صلة غير المُحاربين

الرجوع إلى قسم مسائل وأحكام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
محبة دخول الناس في الإسلام هي أفضل أنواع المحبة، لأن دخولهم في الإسلام فيه كل الخير لهم في معاشهم ومعادهم {هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ}، وقد قيل بأن الآية في الكفار وقيل في المنافقين، والقول بأنها في الكفار أولى لسباقها الناهي عن اتخاذ بطانة من دون المؤمنين، فالمعنى والله أعلم محبة دخولهم في الإسلام، لما فيما قبلها من بيان بغضهم لنا بقوله: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}.
فالله تعالى أمرنا بدعوة الناس إلى هذا الخير ومعاملتهم بالبر والقسط، ومع أن المعاملة بالبر والقسط وردت في حق غير المحارب، إلا أن القسط والعدل مأمور به حتى مع المحارب والعدو، وأما البر فكذلك يدخل فيه العدو إذا كان مستأمَناً أو مستأمِناً أو معاهداً.
فحتى من كانت فيه عداوة وصد عن الدين فقد حض شرعنا على معاملتهم بالبر إذا لم يكن المسلمون في حالة حرب معهم كالمستأمَن والمستأمِن والمعاهِد، بل أمر بمقابلة الإساءة بالإحسان، وذلك في قول الله عز وجل: { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }.
جاء في تفسير القرطبي؛ ( قال مقاتل: نزلت في أبي سفيان بن حرب، كان مؤذياً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فصار له ولياً بعد أن كان عدواً بالمصاهرة التي وقعت بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم أسلم فصار ولياً في الإسلام حميماً بالقرابة. وقيل: هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام، كان يؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره الله تعالى بالصبر عليه والصفح عنه ) [1].
والبر هو الصلة كما جاء في التفاسير، وهو باب واسع، ويدخل فيه التهنئة بالأمور المباحة المشتركة بيننا وبينهم كالزواج والنجاح في دراسة أو عمل أو مولود، ولا تجوز تهنئتهم بمحرم أو بما هو رمز وشعار لدينهم كأعيادهم.
وما يجوز تهنئتهم به أكثر مما يحرم لأن دائرة المباح المُشترك أوسع من دائرة الحرام وغير المُشترك بسبب أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا لنص.
ومما ورد فيه نص بتحريمه من العادات أعياد الكفار ولو كانت لمجرد اللعب واللهو ولم تكن من شعائر دينهم.
فإذا كان ما يجوز تهنئة الكفار به أكثر مما يحرم، فما الذي يحمل الإنسان على التهنئة بما هو محرم بل على ما قام على عقيدة أن لله ولد؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، والكريسماس عيد ديني، وأما كونهم قد اتخذوه عادة، فهذا مثل اتخاذ بعض المسلمين العيدين عادة، والكفار أولى باتخاذ أعيادهم الدينية عادةً لأنهم اتخذوا دينهم لعباً ولهواً، فهم في شك من دينهم.
وأظن أنه لم يرد عن أحد ممن ينتسب أو يُنسب إلى العلم من القدامى ولا المعاصرين جواز الاحتفال بأعياد الكفار ولا تهنئة المسلمين بها، وإنما أجاز بعض المعاصرين تهنئة الكفار بأعيادهم، وفي تجويز تهنئة الكفار بأعيادهم لا سيما الدينية مخالفة ظاهرة للنصوص والإجماع والمعقول من الشرع.
ويخطيء من يزعم أنه لا نص في المسألة، فهي داخلة في عموم نصوص كثيرة لما فيها من إقرار بالباطل، والقياس الجلي كقياس الأولى في حكم المنصوص عليه، وتحريم التشبه بهم في شعائر دينهم أولى من تحريم التشبه بهم في العادات الدنيوية.
فحل الفراولة عُلم بنصوص عامة، وكذا تحريم السجائر.
ولذا قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير قول الله تعالى: {والذين لا يشهدون الزور}: (وقال أبو العالية، وطاوس، ومحمد بن سيرين، والضحاك، والربيع بن أنس، وغيرهم: هي أعياد المشركين)، والسلف كانوا يفسرون أحياناً بالمثال.
والقياس الجلي في حكم المنصوص عليه كقياس تحريم ضرب الوالدين على تحريم التأفف {فلا تقل لهما أف}، فهذه الآية لوحدها تعتبر نصاً في تحريم ضرب الوالدين.
والنصوص صريحة في تحريم التشبه بالكفار في العادات الدنيوية، فمن باب الأولى تحريم التشبه بهم في أعيادهم الدينية، والتهنئة بأعيادهم من التشبه بهم.
بل ورد النص بمخالفتهم على وجه الاستحباب في شيء طبيعي لا يعد من قبيل العادات الدنيوية، وهو؛ (إنَّ اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم)، متفق عليه.
التهنئة بالعطلة لا بالعيد فيها ما فيها لموافقتها أيام عيدهم، ولكن في التهنئة بالعطلة صرف للناس عن المحرم لذاته، وفيها رفع للحرج؛ لأن كثيراً من العوام يتحرجون من عدم تهنئة غير المسلمين في أيام أعيادهم بسبب أن زملاءهم من غير المسلمين يهنؤونهم بأعياد المسلمين وبدخول شهر رمضان.
فمن لم يستطع أن يصرح للكفار بأنه لا يهنيء بالكرسماس أو لم يكن الحال مناسباً للبيان، فليقل إجازة سعيدة، فالتأويل بالمعاريض جائز في مثل هذا الحال، وذلك أفضل له من قول كرسماس سعيد، وذلك إما لاتقاء شر أو تأليف قلب، فأكثر الكفار يهتمون بالعطلة ويفرحون بها أكثر من فرحهم بالعيد.
وقد ادعى بعضٌ أن التهنئة بأعياد الكفار الدينية ليس فيها إقرار بعقيدتهم بسبب أن تهنئتهم إيانا ليس فيها إقرار، وليس الأمر كما زعموا، وذلك لأن الكفار ليسوا أهل صدق في دينهم، فالإقرار بالباطل أو المحرم في التهنئة به واضح وضوح الشمس في وسط النهار.
وقد اتفق الناس بمن فيهم الملاحدة على أن النفاق قبيح، ولولا الصدق لما استقامت للناس حياة، فلولا الثقة لما استقامت للناس تجارة ولا بيع ولا طب ولا تعليم ولا أي علاقة.
فالصدق في الحديث يقتضي أن نقول لغير المسلمين؛ نحن نهنئكم بكل ما يسعدكم من أمور دنياكم مما هو مباح في شرعنا ومشترك بيننا وبينكم، كالتهنئة بمولود أو زواج أو قدوم غائب أو سلامة من مكروه أو الحصول على وظيفة أو تجارة ناجحة، وأما تهنئتكم بالكرسمس فهي إما إقرار بأنها مناسبة طيبة أو مجاملة كاذبة، فأما الأولى فمن لوازم كل عقيدة الكفر بما يناقضها وما يتبعها من شعائر كالأعياد، وأما الثانية فهذا النوع من المجاملة نفاق وخداع.
ويدخل في البر عيادة مرضاهم وتعزيتهم بموت محبوب لهم بسبب دنيوي كالقرابة، فأنواع البر والإحسان للكفار كثيرة، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى فيما سيلي نقله جواز تهنئة الذمي بولد وزواج ونحوه، ثم قال إن حكم  التهنئة بمثل هذه الأمور المباحة المشتركة هو حُكم التعزية وعيادة المريض، وقد نقل في كتابه آثاراً عن السلف سئلوا عن التعزية بين قائل لا أدري وقائل بالجواز وذَكَرَ الصيغ الجائزة في التعزية.
وكلام العلماء في التعزية من السلف والمعاصرين كثير، وخلاصة حكم التعزية في كافر أنها جائزة بثلاثة شروط؛
الأول؛ لا يجوز الترحم أو الاستغفار للميت الكافر.
الثاني: لايجوز تعظيم الميت الكافر.
الثالث؛ أن تكون التعزية لمن للكافر به صلة دنيوية كالقريب والجار والزميل، وذلك لأن التعزية مواساة، فلا تصح مواساة لسبب ديني كتعزية عموم النصارى في البابا، ومثل هذه التعزية فيها قدح في العقيدة والتوحيد، وتعزية عموم الناس في كافر فيها تعظيم للكافر.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: " ويجوز للمسلم أن يعزي الذمي بقريبه الذمي، فيقول: أخلف الله عليك، ولا نقص عددك " [2].
وقد اشترط بعض العلماء رجاء إسلام الكافر لجواز تعزيته، والصحيح عدم اشتراط رجاء إسلامه، لأن التعزية من جملة البر المأمور به مع غير المحارب من الكفار، ولأنه لم يرد نهي عن التعزية في الكتاب ولا في السنة، وما استدل به المانعون لا حجة فيه، وممن أطلق القول بجواز التعزية من غير شرط رجاء إسلامهم من المعاصرين الإمام الألباني رحمه الله تعالى، ولا يخفى أن نية الطمع في إسلامهم مستحبة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ( فصل في تهنئتهم بزوجة أو ولد أو قدوم غائب أو عافية أو سلامة من مكروه ونحو ذلك، وقد اختلفت الرواية في ذلك عن أحمد فأباحها مرة ومنعها أخرى، والكلام فيها كالكلام في التعزية والعيادة ولا فرق بينهما، ولكن ليحذر الوقوع فيما يقع فيه الجهال من الألفاظ التي تدل على رضاه بدينه، كما يقول أحدهم: متعك الله بدينك أو نيحك فيه، أو يقول له: أعزك الله أو أكرمك إلا أن يقول: أكرمك الله بالإسلام وأعزك به ونحو ذلك، فهذا في التهنئة بالأمور المشتركة.
وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد، ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثماً عند الله وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه.
وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه، وقد كان أهل الورع من أهل العلم يتجنبون تهنئة الظلمة بالولايات، وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والإفتاء تجنباً لمقت الله وسقوطهم من عينه، وإن بلي الرجل بذلك فتعاطاه دفعاً لشر يتوقعه منهم فمشى إليهم ولم يقل إلا خيراً، ودعا لهم بالتوفيق والتسديد فلا بأس بذلك، وبالله التوفيق
 ) [3].
ويعلم من الشرط الثاني لجواز تعزية الكافر خطأ بعض الناس الذين يعزون عموم الناس في موت زعيم كافر في المنابر ووسائل الإعلام، وكذلك لا يجوز تعزية من كانت علاقتهم بالميت مجرد الديانة الباطلة أو الطريقة المبتدعة، أما تعزية عموم الناس في أمثال هؤلاء الزعماء ففيها تعظيم للميت، ولا يجوز تعظيم الكفار ولا أهل البدع لقول بعض السلف: (من عظم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام)، بخلاف تعزية من له صلة دنيوية بالميت الكافر من قرابة أو جيرة أو زمالة أو نحوه ففيها مواساة في فقد محبوب بسبب علاقة في أمرٍ دنيوي.
وأما تعزية من كانت علاقتهم بالميت مجرد الدين الباطل كتعزية عموم النصارى في البابا كما فعل أحد الناس فهذا قدح في العقيدة، لأن التعزية مواساة، ففيم يعزي عموم النصارى في البابا؟ ومثل هذا يقال في تعزية حواريي الطرق المبتدعة في شيخهم، أو تعزية أتباع الأحزاب العلمانية أو المنحرفة عن المنهج الصحيح في زعمائهم، خلافاً لمن عزى من لهم صلة دنيويَّةٌ بشيوخ الطرق المبتدعة أو زعماء الأحزاب المنحرفة كأقربائهم وجيرانهم وزملائهم ونحو ذلك فإنه يواسيهم في فقد محبوب لهم بسبب علاقة دنيوية، وأما من يعزي أتباع زعماء الضلال في زعمائهم ففيم يواسيهم؟
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وما رأيت أحداً قط أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه، وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم.
وجئتُ يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوةً وأذىً له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا من الكلام. فسروا به ودعوا له، وعظموا هذه الحال منه، فرحمه الله ورضي عنه) [4].
الأصح والأحوط عدم اتباع جنازة الكافر لتعلقها بأمور الآخرة، فخرجت عن الصلة الدنيوية المحضة المباحة.
ومن أجازها من العلماء استدل بزيارة النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، وبعموم جواز البر والقسط مع غير المحارب من الكفار مع عدم ورود نص يمنع ذلك.
والأصل جواز جميع أنواع صلة غير المحارب الدنيوية، ولكن اتباع الجنازة فيه تعلق بأمور الآخرة، وثمة فرق بين اتباع الجنازة وزيارة قبر الميت القريب الكافر مع عدم الاستغفار له، لأن الزيارة تذكر الآخرة وفيها وفاء دنيوي للميت القريب الكافر.
واتباع الجنازة فيه تعظيم للميت الكافر وهي محرمة، وأما قيام النبي صلى الله عليه وسلم عند رؤية جنازة اليهودي وقوله عندما قيل له إنه يهودي: (أليست نفساً؟) فهو تعظيم للموت وليس للميت، ويرى كثير من العلماء أنه حكم منسوخ.
في صحيح البخاري؛ (كانَ سَهْلُ بنُ حُنَيْفٍ، وقَيْسُ بنُ سَعْدٍ قاعِدَيْنِ بالقادِسِيَّةِ، فَمَرُّوا عليهما بجَنازَةٍ، فَقاما، فقِيلَ لهما إنَّها مِن أَهْلِ الأرْضِ أَيْ مِن أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَقالا: إنَّ النبيَّ ﷺ مَرَّتْ به جِنازَةٌ فَقامَ، فقِيلَ له: إنَّها جِنازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقالَ: أَليسَتْ نَفْسًا) [5].
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
يوم الأحد 30 ربيع الأول 1437ه، 10 يناير 2016م
لوند، السويد

المصادر

[1] الجامع لأحكام القرآن (ج15/ص362)، دار الكتب المصرية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1384هـ - 1964م.
[2] روضة الطالبين وعمدة المفتين (ج2/ص145)، تحقيق؛ زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، عمان، الطبعة الثالثة، 1412هـ/1991م.
[3] أحكام أهل الذمة (ج1/ص441-442)، تحقيق؛ يوسف بن أحمد البكري - شاكر بن توفيق العاروري، رمادى للنشر، الدمام، الطبعة الأولى، 1418ه-1997م.
[4] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (ج2/ص328-329)، تحقيق؛ محمد المعتصم بالله البغدادي، الناشر؛ دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1416هـ - 1996م.
[5] صحيح البخاري (١٣١٢).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق