في هذه العبارة تأكيد لترك الدين، فالمعنى الزائد هنا إما أن يكون الدلالة على أن مفارقته الجماعة هي بمخالفته إجماعهم بتبديل أحكام الدين التي يكفر مبدلها أو مفارقتهم بالمُحاربة.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وعلى هذا فيكون ترك دينه عبارة عن خروجه عن موجب الدين) إلى قوله: (أو يكون المراد به من ارتد وحارب كالعرنيين) إلى قوله: (ولو كان أريد المرتد المجرد؛ لما احتيج إلى قوله: "المفارق للجماعة"، فإن مجرد الخروج من الدين يوجب القتل وإن لم يفارق جماعة الناس، فهذا وجه يحتمله الحديث، وهو والله أعلم مقصود هذا الحديث) [16].
وأنبه إلى أن استدلالي بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية السابق هو فقط في معنى هذا الحديث، فابن تيمية رحمه الله تعالى يرى وجوب قتل كل مرتد، وهذا واضح في النقل السابق.
ولكن لا يبعد أن يكون ابن تيمية رحمه الله تعالى قد اطلع على هذا المعنى للحديث في أقوال من يرى عدم قتل كل مرتد كالإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، فلربما يكون قد وافقهم على معنى هذا الحديث أو تأول لهم.
وتعدد طرق الحديث يفيد في فهم المُراد لأن بعضها يفسر بعضاً ولأن الحديث قد يُروى بالمعنى، وفي حديث عائشة رضي الله عنها ذكر نفي المُرتد ردة مغلظة بالحرابة.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (على أن قوله: «التارك لدينه المفارق للجماعة» قد يفسر بالمحارب قاطع الطريق كذلك رواه أبو داود في سننه مفسراً عن عائشة رضي الله عنها) [17].
وقال الألباني رحمه الله تعالى في الإرواء في حديث المفارق للجماعة: (وله شاهد من حديث عائشة وعثمان).
وقال الترمذي رحمه الله تعالى تعليقاً على حديث؛ (التارك لدينه المفارق للجماعة): (وفي الباب عن عثمان وعائشة وابن عباس).
ورواية البخاري هي؛ عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأَنِّي رَسولُ اللَّهِ، إلّا بإحْدى ثَلاثٍ؛ النَّفْسُ بالنَّفْسِ، والثَّيِّبُ الزّانِي، والمارِقُ مِنَ الدِّينِ التّارِكُ لِلْجَماعَةِ) [18]، وفي رواية لمسلم والترمذي وغيرهما؛ (التارك لدينه المفارق للجماعة).
والحديث الثالث؛ حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو مثل السابق يُفسر بحديث عائشة رضي الله عنها، بل صيغته تشير إلى أنه قد يكون رواية بالمعنى لحديث عائشة رضي الله عنها، يؤكد ذلك روايته في حال حربٍ ووروده بصيغة الحِل.
فسبب رواية عثمان بن عفان رضي الله عنه الحديث عندما أراد البغاة قتله هو بيان تحريم قتل المُسلم الفار والمقدور عليه في قتال الفتنة وقتال أهل البغي كما هو معلوم من فعل الصحابة رضي الله عنهم، وذلك خلافاً للمحارب الكافر والمرتد فإنه غير معصوم الدم والمال، ففقه عثمان بن عفان رضي الله عنه للحديث هو حِل قتل المرتد المحارب.
وحديث عثمان رضي الله عنه هو أنه قال: (فلم يقتلوني؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلّا بإحْدى ثلاثٍ: رَجُلٌ كَفَرَ بعدَ إسلامِهِ، أوْ زَنى بعدَ إحصانِهِ، أوْ قَتَلَ نفْسًا بغيرِ نفْسٍ)، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا تمنيت أن لي بديني بدلاً منذ هداني الله، ولا قتلت نفساً، فلم يقتلونني؟)، صححه الألباني  [19].
فمراد عثمان رضي الله عنه من رواية الحديث هو بيان تحريم قتل المسلم المقدور عليه في قتال البغي والفتنة، يؤكد ذلك أن الحديث في حل القتل بمعناه العام الذي يشمل الوجوب والتخيير، والمراد التخيير في المرتد المحارب والوجوب في القاتل والزاني المحصن.
ودلالة الحديث على أنه في المحارب ظاهرة لروايته حال محاربة البغاة والخوارج عثمان رضي الله عنه، ولأن دلالة الحل على التخيير أظهر من دلالته على الوجوب، وأما وجوب قتل القاتل والزاني المحصن؛ فقد دلت عليه نصوص أخرى.
وورد الحل أيضاً في حديث عائشة رضي الله عنها ليشمل معناه تخيير الحاكم، وتقدم أن "أو" للتنويع على قدر الجريمة إضافةً للتخيير حسب حال المجرم وأثر جريمته.
والحديث الرابع؛ حديث معاذ وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، وهو في المرتد إلى دينه السابق ممن فيه شبهة تجسس ونفاق بأمارات وكونه من قوم محاربين ثم تأكدت زندقته السابقة ومحاربته بإصراره على الردة بعد استتابته.
قال أَبُو بُرْدَةَ بن أبي موسى الأشعري حاكياً عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (بَعَثَهُ على اليَمَنِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ مُعاذَ بنَ جَبَلٍ، فَلَمّا قَدِمَ عليه، قالَ: انْزِلْ، وَأَلْقى له وِسادَةً وإذا رَجُلٌ عِنْدَهُ: مُوثَقٌ: قالَ: ما هذا؟ قالَ: هذا كانَ يَهُودِيًّا فأسْلَمَ، ثُمَّ راجَعَ دِينَهُ دِينَ السَّوْءِ فَتَهَوَّدَ، قالَ: لا أَجْلِسُ حتّى يُقْتَلَ قَضاءُ اللهِ وَرَسولِهِ، فَقالَ: اجْلِسْ، نَعَمْ، قالَ: لا أَجْلِسُ حتّى يُقْتَلَ قَضاءُ اللهِ وَرَسولِهِ، ثَلاثَ مَرّاتٍ، فأمَرَ به فَقُتِلَ.
ثُمَّ تَذاكَرا القِيامَ مِنَ اللَّيْلِ، فَقالَ أَحَدُهُما، مُعاذٌ: أَمّا أَنا فأنامُ وَأَقُومُ، وَأَرْجُو في نَوْمَتي ما أَرْجُو في قَوْمَتِي)، متفق عليه [20].
وفي رواية؛ (وكان قد استُتِيب قبل ذلك)، صححه الألباني [21]، وفي رواية؛ (وكان قد استُتيبَ قبل ذلك عشرينَ ليلةٍ) [22].
يدل قوله: (ثُمَّ راجَعَ دِينَهُ دِينَ السَّوْءِ فَتَهَوَّدَ) على أن قتل اليهودي كان لزندقة سابقة وتجسس ومحاربة، فكلمة (راجَعَ) تدل على أن رجوعه إلى دينه كان بالتدرج شيئاً فشيئاً.
وعلى التسليم بأن راجع تعني رجع كما قال بعضٌ، فإن ما يلي يدل على أن ردة اليهودي لم تكن ردة مجردة؛
بعد ظهور توهم الإجماع على وجوب قتل كل مرتد وظهور عدم وجود أمر بقتل المرتد المجرد؛ فإن تأويل قتل اليهودي بالمحارب ونحوه لازم، وذلك جمعاً بين النصوص بتقديم النصوص الأوضح دلالةً وهي التي تدل على أنه لا إكراه في الدين.
فطريقة أهل السنة هي إعمال كل النصوص، وأهل البدع يُعملون بعضها ويعرضون عن أخرى، كما في حديث تخليد قاتل نفسه تخليداً أبدياً في النار وأحاديث نفي الإيمان ودخول الجنة عن العصاة ونحوها.
ومن استدل بهذا الحديث على قتل المرتد المجرد استدل به على أنه لا يعاقب بما دون القتل، وذلك بناءاً على فهمهم لهذا الحديث وما سبقه، وقد دلت النصوص وأقوال السلف على أن في عقوبة المرتد المحارب تنويع وتخيير، فكيف يصح الخيار في المحارب ولا يصح فيمن خطره أقل وهو المرتد المجرد؟
ومن خطرهم أعظم من المرتدين المحاربين والمجردين هم المبدلون لدينهم بزندقة أو جحود معلوم بالضرورة كمانعي الزكاة كما هو موضح في مبحث؛ الردة والحرية.
فدل ما سبق على أن اليهودي قتل بسبب زندقة سابقة ومحاربة بمثل التجسس أو إضعاف الولاء أو إثارة الفتن أو التخذيل عن المسلمين والتشكيك في الدين.
يؤكد ذلك أن المرتد كان من اليهود الذين أوصى بعضهم الآخرين بالإسلام ثم الردة لتشكيك المسلمين في دينهم، وأكثر أهل الأديان الباطلة اختراقاً للمسلمين نفاقاً وزندقة هم اليهود عبر تاريخ المُسلمين الطويل.
وتدل آيات براءة على أن أغلب مشركي العرب وأمم الكفر المجاورة حاربوا المُسلمين قبل فتح مكة، وذلك لأن البراءة لا تكون إلا ممن خيفت خيانتهم، فيُتوقع ممن ظل يحارب المسلمين حال ضعفهم إرسال جواسيس يتظاهرون بالإسلام لحربه من الداخل بعد قوة المُسلمين.
ولم يوجد في كثير من تلك المجتمعات مفهوم مدنيين وعسكريين، فقد كان كل الرجال البالغين مقاتلين ومُخبرين، فيُتوقع ممن يرجع إلى دينه السابق وقتها أنه جاسوس محارب، وفي قصة العرنيين كما في المستدرك؛ (فقالوا: نبايعك على الإسلام، فبايعوه وهم كذبة).
وقد قال معاذ رضي الله عنه في قتل اليهودي المُرتد: (قضاء الله ورسوله)، والقضاء في آية الحرابة وحديث عائشة رضي الله عنها هو في المحارب وقاطع الطريق المستحق للقتل، وقد دلت الآية والحديث على عدم وجوب قتل كل مرتد.
وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك بقتل المُبدل لدينه، وسبق أن معنى (بدل دينه) حرَّفه بزندقة أو تبديل بعض الأحكام التي يكفر مبدلها.
ومن أغراض بعض المرتدين إلى أديانهم السابقة تشكيك ضعاف العلم والإيمان؛ {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
جاء في تفسير الآية عن قتادة رحمه الله تعالى: (فقال بعضهم لبعض: أعطوهم الرضى بدينهم أول النهار، واكفروا آخره، فإنه أجدر أن يصدقوكم، ويعلموا أنكم قد رأيتم فيهم ما تكرهون، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم) [23].
والحديث الخامس؛ حديث استحقاق رسولي مسيلمة القتل لولا أن الرسل لا تُقتل، فالذي يظهر أن مسيلمة وأتباعه كانوا محاربين، وقد قيل أنهم كانوا زنادقة ادعوا الرسالة لمسيلمة الكذاب مع النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن ارتد من العرب كانوا محاربين، وآيات السيف تدل على أن أغلب الكفار المجاورين حاربوا المسلمين، وذلك لدلالة النصوص على أن البراءة من العهود إنما كانت ممن خيفت خيانتهم وأن من استقام في عهده استقام له المسلمون، وخوف الخيانة يكون إما بظهور علاماتها سابقاً بتكرار حرب أو غدر أو لاحقاً بعد العهد.
للمزيد حول علة جهاد الطلب وحكم الوفاء بالعهد المطلق ودلالات آيات براءة أرجو الرجوع للروابط التالية؛ حُكم العهد المطلق، وسبب مشروعية الجهاد، وآيات السيف والبراءة.
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء ابنُ النَّواحةِ وابنُ أثالٍ رسولا مسيلمةَ إلى النبيِّ ﷺ فقال لهما: أتشهدانِ أنِّي رسولُ اللهِ قالا: نشهدُ أنَّ مسيلمةَ رسولُ اللهِ، فقال النبيُّ ﷺ: آمنتُ باللهِ ورسلِه، لو كنتُ قاتلًا رسولًا لقتلتُكما قال عبدُ اللهِ: قال: فمضَت السنَّةُ أن الرسلَ لا تُقتلُ)، صححه الألباني  [24].
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الكَذّابُ على عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ ﷺ، فَجَعَلَ يقولُ: إنْ جَعَلَ لي مُحَمَّدٌ الأمْرَ مِن بَعْدِهِ تَبِعْتُهُ، وقَدِمَها في بَشَرٍ كَثِيرٍ مِن قَوْمِهِ.
فأقْبَلَ إلَيْهِ رَسولُ اللَّهِ ﷺ ومعهُ ثابِتُ بنُ قَيْسِ بنِ شَمّاسٍ وفي يَدِ رَسولِ اللَّهِ ﷺ قِطْعَةُ جَرِيدٍ، حتّى وقَفَ على مُسَيْلِمَةَ في أصْحابِهِ، فَقالَ: لو سَأَلْتَنِي هذِه القِطْعَةَ ما أعْطَيْتُكَها، ولَنْ تَعْدُوَ أمْرَ اللَّهِ فِيكَ، ولَئِنْ أدْبَرْتَ ليَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ، وإنِّي لَأَراكَ الذي أُرِيتُ فِيكَ ما رَأَيْتُ.
فأخْبَرَنِي أبو هُرَيْرَةَ: أنَّ رَسولَ اللَّهِ ﷺ، قالَ: بيْنَما أنا نائِمٌ، رَأَيْتُ في يَدَيَّ سِوارَيْنِ مِن ذَهَبٍ، فأهَمَّنِي شَأْنُهُما، فَأُوحِيَ إلَيَّ في المَنامِ: أنِ انْفُخْهُما، فَنَفَخْتُهُما فَطارا، فأوَّلْتُهُما كَذّابَيْنِ، يَخْرُجانِ بَعْدِي فَكانَ أحَدُهُما العَنْسِيَّ، والآخَرُ مُسَيْلِمَةَ الكَذّابَ، صاحِبَ اليَمامَةِ) [25].
روى عبدالرزاق الصنعاني في تفسيره عَنْ مَعْمَرٍ قالَ: (سَمِعْتُ أنَّ مُسَيْلِمَةَ أخَذَ رَجُلَيْنِ مِن أهْلِ الإسْلامِ، فَقالَ لِأحَدِهِما: أتَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قالَ: نَعَمْ، وكانَ مُسَيْلِمَةُ لا يُنْكِرُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، يَقُولُ: هُوَ نَبِيٌّ وأنا نَبِيٌّ، قالَ: فَقالَ: أتَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: أتَشْهَدُ أنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللَّهِ؟، قالَ: نَعَمْ، فَتَرَكَهُ، ثُمَّ جِيءَ بِالآخَرِ، فَقالَ: أتَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟، قالَ: نَعَمْ، قالَ: أتَشْهَدُ أنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقالَ: إنِّي أصَمُّ، فَقالَ: أسْمِعُوهُ، فَقالَ: مِثْلَ مَقالَتِهِ الأُولى، فَقالَ: إذا ذَكَرُوا لَكَ مُحَمَّدًا سَمِعْتَ وإذا ذَكَرُوا لَكَ مُسَيْلِمَةَ قُلْتَ: إنِّي أصَمُّ اضْرِبُوا عُنُقَهُ، قالَ: فَضَرَبُوا عُنُقَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقالَ: «أمّا هَذا فَقَدْ مَضى عَلى يَقِينٍ، وأمّا الآخَرُ فَأخَذَ بِالرُّخْصَةِ») [26].

تقديم النصوص على الإجماع الظني

سبق أن النص ولو كان ظنياً مقدم على الإجماع الظني الذي لم يتقوَ بقرائن تجعله في مرتبة النص، وأنَّ دلالة آية الحرابة وحديث عائشة صريحة على أنه لا يُقتل كل مرتد.
يضاف إلى ذلك أن النصوص قد دلت على أن عدم الإكراه في الدين أصلٌ جامع، والنصوص في ذلك مُحكمة وغير منسوخة، فلا يُستثنى من ذلك إلا بقَدر لا يتعارض مع هذا الأصل.
والإجماع ظني في الأصل ما لم يتقوَ بقرائن، وذلك لأنه مبني إما على عدم العلم بالقائل أو عدم العلم بالمخالف، وعدم العلم ليس علماً.
والقرائن التي تجعل الإجماع يقينياً قد تكون في غيره كتقوِّيه بنص ولو كان خفياً أو ظنياً، وقد تكون في ذات الإجماع؛ كإجماع الصحابة رضي الله عنهم لتفرق من بعدهم في الأمصار، وكسنة الخلفاء الراشدين لاشتهارها، وكتواتر حكاية الإجماع.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في الإجماع: (لكن المعلوم منه هو ما كان عليه الصحابة وأما ما بعد ذلك فتعذر العلم به غالباً) [27].
والمقصود بالعلم هنا اليقين، فالإجماعات اليقينية بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم قليلة لتفرق المُسلمين في الأمصار.
وكلام ابن تيمية رحمه الله تعالى لا يعني الإعراض عن أكثر إجماعات غير  الصحابة، لأن الإجماع الظني مقدم على القياس الظني، ولا يبطل إجماع ظني إلا بدليل أقوى منه ولو كان ظنياً، فكيف إذا عضد إجماع ظني نص ظني أو قياس ونظر؟
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (ولم يزل أئمة الإسلام على تقديم الكتاب على السنة، والسنة على الإجماع وجعل الإجماع في المرتبة الثالثة، قال الشافعي: الحجة كتاب الله وسنة رسوله واتفاق الأئمة) [28].
الكتاب والسنة والإجماع والقياس بنفس الدرجة في المتفق على صحته من السنة والإجماع الذي تقوى بقرائن تجعله في مرتبة النص والقياس الذي في حُكم المنصوص عليه، وذلك لأن الكتاب أمر باتباع السنة وأمر بالعمل بالإجماع وأمرت السنة بالقياس على النصوص.
فالقياس الجلي البدهي في حكم المنصوص عليه، كقياس الأولى بعدم ضرب الوالدين في قول الله تعالى: {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا}.
ولكن يقدم النص على الإجماع الذي لم يتقوَ بقرائن تجعله في مرتبة النص، ويقدم الإجماع على القياس الذي لا يُعد في حكم المنصوص عليه.
ويجب معرفة أن الظن درجات متفاوتة، فلا يجوز تقديم النص الظني القريب من الشك على الإجماع الظني القريب من اليقين، ومن باب أولى إذا كانت دلالة النص غير واضحة.
والآراء والأقيسة العقلية المحضة ليست مصدراً للأحكام الشرعية إلا في المصالح المرسلة والأحكام التعزيرية، فمصادر الأحكام الشرعية هي الكتاب والسنة المجتمع عليها ثم السنة المختلف فيها بين علماء الحديث ثم الإجماع الظني الذي لم يتقوَ بقرائن ثم القياس الظني على النصوص.
وفي مقابل من يقدم الأقيسة الظنية والآراء على الإجماع؛ من يقدم الإجماع المتوهم على النصوص.
فأهل الجفاء يقدمون القياس على النصوص والإجماع، ومتعصبة المذاهب يقدمون الإجماع المتوهم على النصوص.
والسنة في مرتبة القرآن فيما لا خلاف في ثبوته منها وما روي بنصه وما لم تُنقِص روايته بالمعنى شيئاً من معناه، لأن السنة وحي منزل أو بإقرار الوحي، ولأن القرآن أمر باتباع السنة.
والسنة تلي القرآن في كثيرٍ من المسائل الخفية لأن من السنة ما هو مختلف في صحته ولجواز رواية السنة بالمعنى.
وعدم العلم بقائل بمشروعية عقوبة المُرتد المحارب بما دون القتل ليس حُجة إلا إذا لم يوجد نص، وكذا القول في عدم العلم بمُخالف للقول بقتل كل مرتد، كيف وقد عُلم بقائل ومخالف؟
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في مسألة عدم العلم بقائل بمسألة فيها نص: (فدفعنا إلى زمان إذا قيل لأحدهم "ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا وكذا" يقول: من قال بهذا؟ ويجعل هذا دفعاً في صدر الحديث، أو يجعل جهله بالقائل به حجة له في مخالفته وترك العمل به، ولو نصح نفسه لعلم أن هذا الكلام من أعظم الباطل) [29].
وقال في مسألة عدم العلم بمخالف لمسألة فيها نص مخالف للأقوال: (ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث من أن يقدموا عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم بالمخالف، ولو ساغ لتعطلت النصوص، وساغ لكل من لم يعلم مخالفاً في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص) [30].
ومن أسباب الجمود والتقليد عند متعصبة المذاهب ومن نحى نحوهم؛ المنع من إحداث قول في مسألة حتى مع وجود نص فيها ونحو ذلك من الغلو في الأئمة والعلماء.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وقال الإمام أحمد لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام.
والحق التفصيل، فإن كان في المسألة نص من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أثر عن الصحابة لم يكره الكلام فيه.
وإن لم يكن فيها نص ولا أثر فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدرة لا تقع لم يستحب له الكلام فيها، وإن كان وقوعها غير نادر ولا مستبعد، وغرض السائل الإحاطة بعلمها ليكون منها على بصيرة إذا وقعت استحب له الجواب بما يعلم) [31].
ومن أسباب الجمود عكس ترتيب الأدلة ومصادر التشريع، فأوجب المقلدون المتعصبة والجامدون على المجتهد أن ينظر أول ما ينظر في الإجماع قبل النصوص، والمقصود هنا الإجماعات الظنية التي لم تتقوَ بقرائن تجعلها في مرتبة النصوص، فجعلوا بهذا الترتيب للأدلة الشرعية الاجتهاد أصعب ما يكون خاصة بعد تفرق المسلمين في الأمصار.
وكثيرٌ من الكتب لا زالت مخطوطة يتعسر الحصول عليها، وبعضها مفقود وبعضها أُغرق وبعضها تلف، وبعض المسائل موجودة في غير مظانها ككلام ابن تيمية السابق عن رأي الإمام أبي حنيفة رحمهما الله تعالى في قتل المرتد.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فإنَّ عِلْمَ المجتهد بما دل عليه القرآن والسنة أسهل عليه بكثير من عِلْمِه باتفاق الناس في شرق الأرض وغربها على الحكم.
وهذا إن لم يكن متعذراً فهو أصعب شيء وأشقه إلا فيما هو من لوازم الإسلام.
فكيف يحيلنا الله ورسوله على ما لا وصول لنا إليه ويترك الحوالة على كتابه وسنة رسوله اللذين هدانا بهما، ويسرهما لنا، وجعل لنا إلى معرفتهما طريقاً سهلة التناول من قرب؟
ثم ما يدريه فلعل الناس اختلفوا وهو لا يعلم، وليس عدم العلم بالنزاع علماً بعدمه، فكيف يقدم عدم العلم على أصل العلم كله؟
إلى قوله: ... وحين نشأت هذه الطريقة تولد عنها معارضة النصوص بالإجماع المجهول، وانفتح باب دعواه، وصار من لم يعرف الخلاف من المقلِّدين إذا احتج عليه بالقرآن والسنة قال: هذا خلاف الإجماع) [32].
واتفقت الأقوال التي بلغتنا من أقوال السابقين في جواز عقوبة المحارب، وهي ثلاثة أقوال؛ قتل كل مرتد، وعدم قتل غير المحارب، ومشروعية نفي المرتد، فالقول الحادث هنا لا يرفع ما اتفقت عليه هذه الأقوال ويتفق مع كل منها بوجه من الوجوه، ولهذا ولدلالة النصوص أولاً فهو إحداث جائز.
فالقول بأن المرتد لا يُعاقب ما لم يحارب أو يبدل دينه لا يرفع ما اتفقت عليه أقوال السابقين، ويتفق القول الحادث مع القول بقتل كل مرتد في قتل المبدل لدينه بزندقة أو جحد معلوم بالضرورة دون تخيير، ويتفق مع قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في جواز نفي المرتد المحارب، وكذا قول الثوري والنخعي رحمهما الله تعالى على الراجح، وعلى فرض أن قولهما في كل مرتد على فهم من رواه عنهما فهو يتفق معه في المرتد المحارب.
وقبل كل ما سبق فهو قول دلت عليه النصوص، وللمزيد حول إحداث الأقوال وترتيب مصادر الأحكام وغيرها من مسائل الإجماع؛ مدونتي » قواعد وأصول » الاتِّباع في دليل الإجماع.

دلالة "أو" في آية الحرابة

سواءٌ دلت "أو" على التنويع أو التخيير، فإن آية الحِرابة تدل على عدم وجوب قتل كل مرتد.
ويظهر أن بعض العلماء يرى أن "أو" للتخيير والتنويع معاً، وذلك لأنه رُوي عن بعضهم القولان كابن عباس رضي الله عنهما، ولذا ولأن كل ما نقل من معانٍ غير متضادة يحتملها اللفظ مرادة؛ فالأرجح في "أو" أنها للتنويع والتخيير.
والتنويع بحسب استحقاق العُقوبة، والتخيير بحسب الحال، ومعناه تخيير الحاكم بين العقوبات الواردة في الآية.
وبالمثال يتضح المقال، فمثال التنويع على قدر الجريمة هو؛ أن من أخاف السبيل فقط يُنفى، ومن أخاف السبيل وسرق تُقطع يده ورجله من خلاف، ومن أخاف السبيل وقتل يُقتل، ومن أخاف السبيل وقتل وسرق يُقتل ثم يُصلب، ومن أخاف السبيل وعذَّب فإنه يقتص منه ويُنفى؛ فمن سمل الأعين تُسمل عينه، ومن صلب يصلب، ومن مثَّل يُمثل به.
ولا يصح أن تكون "أو" للتخيير إلا بمراعاة الحال، ومن ذلك حال المجرم وظروف الجريمة وأثرها في المجتمع، وذلك لأن الشريعة لا تجمع بين المتفرقات ولا تفرق بين المتماثلات، فلا يمكن أن يتساوى المُحاربون باختلاف جرائمهم في العُقوبة.

معنى النفي

اختلف العلماء في معنى النفي من الأرض، ولعله يشمل كل ما نقل عن السلف، وذلك لأن من قواعد التفسير صحة جميع ما نقل عن السلف من أقوال مختلفة غير متضادة في المعنى وكان لفظ الآية يحتملها.
والنفي هو الإبعاد والطرد، فيكون المعنى إبعاد المُحارب من أرض قراره وذويه بالسجن أو التغريب أو الطرد من دار الإسلام أو بملاحقته، ولا يُنفى إلى دار يتمكن فيها من حرب المسلمين.
ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فلا يختص النفي بما ورد في روايةٍ أن بعض العرنيين نُفي بطلبه حتى لجأ إلى مأمن، والنص وإن كان ظني الدلالة مقدم على الإجماع الظني، وإذا افترضنا صحة حصر النفي في هذا المعنى؛ فإن الآية تدل على عقوبة قطع الأيدي والأرجل من خلاف وهي دون القتل.
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: (اختلف العلماء في المراد بالنفي فيه أيضاً، فقال بعضهم: معناه أن يطلبوا حتى يقدر عليهم، فيقام عليهم الحد، أو يهربوا من دار الإسلام، وهذا القول رواه ابن جرير عن ابن عباس، وأنس بن مالك، وسعيد بن جبير، والضحاك، والربيع بن أنس، والزهري، والليث بن سعد، ومالك بن أنس. وقال آخرون: هو أن ينفوا من بلدهم إلى بلد آخر، أو يخرجهم السلطان، أو نائبه، من عمالته بالكلية) [33].
وفي روايةٍ في قصة العرنيين أن بعضهم قُتل وبعضهم نُفي، ففي المستدرك: (فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم)، (ونفوهم من أرض المسلمين).
ووجبت ملاحقة العرنيين لأنهم سملوا أعين الرعاء وقتلوهم ومثلوا بهم، فلزم في حقهم القصاص.

حديث الأعرابي

ومما يدل على أن النفي بملاحقة المرتد ليقام عليه الحد أو يخرج من دار الإسلام يقتصر على المحارب؛ حديث الأعرابي الذي سأل إقالة بيعته فمُنع، فخرج من المدينة ولم يُطلب للقتل.
في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن أعرابياً بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأصابه وعك، فقال أقلني بيعتي فأبى، ثم جاءه فقال أقلني بيعتي فأبى، فخرج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها) [34].
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الأعرابي سأل إقالة بيعته على الهجرة، وقال بعضهم بأنه سأل إقالة بيعته على الإسلام، وبهذا القول جزم القاضي عياض رحمه الله تعالى لظاهر رواية البخاري التي فيها أنه بايع على الإسلام.
ظاهر جميع الروايات أن البيعة كانت على الإسلام والهجرة، وذلك لأن البيعة إذا أُطلقت فهي على الإسلام ولوازمه كهجرة من يُفتن عن دينه، وإذا قيدت بسبب أو لفظ كانت على ما قيدت به؛ كالبيعة على السمع والطاعة أو الهجرة أو الجهاد أو الموت.
وقول الأعرابي: (أقلني بيعتي) يدل على أنه طلب إقالة كل البيعة، ولا شك أنها كانت على الإسلام والهجرة، وربما كان دافعه لطلبه إقالة بيعته عادة العرب في الوفاء بالمواثيق والعهود.
من المؤكد أن الأعرابي طلب إقالة بيعة الهجرة أيضاً لأن سبب طلبه هو أنه أصابه وعك، وغالباً ما يكون الوعك بسبب جو المدينة فهي شديدة اللَّأواء كما ورد في السنة، وكانت بها حمى انتقلت إلى الجحفة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا يُقال باحتمال أن الحديث منسوخ، لأن الاحتمال الذي لا دليل عليه وهم، بل ما تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدال حتى ولو كان شكاً بتساوي الاحتمالين، ولا نسخ من غير معرفة التاريخ، والجمع بين النصوص أولى من ادعاء النسخ والترجيح.
فإن قيل إن سبب الترجيح الإجماع، فيقال ليس في القول بعدم طلب المرتد لقتله مخالفة للإجماع كما سبق.

ردة الصبي

الصبي المميز يصح إسلامه، وذلك لأن علياً بن أبي طالب رضي الله عنه أسلم وهو صبي، ولقصة الغلام اليهودي الذي كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فعاده ودعاه إلى الإسلام فأسلم، وهي في الصحيح.
وأما ردة الصبي المميز فالراجح صحتها أيضاً، ولكنه لا يعاقب عليها إلا بعد البلوغ، لأن القلم مرفوع عنه، ولا يُعاقب إلا إذا كان زنديقاً أو مبدلاً للأحكام أو محارباً.
واشترط الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لقتل المرتد الإقرار بالإيمان بعد البلوغ إذا كان أبواه كافرين، فيرى أنه إذا أسلم صبي لأبوين كافرين ثم ارتد قبل البلوغ أو بعده أنه يؤمر بالإيمان ويجهد عليه دون قتل.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (وإنما يقتل من أقر بالإيمان إذا أقر بالإيمان بعد البلوغ والعقل، فمن أقر بالإيمان قبل البلوغ وإن كان عاقلاً ثم ارتد قبل البلوغ أو بعده ثم لم يتب بعد البلوغ فلا يقتل، لأن إيمانه لم يكن وهو بالغ، ويؤمر بالإيمان ويجهد عليه بلا قتل إن لم يفعله) [35].
واشترط أبو يوسف رحمه الله تعالى صاحب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى لقتل المرتد الإقرار بالإيمان بعد البلوغ حتى ولو كان مسلماً تبعاً لوالديه، وعليه المذهب الحنفي.
قال الكاساني رحمه الله تعالى: (صبي أبواه مسلمان حتى حُكم بإسلامه تبعاً لأبويه فبلغ كافراً ولم يُسمع منه إقرار باللسان بعد البلوغ لا يُقتل، لانعدام الردة منه... إلى قوله: ولكنه يُحبس) [36].
ومن العلماء من يرى أن الصبي المميز يعاقب بالقتل بعد البلوغ إذا ارتد، وهو الراجح إذا حرَّف الدين أو حارب، فحُكم الصبي حُكم البالغ ولكنه لا يُعاقب إلا بعد البلوغ كما سبق.
ويجب مراعاة نشأة بعض أبناء المسلمين في أسر شيوعية أو علمانية أو جاهلة بالتوحيد والسنة، وهذا مما يعرضهم للشك في الإسلام خاصةً مع انتشار شبهات الأعداء عبر وسائل الإعلام الحديثة، ولا يعد مرتداً من نشأ على الكفر من قبل سن التمييز لأن كفره أصلي، فيُعاقب بما دون القتل كالحبس إذا نشأ على تحريف حُكم معلومٍ بالضرورة بعد إقامة الحجة عليه.

الردة والحرية

بما أن قتل المرتد يقتصر على المحارب والمُبدل لدينه بزندقة أو جحد أحكام معلومة من الدين بالضرورة؛ فإنه لا يخرج عن قاعدة أن من ضوابط الحرية عدم التعدي على حقوق الآخرين وعدم الإضرار بهم.
فمن التعدي على حقوق الآخرين والإضرار بهم منافقتهم وغشهم وتحريف معاني نصوص كتبهم ونقض عهودهم غدراً.
والإسلام عهد مع الله سبحانه وتعالى أولاً ثم الجماعة المُسلمة ثانياً، ولذا كان الداخل في الإسلام يُبايِع عليه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.
وقول بعض السابقين بإكراه المرتد هو اجتهاد منهم ليس لهم فيه نص، ومن نقل الإجماع على إكراه المرتد من العلماء فلأنه ظن أن الإجماع منعقد على وجوب قتل كل مرتد، ومنهم من ظن بأن الإجماع منعقد على أن المُرتد يُكره إما بالقتل أو الحبس، والقول بأنَّ المرتد يُكره لأنه عرف الحق يُعارض بمن جحد الحق من الكفار الأصليين.
وليس كل ما نقل عن العُلماء والأئمة من خلاف معتبر، فمن الأئمة من يرى إكراه بعض الكفار الأصليين، ومنهم من يرى إكراههم جميعاً وأن الجزية تقبل فقط من أهل الكتاب لمصلحة إبقاء ما عندهم من كتب فيها بشارات، وهؤلاء يرون أن عدم الإكراه منسوخ، وكلها أقوال غير معتبرة، وللمزيد حول هذه المسائل؛ حُكم العهد المطلق، وسبب مشروعية الجهاد، وآيات السيف والبراءة، وحرية الاختيار وأحكام العقوبات.
والغرض من استتابة المرتد الذي بدل دينه بجحد بعض الأحكام والمرتد لدينه السابق المتهم بنفاق وتجسس هو درء القتل بالتوبة وليس إكراهه على الدين، فقد يكون جاهلاً أو متأولاً وقد يتوب توبة صادقة إذا كان متبعاً لهواه.
والراجح وجوب استتابة المرتد المبدل لبعض الأحكام والمحارب، والزنديق يُستتاب إن لم يتبيَّن أن توبته مخادعة، فإن قُتل دون استتابة لظهور مخادعته بإظهار التوبة؛ فإن حُكمه يوم القيامة إلى الله سبحانه وتعالى.
وذلك لأن التائب سقط عنه وصف المبدل لدينه والتارك له المفارق للجماعة، فالحكم بقتله هو لوصف قائم به، خلافاً للزاني مثلاً فهو لوصف سابق؛ ولذا يقام على الزاني الحد حتى وإن تاب.
وإضرار الأمة لا يكون فقط بحمل السلاح، بل مجرد حمل السلاح أخف ضرراً من  تفريق الكلمة بتبديل المفاهيم الأساسية ومن ثم إثارة الفتن، وحمل السلاح أقل ضرراً من التجسس وإضعاف الولاء للأمة وإضعاف الاقتصاد.
وما أضر الأمة أكثر من الزنادقة والمنافقين والمبدلين للشرائع، وخطرهم أشد من خطر الكفار الأصليين وممن أعلن خروجه من الدين من أصحاب الكفر الطاريء، ولذا فإن مصير المنافقين الدرك الأسفل من النار، فاقتضت الحكمة تشريع ما يردعهم ويقلل ضررهم.
وردع المنافقين وتقليل خطرهم يكون بقتل من تبين نفاقهم وهم الزنادقة، ويعامل من لم يتبين نفاقهم معاملة المسلمين ولكنهم يعاقبون حسب جرمهم ويُحذرون، وما ذكر الله تعالى صفات المُنافقين إلا للحذر منهم، قال الله تعالى ذكرُهُ: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}.
يؤكد أن الحكمة من ذكر صفات المنافقين الحذر منهم ما ورد عن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقولوا للمنافِقِ سيدَّنا، فإِنَّهُ إِنْ يكنْ سيدَكُمْ فقدْ أسخطتُمْ ربَّكُمْ)، صححه الألباني  [36].
والقوة الداخلية أهم من موازين القوى الخارجية، ولا توجد قوة داخلية من غير ولاء ووحدة كلمة واستقرار سياسي وقوة اقتصادية، ولذا ذكر الله تعالى أن النزاع سبب الفشل، وأمر بالولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين، وقدم جهاد المال على جهاد النفس في القرآن الكريم.
وقد كان أثر الزنادقة والمبدلين للشرائع عبر التاريخ أسوأ من أثر الجيوش الغازية، بدءاً بالخروج على عثمان رضي الله عنه ثم تظاهر بعض الزنادقة بالتشيع لآل البيت مما انطلى على بعض محبي الإسلام وآل البيت.
وما فعله كمال أتاتورك مثلاً بالمُسلمين في تركيا لم يجرؤ عليه المُستعمر، ولم تتمكن الدول الكبرى في عصرنا إلا عبر عملاء لها في الداخل والخارج.
وقد صرح الأوربيون في عهد الإمبراطورية التركية أنهم لن يتمكنوا منها إلا بإضعافها من الداخل، وهذا ما تفعله الدول المعادية اليوم بالمُسلمين.
ولو كانت قوة البلد هي في مجرد العدد والسلاح والحصون، لما استطاعت دول صغيرة كبريطانيا أن تحكم العالم، فقد حكم البريطان الملايين في الهند مثلاً بألف بريطاني فقط والبقية كانوا من الهنود العملاء والمضطرين للتعامل مع المستعمر.
ومن أخطر الأسلحة تغيير المفاهيم عبر الغزو الفكري والاستلاب الحضاري ونشر الأفكار الهدامة والتشكيك في القيم والتأثير النفسي، والمبدلون للدين وشرائعه سبب في ازدياد الهزيمة النفسية والتعلق بالأعداء بتزيين مناهجهم وطرق حياتهم.
والله تعالى أعلم،  والحمد لله ربِّ العالمين.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند السويد
الأربعاء 11 شعبان 1442هـ، 24 مارس 2021م.

المصادر

[1] إرواء الغليل (ج7/ص245)، المكتب الإسلامي - بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، والحديث رواه النسائي وأبوداود، واللفظ للنسائي، وصححه الحاكم.
[2] الأم للشافعي (ج٤/‏ص١٨٢)، دار المعرفة – بيروت، ١٤١٠هـ/١٩٩٠م.
[3] أخرجه مسلم (١٧٣١) واللفظ له، والترمذي (١٦١٧)، والنسائي في «السنن الكبرى» (٨٧٦٥)، وابن ماجه (٢٨٥٨)، وأحمد (٢٣٠٣٠)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (٢٣٢٥).
[4] المحلى بالآثار (ج12/ص97)، دار الفكر، بيروت، لبنان.
[5] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج20/ص99-100)، تحقيق؛ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، الناشر؛ مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية عام النشر: 1416هـ/1995م.
[6] تفسير الطبري [ المائدة : 33] (ج10/ص251)، تحقيق؛ أحمد محمد شاكر ، الناشر؛ مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420هـ - 2000م.
[7] رواه ابن منصور في سننه والبيهقي في الكبرى وعبد الرزاق في المصنف والطحاوي في شرح معاني الآثار؛ سنن سعيد بن منصور (ج٢/‏ص٢٦٧)، الدار السلفية – الهند، الطبعة الأولى، ١٤٠٣هـ -١٩٨٢م، وانظر؛ الصارم المسلول (ج٣‏/ص٦٠٤)، ونخب الافكار (ج١٢‏/ص١٦٣)، ومسند الفاروق (ج٢‏/ص٤٥٨).
[8] البيان في مذهب الإمام الشافعي (ج١٢/‏ص٤٨)، دار المنهاج – جدة، الطبعة الأولى.
[9] أحكام القرآن لابن الفرس (ج١/‏ص٢٧٦)، دار ابن حزم، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى.
[10] المحلى بالآثار (ج١٢/ص‏١٠٩)، دار الفكر، بيروت، لبنان.
[11] المحلى بالآثار (ج12/ص97)، دار الفكر، بيروت، لبنان.
[12] أحكام القرآن (ج4/ص52)، تحقيق؛ القمحاوي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، 1405هـ.
[13] جامع العلوم والحكم (ج1/ص320)، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة السابعة، 1422هـ - 2001م.
[14] صحيح البخاري (٦٩٢٢).
[15] لسان العرب لابن منظور (ج١١/‏ص٤٨)، دار صادر – بيروت، الطبعة الثالثة - ١٤١٤ هـ.
[16] الصارم المسلول على شاتم الرسول ص 319-320)، تحقيق؛ محمد محي الدين عبد الحميد، الناشر؛ الحرس الوطني السعودي، لمملكة العربية السعودية.
[17] المصدر السابق.
[18] صحيح البخاري (٦٨٧٨).
[19] صحيح وضعيف النسائي (4019).
[20] أخرجه البخاري (٦٩٢٣)، ومسلم (١٧٣٣) واللفظ له.
[21] صحيح أبي داود (٤٣٥٥).
[22] تحفة المحتاج (ج٢‏ص/٤٧٠)، صحيح أو حسن كما اشترط في المُقدمة، المحقق: عبد الله بن سعاف اللحياني الناشر: دار حراء - مكة المكرمة الطبعة: الأولى، 1406هـ.
[23] تفسير الطبري [آل عمران : 72] (ج6/ص507)، الطبعة السابقة.
[24] أخرجه أحمد (٣٧٦١) واللفظ له، وصححه الألباني في التعليقات الرضية (ج3/ص٤٨٥).
[25] صحيح البخاري (٣٦٢٠).
[26] تفسير عبد الرزاق (ج٢/‏ص٢٨٠)، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، سنة ١٤١٩هـ.
[27] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج11/ص341)، الطعبة السابقة.
[28] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج2/ص175)، تحقيق؛ محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، ييروت الطبعة الأولى، 1411هـ - 1991م.
[29] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج4/ص188)، الطبعة السابقة.
[30] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج1/ص24)، الطعبة السابقة.
[31] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج4/ص170)، الطعبة السابقة.
[32] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج2/ص174-175)، الطبعة السابقة.
[33] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (ج1/ص396)، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، لبنان، 1415هـ - 1995م.
[34] صحيح البخاري (ج9/ص79)، دار طوق النجاة، الطبعة الأولى.
[35] الأم للشافعي (ج6/ص172)، دار المعرفة، بيروت، لبنان، بدون طبعة، سنة النشر؛ 1410هـ - 1990م.
[36] بدائع الصنائع (ج7/ص135)، للكاساني رحمه الله، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، سنة النشر؛ 1406هـ  -  1986م.
[37] صحيح الجامع (٧٤٠٥).
pdf

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق