الرفق والشدة في الدعوة

رجوع إلى قسم منهج وإصلاح

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الغفور الرحيم والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، فكان أرحم الناس بالمؤمنين، وأصبرهم على المُخالفين، وأحلمهم بالمُعرضين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى من سلك سبيلهم واستن بسنتهم إلى يوم الدين.
يستدل بعض بعمومات وردت في الأمر بالشدة على المعاندين الظالمين من الكفار والمنافقين والفسقة ولو كانوا من أهل السنة على أن الشدة والرفق كليهما أصل في الدعوة وأنه لا فرق بينهما.
ويشمل البحث الشدة التي بمعنى العنف وكل ما يضاد الرفق كالشدة بالألفاظ الشديدة أو المُذِلَّة كقول؛ أنت مثبور (ناقص العقل وقيل هالك)، وقول؛ اعضُض بِهنِ أبيك من غير كناية، وقول؛ امصُص بَظَر اللات ونحو ذلك.
تقرر في علم أصول الفقه أن العامَّين إذا تعارضا في أحد صور عمومهما قُدِّم الأرجح منهما، كما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله: (وإن يك العموم من وجه ظهر ### فالحكم بالترجيح حتماً معتبر).
ويرجِّح الرفق النصوص العامة التي فيها بيان فضل الرفق على الشدة والعُنف، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ، وَلا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ)، صححه الألباني رحمه الله تعالى [1].
فقوله؛ (شيء) نكرة تدل على العموم لورودها في سياق نفي، وقوله؛ (نُزع) عموم يشمل العنف والشدة في الألفاظ وكل ما سوى الرفق.
يؤكد ذلك الحديث المتفق عليه؛ عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا عائِشَةُ إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، ويُعْطِي على الرِّفْقِ ما لا يُعْطِي على العُنْفِ، وما لا يُعْطِي على ما سِواهُ) [2].
وقد ورد في النصوص ما يدل على أن الرفق أصل وأن الشدة خاصة بالظالمين في قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}.
ويدل على ترجيح الرفق أيضاً أن الأمر بمعاملة الكفار والمنافقين بالشدة والغلظة متأخر بعد ظهور الحجة وقوة المسلمين فدل على أن الأمر في حق الظالمين المعاندين.
ويدل على ترجيح الرفق أيضاً أنه أمر الله تعالى لموسى عليه السلام في بداية دعوته وقبل أن يَظهر عناد فرعون واستكباره؛ {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ}، وهكذا كان الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم؛ {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
ومما يدل على ترجيح الرفق أن النفوس جُبلت على حب الرفق والرحمة، وأنها تنفر عن الغلظة والقسوة، وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الرفق ما كان في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه، فيشمل ذلك زينه وشينه في نفوس الناس، فالناس قد فُطِروا على حب الرفق والرحمة وكراهة الشدة والغلظة والقسوة.
ومما يدل على ترجيح الرفق والرحمة فضل من في طبعه رفق ورحمة كأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد أجمع أهل السنة على فضل أبي بكر الصديق على عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، والله عز وجل أمرنا بالرحمة وقد سبقت رحمته سبحانه وتعالى غضبه.
ومما يدل على تفضيل الرفق والرحمة على الشدة قول الله تعالى ذكره: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، فالآية صريحة في تفضيل الحسنة على السيئة، والمقصود بالحسنة هنا الإحسان، والمقصود بالسيئة الإساءة، لأن الآية في الأمر بمقابلة الإساءة بالإحسان.
جاء في تفسير القرطبي؛ (قال مقاتل: نزلت في أبي سفيان بن حرب، كان مؤذياً للنبي صلى الله عليه وسلم، فصار له ولياً بعد أن كان عدواً بالمصاهرة التي وقعت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم فصار ولياً في الإسلام حميماً بالقرابة. وقيل: هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام، كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره الله تعالى بالصبر عليه والصفح عنه) [3].
وأما قول؛ اعْضُض بِهنِ أبيك ونحو ذلك؛ فالحديث فيه دلالة على أن الأصل الكناية وليس التصريح، وذلك لأن الهن هنا كناية عن الذكَر، فكنى ولم يصرِّح مع أمره بالتصريح، وهذا يدل على أن التصريح لا يجوز إلا في مثل تلك الحالة، وكذا قوله لماعز رضي الله عنه: (أنكتها؟) لأن المقام يقتضي التصريح.
عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ تَعَزّى بِعزاءِ الجاهِلِيَّةِ، فأعِضُّوه بِهَنِّ أبيه، ولا تَكْنُوا) [4].
والهن في اللغة الشيء، ويستعمل كناية عن الشيء يستقبح ذكره.
قال ابن منظور رحمه الله تعالى: (الهَنُ والهَنُّ، بِالتَّخْفِيفِ والتَّشْدِيدِ: كِنايَةٌ عَنِ الشَّيْءِ لا تَذْكُرُهُ بِاسْمِهِ) [5].
فالشدَّة مشروعة مع الظالم المعاند من الكفار والفساق وأهل البدع، مع مراعاة حال المسلمين وأهل السنة من قوة وضعف وقلة وكثرة ومدى انتفاع الظالم المعاند بالشدة أو ارتداع العامة بها.
والشدة مع السني الظالم المعاند إذا كانت نافعة لمثله أو فيها زجر لغيره وكان في مسألة ذات ضرر عظيم لا يجهلها مثله كمسألة الفخر بالآباء، والفخر بالآباء ظلم لأن فيه تنقيص من الآخرين.
بعض الناس في طبعهم شدة لا تقدح فيهم كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبعضهم فيهم رفق ليس فيه ميل قادح كما كان أبوبكر الصديق رضي الله عنه.
ومن في طبعه شدة يكون خطؤه من جهة الشدة عادةً فتزيد عنده عن حدها بسبب غلبة الشدة في طبعه، ومن في طبعه رفق يكون خطؤه من جهة رفقه عادةً فيزيد عنده عن حده بسبب غلبة الرفق في طبعه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصديق رضي الله عنه في الرؤيا التي أوِّلت بالفتوحات: (وفي نَزْعِهِ ضَعْفٌ، واللَّهُ يَغْفِرُ له)، وجاء القرآن بإقرار عمر رضي الله عنه في شأن أسرى بدر.
ولكن كان رفق أبي بكر الصديق رضي الله عنه أقرب للكمال، فموقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه في حروب الردة كان أشد من موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ومن في طبعه شدة يخطيء بسبب شدته عادةً، ولذا جانب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصواب في بعض المواقف، كما في صلح الحديبية عندما قال: (علامَ نرض الدنية في ديننا).
وشدة عمر رضي الله عنه كانت أقرب للكمال، وكانت في الحق، ولذا سمي الفاروق، وذكر أهل العلم أن فرق السابقين الأولين من غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم هو إسلام عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد الملطب رضي الله عنهما، وقد قال النبي صلى الله عليه وسم في نزع عمر رضي الله عنه: (فَلَمْ أرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النّاسِ يَنْزِعُ نَزْعَ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ) وأول ذلك بالفتوحات في عهده.
وعلى من لاحظ أخطاء من في طبعه شدة أن يلحظوا أخطاءهم في رفقهم، وإلا؛ أقلوا عليهم (لا أبا لأبيكم) من اللوم أو سدوا المكان الذي سدُّوا، ومن في طبعه شدة وفكاهة يَصعُب عليه تركها بالكلية.
فالواجب إقالة أهل الهيئات عثراتهم، فالماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث، وخطأ الكبير صغير، فأهل بدر غُفر لهم السابق واللاحق من ذنوبهم كبيرها وصغيرها، فكبائرهم مثل صغائر من دونهم.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (من قواعد الشرع والحكمة أيضاً؛ أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل له مالا يحتمل لغيره، ويعفي عنه مالا يعفي عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل فإنه يحمل أدنى خبث، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: "وَمَا يدْريك لَعَلَّ الله اطلع على اهل بدر فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فقد غفرت لكم") [6].
والله تعالى أعلم
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
الثلاثاء 1 رجب 1441 ه، 25 فبراير 2020م

المراجع

[1]  صحيح ابن حبان (٥٥٠).
[2] أخرجه البخاري (٦٩٢٧)، ومسلم (٢٥٩٣) واللفظ له.
[3] الجامع لأحكام القرآن (ج15/ص362)، دار الفكر.
[4] أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (٨٨٦٤) واللفظ له، وأحمد (٢١٢٣٤)، وصححه الألباني في تخريج مشكاة المصابيح (٤.٨٢٨).
[5] لسان العرب (ج١٥/‏ص٣٦٩)، دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة - ١٤١٤ هـ.
[6] مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (ج1/ص176)، دار الكتب العلمية، بيروت.

رجوع إلى قسم منهج وإصلاح

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق