بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق كل شئ فقدره تقديراً، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (والليل والنهار وسائر أحوال الزمان تابعة للحركة؛ فإنَّ الزمان مقدار الحركة؛ والحركة قائمة بالجسم المتحرِّك) [2].
فبما وفي الأخير هذه المفاهيم نسبيّة، فيبقى البشر عاجزون عن فهم كثير من الحقائق، ولذا ذكر بعض علماء الفيزياء أن الزمن لغز مجهول. قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾.
لينشوبنج، السويد
السبت 7 ربيع الآخر 1432هـ الموافق 12 مارس 2011م
رجوع إلى قسم ثقافة ومعارف
لعلَّ الكثيرين منّا سمع بالساعة الذرية والتوقيت الذري العالمي والتوقيت العالمي.
وقد يظن غير المتخصِّصين أنّ التوقيت العالمي هو نفس ما يعرف بتوقيت غرينتش بسبب أنه أصبح يقاس به توقيت غرينتش وفي كثير من الأحيان يستخدم وكأنه نفس المفهوم.
ولأنّ بعض الناس قد يسئ فهم معنى الساعة الذرية والتوقيت الذري الدولي والتوقيت العالمي وبالتالي ما يتعلق بها من نحو نظرية النسبية الخاصة لأينشتاين؛ فقد كتبت هذا المقال المختصر الذي أرجو أن يسهم في تجلية هذه المفاهيم للمهتمين.
طرأت فكرة الموضوع أثناء حضوري محاضرة بجامعة لينكشوبنج الأسبوع الماضي في إحدى المواد المختصة بأنظمة الكمبيوتر عندما تطرق أستاذ المادة لهذه المفاهيم دون تفصيل لمعانيها.
أستاذ المادة هو رئيس شعبة الماجستير في برنامج أنظمة الكمبيوتر، ويبدو أنه من البارزين في هذا المجال حيث ذكر في إحدى الحصص الأسبوعيّة أنه يعرف الباحثين الكبار عالمياً في هذا المجال لمحدوديّة عددهم ولأنهم يلتقون في مناسبات عديدة، وقد ذكر هذا الكلام بتواضع، وهي خصلة تتميز بها الأمّة السويديّة من بين الأمم الأوروبية.
كنت قد ذكرت في موضوع سابق بعنوان "أيهما أصدق، الحس العام أم المنطق السليم؟" أنّ تغير الزمن ونقصانه في السرعات الفائقة لا يعود إلى خلل في سرعة الساعة المتحركة بسرعة عالية وإنّما بسبب اختلاف الزمن. وذلك عند حديثي عن نظرية النسبية الخاصة لأربت أينشتاين.
وبسبب أنَّ الكلام السابق قد يحدث سوء فهم للموضوع فقد كتبت هذا الموضوع.
يفترق الموافقون والمخالفون لنظرية أينشتاين ما بين غال وجاف، وهي نظرية مقبولة في المجتمع العلمي إلى الآن، وأكثر المعترضين على النظرية رياضيين، ومشكلتهم هي أنّهم يستخدمون الرياضيات والحساب بمعزل عن الحقائق الطبيعيّة الفيزيائيّة.
والواقع أنّ الرياضيات ما هي إلا وسيلة لحساب الكميات لمعرفة المتغيرات وأسبابها، ولا شك أنّ الرياضيّات تساعد في استخراج القوانين المتعلقة بالفرضيّة المطلوب إثباتها، فهي في الواقع آلة مساعدة.
وأكثر الشطحات العلمية تأتي من الرياضيين.
وأما المهندسون فهم في الغالب تطبيقيون يجهلون كثيراً من الأمور النظرية الفلسفية.
وأفضل من يفهم هذه المسائل بعمق هم الفيزيائيّون الملمُّون بالجوانب الحسابية العددية.
وقد ذكرت في مقال ابن تيمية وعلم الفلك أنّ النموذج الرياضي قد لا يمثّل الحقيقة، وأنه في كثير من الحالات تبسيط للحقيقة لأجل استخدام الحساب.
ولهذا نجد أنَّ كثيراً من العمليَّات الحسابية تستخدم في مجالات علمية مختلفة، وبعض المهندسين الذي يستخدمون التفاضل والتكامل في الإشارات الكهربائية والكهمغيّة قد يجهلون أنَ الاقتصاديون وغيرهم يستخدمونها في حساب الكميات ومن ثم التحليل والخروج بنتائج.
ولما سبق ذكره، وبسبب الضبابيّة في الفهم تجد بعض من يتحدث عن نظرية أينشتاين يأتي بالعجائب، سواء كان من المؤيدين أو المعارضين.
ومن الأدلة التي ذكرها العلماء على صحة نظرية أينشتاين استخدام الساعة الذرية، وربما ظن بعضٌ أنها ساعة خاصة تثبت نظرية أينشتاين وتجعلها في مصاف الحقائق العلمية، والواقع أنّ استخدام الساعة الذرية في السرعات العالية هو لمجرد تأكيد صحة نظرية أينشتاين لا إثباتها، فقد حدث التغيّر في الزمن بنفس المعدَّل الذي حدَّدته معادلات أينشتاين.
الساعة الذريّة هي مجرّد معيار كسائر المعايير القياسيّة مثل المتر للطول والكيلوجرام للوزن واللتر للكيل والبت والبايت للذاكرة والهيرتز للتردد والسرعة ونحو ذلك.
ولأنّ الساعة الذرية معيار دقيق جداً الخطأ فيه صغير جداً فقد استخدمت لتأكيد نظرية أينشتاين.
فعلى سبيل المثال فإن ساعة فوكس 1 الذرية بسويسرا يُقدَّر خطؤها بمقدار ثانية واحدة كل ثلاثين مليون سنة.
والسبب في الدقة العاليّة للساعات الذرية هو أنّها تعتمد أساساً على إشارات موجات الميكرو، وهي موجات كهمغيّة، والميكرو هو جزء من المليون، فإذا قسمنا الثانية الواحدة إلى مليون جزء قللنا الخطأ إلى ثانية واحدة عبر ملايين السنين.
وحقيقة نظرية أينشتاين يمكن تلخيصها بتثبيت سرعة الضوء وتغيير الزمن والطول حسب تغير السرعة، فالزمن ينقص كلما زادت السرعة.
ولأنّ الحساب المجرَد يتمّ بتحديد مرجع معيّن أو نقطة مرجعية أو معيار معين، ظن بعض الرياضيّين أنّ النظريّة مبنية على مجرد الحساب فقط دون اعتبار لمفاهيم فيزيائيّة طبيعيّة.
وذلك لأننا نعرف في المتجهات مثلاً أننا إذا اعتبرنا أحد الاتجاهين موجباً فكل ما يلزم هو اعتبار الاتجاه المضاد سالباً، ولكن يمكننا أن نختار ما نشاء، ولكنّ الواقع خلاف ذلك.
ومن أمثلة اعتبار المفاهيم الفيزيائية؛ مسألة مركزيّة الشمس أو الأرض في مجموعتنا الشمسية، وقد ذكرت بعض الأسباب الطبيعيّة لاختيار مركزيّة الشمس في مقال ابن تيمية وعلم الفلك.
فمن أسباب قبول نظريّة أينشتاين في المجتمع العلمي الاعتقاد بأنها تفسر الطاقة الكامنة في الذرة.
ذكر بعض من اعترض على نظريّة أينشتاين أنَّ الساعة التي تعطي توقيتاً مختلفاً قد حدث بها خلل للسرعة الزائدة، ورد عليهم بعض المؤيّدين بأنَ هذا ليس خللاً وإنما هو تغير حقيقي للزمن مستدلين باستخدام الساعة الذرية علمياً لتأكيد نظرية أينشتاين.
والزمن يعرف من الحدث، وذلك لأنّ الزمن تابع للحركة، وبما أن الزمن يعرف بالحركة، والسرعة هي مقدار الحركة، فلا بأس أن تكون السرعة مرجعاً للزمن لا العكس.
قال الله عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي
جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ
لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ الله ذَٰلِكَ
إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾.قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (والليل والنهار وسائر أحوال الزمان تابعة للحركة؛ فإنَّ الزمان مقدار الحركة؛ والحركة قائمة بالجسم المتحرِّك) [2].
فبما وفي الأخير هذه المفاهيم نسبيّة، فيبقى البشر عاجزون عن فهم كثير من الحقائق، ولذا ذكر بعض علماء الفيزياء أن الزمن لغز مجهول. قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾.
وقبل أن أشرع في تعريف الساعة الذرية والمفاهيم المتعلقة بها (التوقيت الذري العالمي، والتوقيت العالمي) فأحب أن أشير إلى مسألة متعلِّقة بهذه المفاهيم وهي مسألة توحيد الزمن عالمياً.
فكما أنَّ ساعتي قد تكون متقدِّمة أو متأخرة قليلاً عن ساعتك، فكذلك الساعات الذرية المختلفة، والتي منها يستخرج التوقيت الذري العالمي ومن ثم التوقيت العالمي.
وتكمن المشكلة والتي تعرض لها أستاذنا السابق ذكره عندما تحدث عن النظم الموزعة في كيفية توحيد الساعات.
والنظام الموزع هو مجموعة كمبيوترات تؤدي نفس الخدمة في الأنظمة المضمنة (الإمبدد سيستمس).
ففي السيارات الحديثة مثلاً عادةً ما يوجد عدد من الكمبيوترات تؤدي خدمة واحدة، وعادة ما يُحتاج إلى توحيد زمن هذه الكمبيوترات المختلفة حتى لا يحدث خلل، خاصة عند تحديد زمن توقف السيارة من لحظة الضغط على قابض الحركة (البريك أو الفرملة بالسوداني) إلى حين توقُّف السيارة.
هذه الأجهزة يجب أن ترسل إشارات لبعضها تحدد ساعة كل جهاز.
والمشكلة هي أنّ الإشارة تأخذ وقتاً ما بين جهاز إلى آخر.
ورغم أنّ هذا الزمن الذي تصل فيه الإشارة قد يعد بالنانو (واحد من المليار من الثانية) أو المايكرو (واحد من المليون من الثانية)، إلا أنّه من المهم اعتباره في بعض الحالات.
والسبب في اختلاف الزمن من جهاز إلى آخر هو أنّ القطعة الإلكترونيّة المسؤولة عن التوقيت قد تختلف في تردّدها من جهاز إلى آخر، وهي المعروفة بالمذبذب (أوسيليتر).
المهم أنَّ نعرف أنَّ الساعة الذرية هي معيار دقيق لحساب الزمن، وأنّ كلاً من التوقيت الذري العالمي والتوقيت العالمي هما معياران لتوحيد الزمن عالمياً.
وكما توجد طرق حسابية لاعتبار زمن انتقال الإشارة بين الأجهزة المختلفة في الأنظمة المضمنة، فكذلك توجد طرق حسابية لتوحيد الزمن وتقليل نسبة الخطأ في التوقيت الذري العالمي والتوقيت العالمي.
وأسرع إشارة لتوحيد الزمن هي اللاسلكية عبر موجات الراديو، والخطأ لا يمكن تفاديه مطلقاً، ولكن يمكن تقليله إلى درجة تشبه انعدامه.
وعودة إلى تغير الزمن في السرعات العالية، فلابد أولاً من اعتبار أنّ الزمن لا يمكن حسابه إلّا بتغيّر نسبي في الساعات الطبيعية الكونية أو المصنّعة، كما في الساعة العاديّة حيث تحسب الثانية والدقيقة والساعة بتغير موضع الإشارات الثلاثة من إطار مرجعي ثابت نسبياً، والتردُّد في الإشارات الكهمغيّة ما هو إلا تغيُّر نسبي، ولمزيد فهم التردد ووحدة قياسه يمكنك الرجوع إلى مقال ابن تيمية وعلم الفلك.
الساعة الذرية تستخدم إشارات كهمغيّة، وهي إشارات الميكروويف التي تشع من الذرة عند تغير مستوى الطاقة الذريَّة.
وترجع فكرة الساعة الذرية إلى اقتراح من لورد كلفين عام 1879م. وكان أول تطبيق عملي لها باستخدام الرنين المغنطيسي عام 1930م. وأول ساعة ذرية طورت عام 1949م في أمريكا، ولكنها كانت أقل دقة من ساعات الكوارتز المعروفة اليوم. وأول ساعة ذرية دقيقة تم تطويرها عام 1955م.
عندما كانت الساعة الذريّة تعمل في درجة حرارة الغرفة العادية كانت أقل دقة، وذلك لأن تردد الإشارات الكهمغيّة أدق في درجات الحرارة الدنيا، وكلما كانت درجات الحرارة أكثر دقة كانت الساعة الذرية دقيقة أكثر. وهذا هو السبب في اختلاف الساعات الذرية.
التوقيت الذري العالمي هو متوسط التوقيت المقدّر بعدد 200 ساعة ذرية في حوالي سبعين معمل قومي في مختلف أنحاء العالم.
وبما أن الساعة الذرية تختلف باختلاف درجة الحرارة فإن هذا مما يؤكِّد ما أردت أن أشير إليه سابقاً من أن الساعة الذرية وغير الذرية قد تختلف تردداتها باختلاف السرعة، وهذا ما طرأ في ذهني عند حضوري المحاضرة التي أشرت إليها سابقاً.
وهذا لا يعني وجود خلل في الساعة بسبب زيادة السرعة كما ذهب إليه بعضٌ، فالخلل لا يمكن أن يعطي نتيجة متطابقة مع المعادلات السابقة الموضوعة بناءً على ملاحظات طبيعيّة.
بقي أن نعرف التوقيت العالمي، فالتوقيت العالمي ما هو إلا معيار للتوقيت يستخدم لأسباب مدنية عديدة، ولأن التوقيت الذري الدولي أكثر دقة فإنه يستخدم في وزارة الدفاع الأمريكيّة وفي التطبيقات التي تحتاج إلى نسبة عالية من الدقة وتقليل الخطأ مثل نظام الجي بي أس المشهور الذي يستخدم الآن حتى في السيارات العادية للدلالة على عنوان معين.
وبسبب أنَّ هذا التوقيت ذا تكلفة عالية فأكثر التطبيقات المدنية تعتمد التوقيت العالمي.
وفي الحقيقة لا فرق يُذكر بين التوقيت العالمي وتوقيت غرينتش إلا من الناحية العلمية التقنية، فبينما التوقيت العالمي معيار للحفاظ على توقيت واحد في كل الساعات التي تسخدم نظام المزامنة (سنكرونايسيشن) مع عدد من الخادمات العالمية، فتوقيت قرينتش هو توقيت خط طول صفر.
ولأن التوقيت العالمي يُستخدم لضبط توقيت غرينتش فإنه أصبح يذكر بدلاً عنه، بينما هو في الحقيقة مجرد توحيد للساعات ولو كانت الساعة على غير توقيت غرينتش.
هذا والله أعلم، وصلَّى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله ربِّ العالمين.
عمر عبداللطيف محمد نورلينشوبنج، السويد
السبت 7 ربيع الآخر 1432هـ الموافق 12 مارس 2011م
المصادر
[1] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج6/ص588)، تحقيق؛ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، الناشر؛ مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، عام النشر؛ 1416هـ/1995م.
[2] مجموع الفتاوى (5/588)، الطبعة السابقة.
[2] مجموع الفتاوى (5/588)، الطبعة السابقة.
رجوع إلى قسم ثقافة ومعارف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق