مسألة الإجماع بعد خلاف

دلالة النصوص على تحريم الخروج       المحتويات       منهج أهل السنة في الخروج على السلطان
هذه المسألة متعلِّقة بموضوع البحث لقول بعض العلماء بأن مسألة الخروج قد استقرَّ فيها معتقد أهل السنة على قول واحد بعد خلاف قديم، إشارة إلى موقف الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما من يزيد بن معاوية، وكذا موقف غيرهما من الصحابة رضي الله عنهم وبعض السلف في يوم الحرة، وخروج جماعة من التابعين على الحجاج مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الذي خرج على عبد الملك أيضاً بالعراق.
القول بأن الخروج مذهب للسلف قديم استقر القول على خلافه هو قول غير واحد من أهل العلم، وسيأتي النقل عن ابن تيمية رحمه الله تعالى في ذلك، وممن قال بهذا ابن حجر رحمه الله تعالى، وسيأتي نقل كلام للنووي رحمه الله وفيه: (قال القاضي: وقيل: إنَّ هذا الخلاف كان أولاً ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم).
الأصوليين مختلفون في مسألة الإجماع بعد خلاف، فمن أطلق القول بعدم إمكان ذلك احتجوا بأمور منها قولهم؛ الخلاف إجماع على جواز الخلاف في المسألة، وتجويز إجماع بعد خلاف يُفضي إلى بطلان الإجماع الأول، وهذا مستحيل لحجية الإجماع، ومنها قولهم؛ بأنَّ الأقوال لا تبطل بموت قائليها إذ لو صح ذلك لما جاز الاستدلال بأقوال السابقين.
القول الصواب هو أنه يُمكن وقوع إجماع بعد خلاف غير معتبر أو خلاف غير مستقر، ولا يمكن أن يقع إجماع بعد خلاف مستقر أو خلاف معتبر لما سبق، وقد استقر القول على قولٍ واحدٍ في غير ما مسألة بعد خلاف قديم مثل تحريم زواج المتعة وتحريم ربا الفضل وجواز الزواج بالكتابية ووجوب الغسل من التقاء الختانين وتحريم الخروج على السلطان المسلم الحارس لأصل الدين؛ الشهادتين والصلاة.
فإذا كان الخلاف غير متعبر لعدم ورود النص إلى بعضهم، فإنَّ الخلاف الأوَّل ليس إجماعاً على جواز الخلاف في المسألة، فقد جزم بعض السلف بما خالفوا فيه غيرهم، من ذلك قول عائشة رضي الله عنها: (من زعم أنَّ محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية)، وكان عمر رضي الله عنه ينهى عن حج التمتع، قيل إنه نهي أولوية، ثم انعقد الإجماع على عدم الكراهة.
و عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (والله إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، هي ليلة سبع وعشرين).
وكذا يقال في حجة أنَّ الأقوال لا تبطل بموت قائليها؛ أن الأقوال غير المعتبرة هي كذلك حتى في حياتهم، كما لو خالفت أقوال بعض السلف نصاً بسبب عدم ورود النص إليهم، فإن أقوالهم باطلة في حياتهم وبعد مماتهم، ولم تبطل بسبب موتهم.
ولا يمكن كذلك أن يقع إجماع بعد خلاف مستقر، ويُعد الخلاف غير مستقرٍ في مسألة إذا لم ينظر فيها كل المجتهدين بسبب عدم اشتهارها بينهم بعد، فقول بعض المجتهدين فيها ليس بإجماع، لأن الإجماع لابد فيه من اتفاق جميع المجتهدين.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: (للإجماع شروط منها: 1- أن يثبت بطريق صحيح، بأن يكون إما مشهوراً بين العلماء أو ناقله ثقة واسع الاطلاع. 2- أن لا يسبقه خلاف مستقر، فإن سبقه ذلك فلا إجماع، لأن الأقوال لا تبطل بموت قائليها. فالإجماع لا يرفع الخلاف السابق، وإنما يمنع من حدوث خلاف، هذا هو القول الراجح لقوة مأخذه، وقيل: لا يشترط ذلك فيصح أن ينعقد في العصر الثاني على أحد الأقوال السابقة، ويكون حجة على من بعده) [1].
مما استقر فيه الإجماع بعد خلاف؛ تحريم زواج المتعة، قال الحافظ النووي رحمه الله تعالى: (ووقع الإجماع بعد ذلك على تحريمها من جميع العلماء إلا الروافض، وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول بإباحتها، وروي عنه أنه رجع عنه) [2].
وقد ورد عن غير ابن عباس رضي الله عنهما من الصحابة رضي الله عنهم إباحة زواج المتعة، وقيل إنهم أجازوه للضرروة، وروي عن بعض التابعين إباحته، عن جابر رضي الله عنه قال: (كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث)، أخرجه مسلم (1405).
ونهي عمر رضي الله عنه عن المتعة لم يكن اجتهاداً منه وإنما لثبوت نسخ جوازه بالسنة ولكنه لم يبلغ بعض الصحابة رضي الله عنهم.
ومما استقر فيه الإجماع بعد خالف قديم؛ وجوب الغسل من التقاء الختانين، قال النووي رحمه الله تعالى: (وقال داود: لا يجب ما لم يُنْزل، وبه قال عثمان بن عفان وعلي وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهم ثم منهم من رجع عنه إلى موافقة الجمهور، ومنهم من لم يرجع) [3].
ومما استقر فيه الإجماع القول بتحريم ربا الفضل الثابت بالسنة؛ قال القرافي رحمه الله تعالى: (وقال ابن عباس وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين كزيد بن أرقم وغيره لا يحرم ربا الفضل) [4].
ومع أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم أعلى مرتبة من إجماع غيرهم، لفضلهم على من جاء بعدهم، ولأن العلم به أيسر، إلا أن حُجية إجماع غير الصحابة رضي الله عنهم دلت عليه النصوص، ومنها قول الله تعالى ذكره: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}، وقوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}، وحديث؛ (لا تجتمع أمتي على ضلالة) رغم ضعفه إلا أن العلماء ذكروا أن له شواهد، من ذلك: (إن اللهَ قد أجارَ أمّتي من أن تجتمعَ على ضلالةٍ) والذي حسنه الألباني رحمه الله تعالى في تخريج كتاب السنة 83.
ولم ينفِ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى العلم بالإجماع بعد الصحابة رضي الله عنهم مطلقاً كما قد يتوهم البعض، وإنما نفى العلم به في الغالب، والمقصود بالعلم هنا اليقين والقطع، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "الإجماع وهو متفق عليه بين عامة المسلمين من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث والكلام وغيرهم في الجملة وأنكره بعض أهل البدع من المعتزلة والشيعة لكن المعلوم منه هو ما كان عليه الصحابة وأما ما بعد ذلك فتعذر العلم به غالباً"، المصدر؛ مجموع فتاوى ابن تيمية (ج11/ص341)، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1416هـ/1995م.
وكما سبق فإن النص لو ثبت في المسألة وكان صريح الدلالة فإنه حجة بذاته، بل النصوص في مرتبة أعلى من الإجماع، والإجماع الظني يقوي دلالة النصوص التي لم يثبت إجماع على ترك العمل بها.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: (الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة إلا من لا بصر له، ولا معرفة عنده، ولا حجة في قوله) [5].
ومع أن الإجماع هو المصدر الثالث إلا أن الكلام فيه بحاجة إلى ضبط ومزيد شرح، وقد كتبتُ فيه بحثاً أرجو أن يكون موفقاً في ضبط فهم الإجماع ومراتبه ومرتبته في مصادر التلقي وإبراز أهم مسائله، وهو في؛ مدونتي » قواعد وأصول »  الإجماع.

المرجع

[1] الأصول من علم الأصول (ص 66)، الناشر؛ دار ابن الجوزي، الطبعة الرابعة، 1430هـ - 2009م.
[2] شرح النووي على مسلم (ج9/ص181)، دار إحياء التراث العربي-بيروت، الطبعة الثانية، 1392هـ/1972م.
[3] المجموع شرح المهذب (ج2/ص136)، دار الفكر.
[4] أنوار البروق في أنواع الفروق (ج3/ص259)، عالم الكتاب.
[5] جامع بيان العلم وفضله (ج2/ص922)، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، السعودية، الطبعة الأولى.
pdf
دلالة النصوص على تحريم الخروج       المحتويات       منهج أهل السنة في الخروج على السلطان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق