الولاء الشرعي

الولاء في اللغة يعني القرب، من يلي الشيء إذا كان قريباً منه، وأما البراء في اللغة فهو البعد، من بريء بمعنى تنزَّهَ وابتعد، والتولي والموالاة كلاهما بمعنىً واحد في اللغة وهو اتخاذ الولي، فتولاه ووالاه تعنيان اتخذه ولياً.
والولاء في عرف العرب يُطلق على الحِلف والتناصر والمؤاخاة ونحو ذلك من الصلة الخاصة، وهو أعم من الشرعي فيشمل ما كان في الدين وما كان فيه غيره.
وأما الولاء الشرعي فهو؛ كل اقتراب معنوي أو حسي له أثر في الاستقامة على الدين أو نصرته.
ويخطيء في تعريف الولاء الشرعي فريقان، الحق وسط بينهما، فلا يصح حصر الولاء الشرعي في الولاء الديني، ولا يصح تعريفه بالمحبة والنصرة، وذلك لأنه تعريف غير جامع أيضاً وغير مانع كذلك، ولكن الولاء يشتمل غالباً على المحبة والنصرة، فهما ركنان في الولاء.
فمثلاً محبة الكفار المحرمة ليست محصورة في الدينية، بل تشمل الدنيوية التي تحمل على إرضائهم بما يخالف الدين أو على ما فيه إضرار بالمؤمنين، كالمودة.
مما يدل على ذلك قول الله تعالى في قصة حاطب رضي الله عنه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ [الممتحنة : ١].
فلو كانت مودة حاطب رضي اللّه عنه دينية، لكان كافراً بذلك.
قال ابن تيمية رحمه اللَّه تعالى: (وقد تحصل للرَّجل موادَّتهم لرحم أو حاجة فتكون ذنباً ينقص به إيمانه ولا يكون به كافراً، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل اللّه فيه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ﴾ [١]) [٢].
وهذه المُعاونة للكفار بسبب هذه المودة الدنيوية من الكبائر، ولكن أهل بدر غُفر لهم اللاحق من الكبائر كما فصل ذلك ابن تيمية رحمه الله تعالى ونقلت كلامه في مبحث؛ حُكم من ظاهر مشركين على المسلمين.
والمحبة درجات متفاوتة، منها المودة، ولذا ورد نفي مودة الكفار في الآيات بينما ورد إثبات محبة لسبب كالقرابة ومحبة الهداية في قول الله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾.
فالمودة نوعٌ من المحبة فيها تعلق بالمحبوب، فكل مودة محبة، وليست كل محبة مودة، وأصلها في اللغة من الإرادة والتمني، فأودُّ تعني أريد، ووددْتُّ تعني تمنيت.
وهذا هو معنى المودة في قول الله تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: ٢٢].
ومما يدل على أن المحبة الداخلة في الولاء الشرعي هي المودة وكل محبة لها أثر في الاستقامة أو نصرة الدين؛ إجماع العلماء على جواز المحبة الطبيعية لمن ورد ذكرهم في الآية من الآباء والأبناء والإخوان بسبب القرابة.
والمحاددة لغةً هي المخالفة والمُعاداة، ورد في معجم المعاني؛ (حادَّه: غاضَبه وعصاه، عاداه وخالفه ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا﴾)، وقال قتادة رحمه الله تعالى: (يوادون من حاد الله ورسوله: أي من عادى الله ورسوله) [٣].
والمحبة التي فيها تعلق (المودة) تحمل صاحبها على ما لا يُرضي الله حتى ولو كان سبب المحبة طبيعي مباح.
وأما جواز مودة الزوجة الكتابية فهو تخصيص للعموم، ولا يخفى أنها دنيوية محضة خاصة بالعلاقة الزوجية.
يدل على ذلك عدم ورود ذكر الزوجات في آية نفي مودة المؤمنين للكافرين السابقة، بينما ورد ذكرهن في تقديم محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله على محاب الدنيا.
قال تعالى ذكره: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: ٢٤].
والولاء الشرعي خاص بالمؤمنين خصوصية مطلقة، فلا يدخل عليه القصر الوارد في آية البر والقسط وما بعدها وغيرهما من الآيات المُخصصة، وإنما يدخل هذا القصر على الولاء العرفي كالصلة الدنيوية.
قال الله تعالى ذِكْرُهُ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾، قال ابن عاشور رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: (والقصر المستفاد من (إنما) قصر صفة على موصوف قصراً حقيقياً) [٤].
وأما تعريف الولاء الشرعي بالمحبة والنصرة، فهو أيضاً غير جامع، فهذا التعريف وكذا تعريفه بما كان في الدين فقط لا يشملان تحريم الصلة الدنيوية للمحارب، وهي محرمة في الأصل، وقد سماها الله تعالى تولياً، ولكنها تباح للاحتياج لأنها محرمة لغيرها.
وقد ورد النهي عن صلة المُحارب في قول الله تعالى ذكرُهُ: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
والقصر هنا قصر قلب إضافي للآية التي قبلها وليس قصراً حقيقياً، فليس المعنى قصر التولي المحرم على المحارب، فالتولي هنا هو الصلة الدنيوية لأن البر في سابقتها هو الصلة كما ذكر المفسرون، وفي هذا المبحث نقلٌ لأقوال المُفسرين في أنّ البر في الآية السابقة هو الصلة.
وهنا نكتة لطيفة، وهي أن الله تعالى سمى المباح من الصلة الدنيوية براً وقسطاً وهي صلة غير المحارب، وسمى المحرم منها تولياً وهي صلة المحارب، وذلك لأثر صلة المحارب في نصرة الدين بخلاف صلة غير المحارب، وفي هذا دلالة على صحة تعريف الولاء الشرعي بأنه كل اقتراب معنوي أو حسي له أثر في الاستقامة على الدين أو نصرته.
يقول الله تعالى ذكرُهُ: ﴿لا يَنهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ لَم يُقاتِلوكُم فِي الدّينِ وَلَم يُخرِجوكُم مِن دِيارِكُم أَن تَبَرّوهُم وَتُقسِطوا إِلَيهِم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقسِطينَ (٨)  إِنَّما يَنهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ قاتَلوكُم فِي الدّينِ وَأَخرَجوكُم مِن دِيارِكُم وَظاهَروا عَلى إِخراجِكُم أَن تَوَلَّوهُم وَمَن يَتَوَلَّهُم فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمونَ(٩)﴾[الممتحنة:  ٨ - ٩ ].
وصلة المحارب محرمة لغيرها، والمحرم لغيره يباح للحاجة، فيجوز لجماعة المُسلمين صلة المُحاربين لمدة مؤقتة أو مطلقة لتحقيق مصالح حاجية أو ضرورية، وذلك حسب الحال وما يترتب على المقاطعة، للمزيد؛ التطبيع مع إسرائيل.
والنهي عن صلة المحاربين هو نهي جماعة المسلمين وما توجبه على الأفراد، فيجوز مثلاً السفر إلى ديارهم إذا لم تمنع من ذلك السلطات المُسلمة.
وقد دلت السنة على أنَّ المؤاخاة الخاصة مخصوصةٌ بالمؤمن دون الكافر خصوصيةً مطلقة، وذلك لسد ذريعة التأثير السيء، كما في حديث الجليس الصالح والسوء، وكذلك تحرم الموالاة العرفية الدنيوية إذا كان فيها ضرر على المؤمنين، أو كانت على سبيل تقديم مصلحة الكفار على مصالح المسلمين، أو كانت من قبيل موالاة الأدنى للأرفع من غير اضطرار، كمن يهاجر إلى ديارهم طالباً اللجوء لغير ضرورة ملجئة.
وتعريف الولاء الشرعي بالمحبة والنصرة غير مانع، لأن الولاء الشرعي لا يدخله التصخيص والقصر، فهو خاص بالمسلمين خصوصية مطلقة كما سبق، والمحبة والنصرة يدخلهما القصر.
فيُستثنى من النصرة المُحرمة؛ النُصرة الدنيوية الجائزة كالقضاء لكافر مظلوم على مُسلمٍ ظلمه، والحِلف ضد أعداء المُسلمين مع من هم أقل ضرراً، ويُستثنى من المحبة المحرمة؛ المحبة الطبيعية لسبب مباح كالقرابة.
والمحبة درجات متفاوتة، والمودة أحد درجات المحبة، ولذا ورد نفي مودة الكفار بينما ورد إثبات محبة لسبب كالقرابة ومحبة الهداية لكافر في قول الله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾.
وقد جاء في الحث على نصرة المُظلوم قول النبي صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول الذي كان في الجاهلية: (لقد شَهِدتُ مع عمومَتي حِلفًا في دارِ عبدِ اللَّهِ بنِ جُدعانَ ما أُحبُّ أن لي بهِ حُمْرَ النَّعَمِ، ولَو دُعيتُ بهِ في الإسلامِ لأجَبتُ)، وفي رواية: (شهدتُّ غلامًا مع عمومتي حِلْفَ الْمُطَيِّبينَ، فما يَسُرُّنِي أنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ وأني أَنْكُثُهُ)، صححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع ٣٧١٧.
سبق أن المحبة والنصرة هما ركنا الولاء وأنه يشتمل عليهما غالباً، ولهذا كان دليل من قال بأنهما المرادان بالولاء الشرعي التتبع والاستقراء وأسباب النزول، أما التتبع والاستقراء فلابد معه من تأمل دلالات الألفاظ في اللغة والعُرف والشرع، وأما أسباب النزول فقد تفيد في فهم قصر المعاني على مثل سبب النزول لا عليه، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ومع أن تعريف الولاء الشرعي بالمحبة والنصرة خطأ لفظي لبعض العلماء إلا أن له أثر في العوام فضلاً عن استغلال الغلاة إياه.
فتجد من يتحرج أن يبدي لكافر محبة لتأليف قلبه، مع أنه يحب له الخير في الدنيا والآخرة بإسلامه، وهذه المحبة هي أفضل محبة للبشرية، والحب درجات، وقد يجتمع في القلب حب وبغض، فلابد من بغض الكافر المحاد لله ورسوله.
وتصحيح الأخطاء اللفظية لازمٌ لأنها تلبس المعنى على العوام ويستغلها الغلاة، فلا يجوز مثلاً أن يُقال؛ "الزنى مكروه" مع أنه مكروه لفظاً بنص القرآن.
والنهي عن التشبه بالكفار في العادات من المحرم سداً للذريعة، وسبب النهي عنه ما فيه من محبة فيها تعلق (مودة)، والتشبه لا يكون إلا في غير المشترك بين الكفار والمسلمين، ولا يخفى ما في تقليد قومٍ في خصائصهم أو فرد في خصائصه من تعلُّق بالمحبوب.
وسداً للذرائع في باب المودة وليعتز المسلم بدينه أمر الشارع الحكيم بمخالفة الكفار، والمخالفة تشمل ترك التشبه (غير المشترك) وترك المشترك من العادات.
والمخالفة في المشترك مشروعة فيما فيه نص، إما وجوباً مثل إعفاء اللحية، أو استحباباً مثل صبغ شيب شعر اللحية والرأس، وما لم يرد فيه نص من المشترك فالمخالفة فيه مستحبة أيضاً لمن لا يعيش في ديارهم، مثل مخالفتهم في لبس البنطلون، وأطلق بعضهم القول بجواز المشترك، للمزيد؛ مدونتي في الإنترنت » مسائل وأحكام » مخالفة الكفار وترك مجالستهم.
فمحبة الكفار المُحرمة هي التي لها أثر في الاستقامة على الدين أو نصرته، كالمودة، والمحبة المشروعة للكافر هي المحبة الطبيعية لسبب مباح مثل القرابة أو حسن المعاملة، أو محبة ما عند بعضهم من خصال حميدة، أو محبة إسلام الناس، فالحب درجات، وقد يجتمع في القلب حب وبغض، فلابد من بغض الكافر المحاد لله ورسوله.
ولا يجوز أن يطلق القول بجواز ولاء غير المُحاربين من الكفار، لأن الولاء الشرعي خاص خصوصية مطلقة بالمؤمنين، كما لا يجوز أن يقال الزنى مكروه مع أنه مكروه لغةً بنص القرآن، لأن لفظة مكروه لها استخدام اصطلاحي خاص تعارف عليه المسلمون، فالأصل استخدام الكلمة بمعناها الشرعي إلا إذا دل دليل على أن المراد المعنى العرفي أو اللغوي.
وما ورد في القرآن من قصر وتخصيص وتقييد للمحرم من موالاة الكفار، فهو تخصيص وتقييد من جهة معنى المُوالاة العُرفي الأعم من الشرعي، وأما الولاء الشرعي فقد دلت النصوص على أنه خاص بالمؤمنين خصوصية مطلقة.
فتحريم موالاة الكفار بالمعنى العُرفي العام يدخله القصر والتخصيص والتقييد، فيكون تحريم بعض أنواع الموالاة العُرفية خاص بالمحاربين، والمباح من موالاة غير المحارب بالمعنى العُرفي العام هو الصلة الدنيوية المُباحة كما سيأتي في تفسير آية البر والقسط.
وقد جاء تقييد وتخصييص التولي بمعناه العُرفي العام في ثلاث آيات من كتاب الله جل ثناؤه.
فالآية المقيِّدة هي قول الله تعالى ذكرُهُ: ﴿لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
وآيتان مخصِّصتان من سورة الممتحنة، وهما أولاً قول الحق تبارك وتعالى: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.
ثم الآية المؤكدة لها بعدها، وهي قول الله تعالى ذكرُهُ: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
أما قول الله تعالى: ﴿لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، فقوله؛ ﴿مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قيد احترازي، والقيد الاحترازي هو الذي ينتفي الحُكم بانتفائه، ودون ظرفية، وهي في هذا الموضع تعني غير أو فوق، والمعنى ألا تكون ولاية الكافرين مقدمة على ولاية المؤمنين، فولاية المؤمنين يجب أن تكون مقدمة على ولاية غيرهم مُطلقاً.
قال ابن عاشور رحمه الله: (والمعنى؛ مباعدين المؤمنين أي في الولاية، وهو تقييد للنهي بحسب الظاهر، فيكون المنهي عنه اتخاذ الكافرين أولياء دون المؤمنين، أي ولاية المؤمن الكفار التي تنافي ولايته المؤمنين، وذلك عندما يكون في تولي الكافرين إضرار بالمؤمنين، وأصل القيود أن تكون للاحتراز) [٥].
وقال رشيد رضا رحمه الله: (وقوله؛ من دون المؤمنين قيد في الاتخاذ، أي لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء وأنصاراً في شيء تقدم فيه مصلحتهم على مصلحة المؤمنين) [٦].
وقال الأصفهاني رحمه الله: (إن قيل؛ ما وجه جواز مواصلتهم والاستعانة بهم واتخاذهم عبيداً، وذلك ضرب من الموالاة، فالجواب منْ أوجهٍ؛
الأول؛ أن هذه الآيات تقتضي المنع من موالاتهم، إلا ما رُخِّص وفُسِحَ لنا فيه.
والثاني؛ أن الموالاة المطلقة هي أن تواليهم في جميع الأمور، فأما في شيء دون شيء فليس ذلك بموالاة.
الثالث؛ أن يكون ذلك مخصوصاً في الموالاة الدينية.
الرابع؛ أن الموالاة على ضربين؛ موالاة الأرفع للأوضع، وذلك باستخدامه إياه ورعايته والحماية عليه، وموالاة الأوضع للأرفع، وذلك بالخدمة، والذي نُهي عنه المسلم جزماً هو أن يوالي الكافر موالاة الأوضع للأرفع) [٧].
الوجه الثالث خطأ بين لما سبق، وقد أشار الأصفهاني رحمه الله تعالى إلى خطأ هذا الوجه بجزمه بالنهي عن موالاة المؤمن الكافر موالاة الأوضع للأرفع في الوجه الرابع، فدلَّ على أن الموالاة المحرمة ليست مقصورة على الدينية.
أما الأوجه الأخرى وهي الأول والثاني والرابع؛ فتصح فقط من جهة المعنى العرفي للولاء، وسبق أن الولاء الشرعي لا يدخله القصر والتخصيص.
وقد ذكر الأصفهاني رحمه الله تعالى في الوجه الثاني أن الولاء المطلق للكفار محرم، وسبق أن المعنى العرفي للولاء أعم فيشمل الشرعي.
والمطلق يشمل جميع أفراده شمول بدل، وأما العام فيشمل جميع أفراده شمول استغراق، فالعام كثير، والمطلق واحد شائع في جنسه، وبالمثال يتضح المقال، ففي جملة؛ الأطفال مرفوع عنهم القلم؛ الأطفال هنا عام، والأطفال الأذكياء تخصيص، وأما جملة؛ الطفل مرفوع عنه القلم، فالطفل هنا مطلق، والطفل الذكي تقييد.
وأما الآيتان المخصِّصتان للولاء العُرفي العام، فأبدأ بالآية الأولى، وهي قوله تعالى ذكرُهُ: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.
البر هنا يعني الصلة وليس الإحسان فقط، وأصله فعل الخير، ومنه بر الوالدين.
والقسط هنا يشمل العدل والصلة بمنح قسط من المال.
والصلة الواردة عن المفسرين في معنى هذه الآية عامة تشمل كل صلة مُباحة لا أثر لها في الاستقامة على الدين ولا على نصرته كالحِلف المشروع الذي يتضمن نصرة على ظالم، ففي جواز صلة غير المُحاربين استثناء من الموالاة بمعناها العرفي العام.
يدل على ذلك سباق الآية ولحاقها.
أمَّا لحاقها؛ ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ﴾ ﴿أَن تَوَلَّوْهُمْ﴾، فقد دل على أن الاستثناء في هذه الآية؛ ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ﴾ ﴿أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ متعلق بالتولي العُرفي، وذلك لأنَّ الآية اللاحقة سمت الصلة تولياً من ناحية العُرف.
وفي الآيتين بيانٌ بلاغي بديع، فقد سمَّى الله تعالى المُباح من الصلة براً وقسطاً، وسمى المُحرم منها تولياً، وفي هذا إشارةٌ إلى معنى التولي الشرعي.
وأما سباق الآية فلأنَّها متعلقة بالنهي الوارد في أول السورة؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾، فهذا بيانٌ بأن التولي المحرم لا يشمل صلة غير المُحارب، وهذه إشارة إلى أن الصلة ولاء عُرفي.
والبر يشمل كل صلة مباحة، ولو كان البر هو الإحسان فقط لما لزم التوضيح، وذلك لأنَّ مجرد الإحسان لا يُسمَّى ولاءاً في عرف العرب، وكذا العدل.
وقد ذكر أن الآيتين في الصلة عدد من المفسرين، من ذلك قول البغوي رحمه الله تعالى: (وروي عن ابن عيينة قال: فأنزل الله فيها (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ)، ثم ذكر الذين نهاهم عن صلتهم فقال: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ)) [٨].
وممن ذكر الصلة في معنى هذه الآية؛ ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ﴾ ﴿أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره حيث قال: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال؛ عني بذلك؛ لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم) [٩].
ومما يؤكد ذلك أن الإحسان مباح حتى مع المحارب، والعدل واجب مع الجميع، يدل على ذلك عموم قول الله تعالى ذكره: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾، جاء في تفسير القرطبي؛ (قال مقاتل: نزلت في أبي سفيان بن حرب، كان مؤذياً للنبي صلى الله عليه وسلم، فصار له ولياً بعد أن كان عدواً بالمصاهرة التي وقعت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم فصار ولياً في الإسلام حميماً بالقرابة) [١٠].
يؤكِّد ما سبق ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته) [١١].
قال القرطبي رحمه الله تعالى: ((وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) أي تعطوهم قسطاً من أموالكم على وجه الصلة، وليس يريد به من العدل، فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل، قاله ابن العربي) [١٢].
ولعل الصحيح أن الآية تشمل العدل وإعطاء قسط من المال إذ لا تعارض بينهما، وما ورد عن المُفسرين من تأويلات صحيحة غير متعارضة فكلها مقبولة كما ذكر ابن تيمية رحمه الله تعالى في مقدمة أصول التفسير، ويُرجِّح أن الآية تشمل العدل؛ قوله في ختام الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ أي العادلين في صلتهم مع غيرهم.
قال الرازي رحمه الله تعالى: (وقوله تعالى: (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) قال ابن عباس يريد بالصلة وغيرها، (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) يريد أهل البر والتواصل) [١٣].
فهذه الآية؛ ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ﴾ ﴿أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ دليل على أن علة النهي عن بعض أنواع الموالاة العُرفية مركبة من الكفر والمحاربة، لأنها قصرت تحريم الموالاة العُرفية بإخراج صلة غير المحارب، وقد نص على هذا المعنى ابن عاشور رحمه الله تعالى، وذلك على كلا تقديرين ذكرهما بخصوص معنى العداوة المذكورة في الآية.
قال ابن عاشور رحمه الله تعالى: (فإن نظرنا إلى وصف العدو من قوله لا تتخذوا عدوي وعدوكم وحملناه على حالة معاداة من خالفهم في الدين، ونظرنا مع ذلك إلى وصف يخرجون الرسول وإياكم، كان مضمون قوله لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين إلى آخره، بياناً لمعنى العداوة المجعولة علة للنهي عن الموالاة، وكان المعنى أن مناط النهي هو مجموع الصفات المذكورة لكل صفة على حيالها.
وإن نظرنا إلى أن وصف العدو هو عدو الدين، أي مخالفه في نفسه مع ضميمة وصف وقد كفروا بما جاءكم من الحق، كان مضمون لا ينهاكم الله إلى آخره تخصيصاً للنهي بخصوص أعداء الدين الذين لم يقاتلوا المسلمين لأجل الدين ولم يخرجوا المسلمين من ديارهم.
وأياً ما كان فهذه الجملة قد أخرجت من حكم النهي القوم الذين لم يقاتلوا في الدين ولم يخرجوا المسلمين من ديارهم) [١٤].
والمقصود أن الآية بيانٌ لمعنى العداوة على الاحتمال الأول؛ وهو حمل الآية على المعاداة، والمعاداة مفاعلة بالفعل الظاهر، وأنها استثناءٌ على المعنى الثاني وهو وصفهم بالعداوة بمجرد مخالفتهم للدين، فتشمل العداوة الخفية والظاهرة.
ونص ابن عاشور رحمه الله تعالى باعتبار الاحتمال الأول على أن تحريم أنواع الموالاة معلول بوصفين (علتين) كل صفة على حيالها من النهي والتحريم لذلك النوع من الموالاة، والمعنى أن لتحريم كل نوع من أنواع الموالاة علة أحدها ثابتة وهي العداوة الخفية والأخرى متغيرة يدور الحكم معها وجوداً وعدماً، ونص باعتبار الاحتمال الثاني على أن الآية تخصيص لبعض أنواع الموالاة باستثناء من لم تظهر عداوته، ثم أكد ذلك بقوله بأن الآية على كلا التقديرين أخرجت غير المحارب من حُكم النهي عن الموالاة، والمقصود بالموالاة هنا الموالاة العُرفية.
ولعل الصحيح أن العداوة في قوله تعالى ذكرُهُ: ﴿عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ﴾ تشمل العداوة الظاهرة بالقتال والإخراج من الديار والمعاونة في ذلك والعداوة الخفية القلبية بمجرد مخالفة الدين وجحد الحق أو الإعراض عنه، وذلك لأنها وصف بالعداوة ولقوله: ﴿وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ﴾، وعليه فإن آية؛ ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ﴾ ﴿أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ قصرٌ للنهي على أحد نوعي العداوة، وتقدم أن القصر داخل على أنواع التولي من جهة المعنى العُرفي العام.
وأما الآية الثانية المخصصة للموالاة العُرفية المُحرمة بقيد عدم المُحاربة فهي مؤكدة لسابقتها؛ ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ﴾ ﴿أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾، وهي: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
هذه الآية تدل على تسمية الصلة المُباحة تولياً في اللغة أو العرف سواءٌ أفادت (إنما) الحصر والتوكيد أو أفادت التوكيد فقط، لأن التولي هنا مقابل الصلة على أي حال.
ولكن وكما سبق فإن في الآية أيضاً إشارةٌ إلى أن الأفضل أن يُسمى الولاء العرفي المباح لغير المحارب براً  وقسطاً أو صلةً، وتُسمى صلة المحارب المحرمة تولياً.
والصحيح أن (إنما) تفيد التوكيد والحصر، ولكنه قصر إضافي لما سبقه، فالمعنى أن المستثنى من تحريم الموالاة العُرفية هو البر والقسط فقط ولغير المحارب، وسبق أن البر هو الصلة، والصلة تشمل جميع أنواع التولي الدنيوي عدا ما ورد تحريمه بإطلاق لما فيه من تأثير على الاستقامة على الدين أو نُصرته.
ومناسبة الآية لسباقها هي؛ أن الله جل ثناؤُهُ أباح الصلة في الآية التي قبلها في حق غير المحارب، ففي هذه الآية تأكيد لما قبلها، وتقدم أن الصلة الواردة عن المفسرين في معنى الآية التي قبلها مطلقة تشمل كل صلة دنيوية مباحة كالحِلف والشراكة والنصرة على مظلوم وما قد يترتب على ذلك من محبة طبيعية منضبطة بضوابط الشرع لبعض الكفار لا لجنسهم.
قال مقاتل رحمه الله تعالى: (ثم ذكر من الذين ينهاهم عن صلتهم فقال: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ) (أَن تَوَلَّوْهُمْ) وفيه لطيفة؛ وهي أنه يؤكد قوله تعالى: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ)) [١٥].
ينقسم الحصر عموماً عند أهل البلاغة إلى؛ حقيقي مطلق وإضافي نسبي، وحصر القلب هو من أقسام الحصر الإضافي، ومثلوا له بأن تقول؛ إنما الكريم زيد، إذا خاطبت من يعتقد أن الكريم هو عمرو، فهو إضافي إلى اعتقاده، ولا يقتضي أنه لا يوجد كريم غير زيد بإطلاق، وسمي حصر قلب لأن المتكلم يقلب المعنى ضد توهُّم المُخاطب.
قال ابن عاشور رحمه الله تعالى: (والقصر المستفاد من جملة إنما ينهاكم الله إلى آخرها قصر قلب لرد اعتقاد من ظن أو شك في جواز صلة المشركين على الإطلاق) [١٦].
وفي قول ابن عاشور رحمه الله تعالى أن الحصر في الآية حصر قلب إشارة إلى أن التولي الشرعي لا يدخله القصر كما سبق بيانه، فلعله أراد بقوله: (على الإطلاق)؛ إطلاق الصلة بحيث تشمل المؤاخاة الخاصة ونحوها، فكأنه أراد أن يقول بأن الحصر مخصوص بالصلة المباحة الواردة في الآية التي قبلها ولا يشمل الإخاء الخاص والمودة ونحو ذلك.
فالصحيح أنَّ الآية تدل على الحصر، ولكنه حصر مُضاف إلى الصلة المُباحة في الآية السابقة، وذلك لأداة الحصر (إنما).
والصحيح من أقوال الأصوليين أن دلالة إنما على الحصر دلالة منطوق لا مفهوم، وإذا سلمنا بأن دلالة إنما على الحصر ضعيفة، فما لم يكن صريحاً بذاته دلت القرائن كالسياق والسباق واللحاق ونحو ذلك على صراحته.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: (وقال ابن عطية: (إنما) لفظ لا يفارقه المبالغة والتأكيد حيث وقع، ويصلح مع ذلك للحصر إن دخل في قصة ساعدت عليه، فجعل وروده للحصر مجازاً يحتاج إلى قرينة، وكلام غيره على العكس من ذلك وأن أصل ورودها للحصر، لكن قد يكون في شيء مخصوص، كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا اللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ، فإنه سيق باعتبار منكري الوحدانية) [١٧].
وقال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: (السِّيَاق مرشد إِلَى تبين المجملات وترجيح المحتملات وَتَقْرِير الواضحات) [١٨].
ولا يرد على هذا القصر قول بعض الأصوليين بأن من شروط تقييد المطلق أن يكون في باب الأوامر والإثبات لا النواهي والنفي، فالقاعدة في نهيين أحدهما مطلق والآخر مقيد، وقد مثلوا لها ب؛ (إذا قال لا تعتق مكاتباً، لا تعتق مكاتباً كافراً، لم يعتق مكاتباً كافراً ولا مسلماً).
وأما محل الشاهد في آيات الممتحنة؛ فليس النهي المطلق والنهي المقيد، وإنما في بيان أن النهي لا يشمل صلة غير المحاربين، وفيه دفع توهم أن التحريم يشمل جميع أنواع الموالاة العُرفية، ثم ورد القصر بأداة الحصر؛ (إنما)، ولكنه قصر قلب إضافي لتأكيد أنَّ صلة غير المحارب ليست محرمة وإن سُميت تولياً عُرفاً أو لغةً.
ودلت الآية؛ ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ﴾ ﴿أَن تَوَلَّوْهُمْ﴾ وسابقتها على أن الأصل في صلة غير المحارب الحل إلا لنص، وتقدم أن الصداقة الخاصة محرمة بإطلاق سداً للذريعة، لأن الجليس السوء يؤثر ولو بالقليل، وكذا المودة.
والولاء العُرفي درجات متفاوتة، فولاء المسلم لأخيه المسلم أخص مما قد يكون بينه وبين بعض الكفار من صلة والتي هي من الولاء بمعناه العُرفي العام، كما أن ولاء المسلم لإخوانه المسلمين درجات متفاوتة؛ ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾.
قال الرازي رحمه الله تعالى: (وقال أهل التأويل: هذه الآية تدل على جواز البر بين المشركين والمسلمين، وإن كانت الموالاة منقطعة) [١٩].
والمعنى هو أن الموالاة الشرعية منقطعة حتى مع غير المحارب، لا أن الموالاة بمعناها العرفي أو اللُّغوي العام لا يدخلها تخصيص، والآية الثانية المؤكدة لآية البر والقسط واضحةٌ في تسمية الصلة المباحة تولياً من جهة المعنى اللُّغوي والعرفي العام، ولكن فيها أيضاً عدم إطلاق التولي شرعاً على الصلة المُباحة.
ودلت الآية؛ ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ﴾ ﴿أَن تَوَلَّوْهُمْ﴾ على خطأ التفريق بين التولي والموالاة، لأنها سمت صلة المُحارِب تولياً، ولأن كلا التولي والموالاة بمعنى اتخذه ولياً كما هو في أكثر المعاجم العربية.
وأما قول الله جل ثناؤُهُ: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ فهو مثل حديث؛ (من تشبه بقوم فهو منهم)، فمن تشبه بهم في الكفر كفر، ومن تشبه بهم فيما سوى ذلك فبحسبه، فكذلك من تولاهم لأجل دينهم أو رضاً بدينهم كفر، ومن تولاهم لأجل الدنيا فبحسبه.
وقول الله تعالى ذكرُهُ: ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَـٰكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ هو في التولي الشرعي، والمعنى نفي أصل الإيمان عمن والى الكفار في الدين أو رضاً بدينهم، ويدخل في معنى الآية أيضاً نفي كمال الإيمان عمن والى كفاراً بما فيه ضرر على استقامته على الدين أو نصرته.
وقول الله تعالى ذكرُهُ: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ هو بلا شك فيمن يعادي المؤمنين عداوةً ظاهرة بالقتال والإخراج من الديار ومظاهرة أعداء الله ودينه وأوليائه.
فالآية نصت على إبداء العداوة والبغضاء للكفار، والإبداء هو الإعلان والإظهار، ولا شك أن المؤلفة قلوبهم وهم من يُرجى إسلامهم لا تُعلن عداوتهم ولا بغضهم بل يُتحبب إليهم بالعطاء ونحو ذلك.
وأما قوله: ﴿حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ فإشارة لطيفة إلى سبب البغض والعداوة وهو جحد الحق أو الإعراض عنه وأن ذلك لا يزول إلا بزوال سببه.
والأصل في الكفار العداوة؛ ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا﴾، فالعداوة في؛ ﴿عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ﴾ تشمل الظاهرة بالمحاربة؛ ﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ﴾، وتشمل الخفية القلبية بمجرد الكفر؛ ﴿وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ﴾.
وأشد الكفار عداوةً الجاحد للحق ثم المُعرض عنه لأن سبب عداوتهما الحسد، ثم الجاهل به من غير تفريط، لأن سبب عداوته جهله وتلبيس الجاحد والمُعرض عليه؛ ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَ‌ٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾.
واليهود جاحدون للحق يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، والنصارى ضلال معرضون عن الحق، وقد يوجد في الفريقين من هو جاهل من غير تفريط.
إذا كان غير المُسلم جاحداً أو معرضاً أو جاهلاً فهو كافر لغةً وعرفاً وشرعاً، لأن الكفر لغةً من التغطية والستر، والكافر في العُرف هو من لا يؤمن بأمرٍ ما، وأما في الاصطلاح الشرعي، فالجاحد والمعرض كافر في أحكام الدارين، وأما الجاهل من غير تفريط فهو كافر في أحكام الدنيا وحكمه يوم القيامة إلى الله سبحانه وتعالى، والجاهل غير المفرط يُرجى إسلامه أكثر من غيره.
وهذا يقودنا إلى مناسبة الآية؛ ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ﴾ ﴿أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ لسابقتها، فالآية التي قبلها فيمن يُرجى إسلامه فتتحول عداوته إلى مودة بإسلامه، وهي قول الله جل ثناؤُهُ: ﴿عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
وثمة من مات على الكفر ولم يكن معادياً العداوة الظاهرة للمؤمنين كأبي طالب والمطعم بن عدي، ولكن الكفر يقتضي عداوة دين الله تعالى ذكره، وعداوة دين الله تعالى تقتضي عداوة أهل الدين، ولكن قد يُحب كافرٌ مؤمناً لقرابة ونحو ذلك، وقد يُحب المدح والثناء بالنجدة والشجاعة، فيقوده ذلك إلى الدفاع عن بعض المؤمنين أو عن حقهم في الدعوة وممارسة الشعائر الدينية، وقصة أبي طالب تدل على تقديمه حب عشيرته وقومه على حب الله تعالى وحب نبيه وما جاء به من الحق.
ويَخرُج المعاهد والمستأمَن والمستأمِن من عموم النهي عن صلة المُحارِب؛ لقول الله تعالى ذكرُهُ: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَ‌ٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ﴾، وقوله جل ثناؤُه: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾.
قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية؛ (قال مقاتل: نزلت في أبي سفيان بن حرب، كان مؤذياً للنبي صلى الله عليه وسلم، فصار له ولياً بعد أن كان عدواً بالمصاهرة التي وقعت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم فصار ولياً في الإسلام حميماً بالقرابة) [٢٠].

المصادر

[١] سورة الممتحنة، آية رقم ١.
[٢] مجموع الفتاوى (ج٧/ص٥٢٢-٥٢٣)، المحقق؛ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، الناشر؛ مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، عام النشر؛ ١٤١٦هـ/١٩٩٥م.
[٣] تفسير الطبري (ج٢٢/ص٤٩٤)،  تحقيق؛ الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة الأولى.
[٤] التحرير والتنوير (ج٦/ص٢٣٩) » [المائدة : الآيات ٥٥ إلى ٥٦]، الناشر؛ الدار التونسية للنشر، سنة النشر؛ ١٩٨٤م.
[٥] التحرير والتنوير (ج٣/ص٢١٦) » [آل عمران : ٢٨]، الطبعة السابقة.
[٦] تفسير المنار (ج٣/ص٢٢٩) » [ آل عمران : ٢٨]، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٠م.
[٧] تفسير الراغب الأصفهاني (ج٢/ص٥٠٣-٥٠٥) » [آل عمران : ٢٨]، دار الوطن – الرياض، الطبعة الأولى: ١٤٢٤هـ - ٢٠٠٣م.
[٨] تفسير البغوي (ج٨/ص٩٦) » [الممتحنة : ٩]، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الرابعة، ١٤١٧هـ - ١٩٩٧م
[٩] تفسير الطبري (ج٢٢/ص٥٧٣) » [الممتحنة : ٨]، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي  الناشر: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة الأولى، ١٤٢٢هـ - ٢٠٠١م.
[١٠] تفسير القرطبي (ج١٥/ص٣٦٢) » [فصلت: الآيات ٣٣ إلى ٣٦]، الطبعة السابقة.
[١٢] صحيح مسلم (ج٣/ص١٥٤٨)، المحقق؛ محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر؛ دار إحياء التراث العربي – بيروت.
[١٢] تفسير القرطبي (ج١٨/ص٥٩) » [الممتحنة : ٨].
[١٣] التفسير الكبير للرازي (ج29/ص521) » [الممتحنة : ١٠]، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الثالثة - ١٤٢٠هـ.
[١٤] التحرير والتنوير (ج٢٨/ص١٥٢) » [الممتحنة : ٨]، الطبعة السابقة.
[١٥] التفسير الكبير للرازي (ج٢٩/ص٥٢١) » [الممتحنة : ١٠]، الطبعة السابقة.
[١٦] التحرير والتنوير (ج٢٨/ص١٦٣) » [الممتحنة : ٩]، الطبعة السابقة.
[١٧] فتح الباري (ج١/ص١٣)، » كتاب بدء الوحي » باب بدء الوحي، دار المعرفة - بيروت، ١٣٧٩هـ.
[١٨] الإمام في بيان أدلة الأحكام ص ١٥٩، دار البشائر الإسلامية – بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٠٧هـ - ١٩٨٧م
[١٩] التفسير الكبير للرازي (ج٢٩/ص٥٢١) » [الممتحنة : ١٠]، الطبعة السابقة.
[٢٠] تفسير القرطبي (ج١٥/ص٣٦٢)، دار الكتب المصرية، القاهرة، الطبعة الثانية، ١٣٨٤هـ - ١٩٦٤م.
pdf
حكم من عاون مشركين على المسلمين    المحتويات    ثلاث شبه في الخوارج الجدد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق