أهمية الإعلام في الحرب والسلام

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه الغر الميامين ومن سلك سبيلهم إلى يوم الدين.
الأصل عدم إشغال العوام بما هو فرض كفاية من أمور السياسة والاقتصاد والحرب والسلم، وفروض الكفايات إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين، وهذه الأُمور يجب أن يقوم بها أهل الاختصاص مثل أهل الحل والعقد ونحوهم ممن عرف بالعلم والعمل والعقل والحكمة، ولكن العصر الحديث ظهرت فيه وسائل الإعلام بمختلف أشكالها، وهي تذيع الأخبار وتحللها على فكرها ومبادئها وعقيدتها، وبعضها قنوات رافضية وأخرى علمانية وأخرى لجماعات منحرفة في منهج الدعوة والإصلاح، وهذه القنوات لها تأثير سيء على عوام المسلمين بمن فيهم من يسير على المنهج الصحيح في العقيدة ومنهج الدعوة والإصلاح.
فمع هذا الواقع الحديث، لابد من الاهتمام بالإعلام الذي ينقل الأخبار ويحللها على الوجه الصحيح، فيجب إنشاء القنوات الإعلامية، وقبل ذلك تدريب الإعلاميين من أصحاب المنهج الصحيح من صحفيين وإعلاميين ومحللين سياسيين والقائمين على أمر الإعلام عموماً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإنَّ الأمر والنَّهي وإن كان متضمِّناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فيُنظر في المعارض له) [1]، فأهمية الإعلام لم تعُد خافية، وقد قيل عن الإعلام إنه السلطة الرابعة، وكل دعوة لا تهتم بالإعلام فقد حكمت على نفسها بالإعدام.
وليس ثمة ما يدلُّ على عدم جواز إشاعة وإذاعة أمور الحرب والسلم بإطلاق، وإنما ورد النهي عن التسرع في إشاعة الآراء والأخبار دون تثبت ودون الرجوع إلى أهل العلم والخبرة والمعرفة، وهذا هو معنى الآية: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)}، قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: (إنكار إلى من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تفسيره: (هذا تأديب من الله لعباده على فعلهم هذا غير اللائق. وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة، ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم، أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها، فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً للمؤمنين وسروراً لهم وتحرزاً من أعدائهم فعلوا ذلك).
الشاهد من كلام الشيخ السعدي رحمه الله على أهمية الإعلام هو قوله: (فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً للمؤمنين وسروراً لهم وتحرزاً من أعدائهم فعلوا ذلك)، ولم يذكر الشيخ صفة العلم فقط بل قال أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، فلابد من اجتماع هذه الخصال فيمن يُفتي في مثل هذه المسائل، وذلك لأن بعض الخصال طبيعية في الإنسان وقد توجد بعض الصفات غير الحميدة في بعض من يهتم بالعلوم الشرعية أكثر من غيره.
وصفات الرزانة والحلم والأناة بعضها جبلي وقد يتصف بها بعض من لم يتخصص في العلوم الشرعية بينما يخلو منها بعض المشائخ. وقضايا الحرب والسلم هي من قضايا الاجتهاد التي قد يختلف فيها الناس لاختلاف طبائعهم ومعارفهم وخبراتهم. ولذا نجد أن الفاروق رضي الله عنه والذي عرفه أهل الإسلام بالشدة في الحق وعلى أهل الباطل قال في صلح الحديبية: (فَلِمَ نُعْطِ الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا؟) بخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث قبل حكم النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية.
فالصحفي والإعلامي بحكم عمله وتفرغه قد تتجمع عنده من المعلومات الواقعية التي تحتاج إلى شرح للعوام ما قد لا يتمكن منه العالم، وعنده من الوقت ما يكفي للحديث أو الكتابة عن دقائق المسألة وتفاصيلها من الناحية الواقعية ما قد لا يتيسر للعالم، ومن ذلك متابعة شبهات إعلام المنحرفين، ومن ذلك معرفة نبض الشارع مما يؤهله أكثر لمخاطبة الجماهير وإقناعهم بالأسلوب السليم (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه مداركهم إلا كان لبعضهم فتنة).
فليس من المصلحة احتقار دور الصحفي والإعلامي، وإنما يجب نصحهم بعدم التسرُّع والاعتداد بالرأي وبأهميَّة الرجوع إلى أهل العلم بالدين والشريعة، فكثيراً ما يظنُّ من عنده تفصيلات واقعيَّة أنَّ العالم أخطأ لعدم معرفته بالواقع بينما يكون العكس هو الصحيح، وهو أن الإعلامي أخطأ لعدم معرفته بالواجب الشرعي، إذ لا بد من معرفة واقع المسألة وواجب الشرع فيها.
من أسباب إهمال الإعلام  التوسع في التقليد وإطلاق الألفاظ التي فيها ازدراء العوام بإطلاق، ومن ذلك إطلاق وتعميم القول بأن العوام هوام، ولاشك أن العوام يصدق عليهم هذا الوصف في كثيرٍ من الأحيان، ولكن لا يصح هذا الإطلاق لقول الحق تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)}.
وإذا كان الصحابة رضي الله عنهم ترددوا في طاعة سيد الأنبياء والمرسلين في صلح الحديبية لظنهم أن أمره كان للاستحباب وليس للوجوب، فكيف نظن أن العوام سيقلدون العلماء في مسائل الحرب والسلم؟ جاء في صحيح البخاري في حديث طويل: (قَالَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ « قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا ». قَالَ فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِىَ مِنَ النَّاسِ. فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا نَبِىَّ اللهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ. فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ، قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا).
والعلماء هم أولى الناس بمعرفة أحكام النوازل السياسية وغيرها، وكثيراً ما يظن من ليس له تخصص شرعي، أن العلماء أخطؤوا لعدم معرفتهم بواقع المسألة السياسية، وهذا ممكن، ولكن غالباً ما يكون العكس هو الصحيح، وهو أن من ليس من أهل التخصصات الشرعية يخطيء لعدم معرفته بالواجب الشرعي في الواقع المعين، ثم إنَّ أصول الواقع معروفة؛ فالحكومات غالباً هي الحُكومات، والصهيوينية هي الصهيونية وسيطرتها كما هي منذ عشرات السنين.
ومع أنَّ الواجب الرجوع في مسائل الحرب والسلم إلى أهل العلم والاختصاص، فإنَّ هذا لا يعني أنَّها لا تخصُّ العوام من المسلمين، بل هي تعنيهم في حياتهم وأمنهم وفي جهادهم وقتالهم، ولهذا يهتم الناس بالأخبار السياسية بما في ذلك أخبار السلم والحرب والعلاقات الحكومية الدبلوماسية وقطعها ونحو ذلك، فالمسلم الذي يريد أن يجاهد في سبيل الله يريد أن يكون على بينة من أمره والاطمئنان على صحة ما هو قادم عليه من تضحية بالنفس أو بالمال، ولهذا يريد أن يعرف الحق بحجته ودليله وليس فقط بتقليد بعض العلماء.
 لقد نزل القرآن الكريم منجماً، وكثير من الآيات لها أسباب نزول، ومن الحكمة في ذلك تثبيت المفاهيم، فلم لا نعرض مبادئنا عبر الإعلام الذي يهتم بالأخبار والأحداث وتحليلها؟ لأجل أن يكون التحليل قائماً على أُسس سليمة، لا أظن أنَّ غيابنا من الساحة الإعلامية بسبب شح الإمكانات.
أليس بإمكان العلماء تدريب عدد من الصحفيين والإعلاميين بعقد دورة علمية لهم في أحكام الحرب والسلم في الإسلام وأحكام الولاء والبراء والمذاهب الإسلامية القديمة المعاصرة والحديثة خاصة التي لها حضور سياسي في شكل أحزاب أو دول؟ أليست لنا إمكانات مادية تؤهلنا لتفريغ عدد من الصحفيين والكتاب والإعلاميين للكتابة في الصحف والإنترنت وطرح المبادئ من خلال الأحداث؟
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل، والله أسأل أن يرد كيد اليهود ومن عاونهم في نحورهم وأن ينصر المجاهدين ويهدي قادتهم لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
هلسنكي، فنلندة
الأحد 14 محرم 1430هـ، 11 يناير 2009م

المراجع

[1] مجموع الفتاوى (ج28/ص129).
pdf

رجوع إلى قسم منهج وإصلاح

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق