التزام عدد في الذكر المطلق

رجوع إلى قسم شبهات وردود
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن سلك سبيلهم إلى يوم الدين.
كتب كاتبٌ عن مؤتمر التيجانية الذي عقد في الأيام الماضية في دارفور، ونقل كلاماً لابن القيم نسبه إلى ابن تيمية رحمهما الله تعالى في التزام عدد ووقت في ذكر مطلق استدلالاً بالتجربة، متسائلاً هل يبدعهما السلفيون بهذا السبب؟ داعياً إلى التقارب بين السلفيين والصوفية.
وحدة أهل القبلة واجتماعهم على ولي الأمر في السودان في القضايا المشتركة ضرورة شرعية وحتمية واقعية، للنصوص التي تدل على ذلك، وبسبب الظروف التي تمر بها الأمة، ويجب السعي في جمع الكلمة على الكتاب والسنة، وأما الدعوة إلى التقارب المبنية على التنازل عن شيء من الحق ولو قليلاً فلن تزيد أهل القبلة إلا تفرقاً، ومعظم النار من مستصغر الشرر، قال الله تعالى ذكرُه: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}.
نص كلام ابن القيم رحمه الله تعالى المشار إليه هو؛ (ومن تجريبات السالكين التي جربوها فألفوها صحيحة؛ أن من أدمن يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت أورثه ذلك حياة القلب والعقل، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه شديد اللهج بها جداً، وقال لي يوماً: لهذين الاسمين وهما الحي القيوم تأثير عظيم في حياة القلب، وكان يشير إلى أنهما الاسم الأعظم، وسمعته يقول: من واظب على أربعين مرة كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث حصلت له حياة القلب، ولم يمت قلبه) [1].
العبادات توقيفية، والتوقيف يكون من جهة الإطلاق كما يكون من جهة التقييد، فمن قيد المطلق من العبادات بعدد أو صيغة أو مكان أو زمان أو هيئة أو جنس من غير دليل أو سبب شرعي فقد ابتدع، وكذا من أطلق المقيد، فالمقيد كالأذان له صيغة معينة لا يجوز تغييرها، وكعدد ركعات الصلوات المفروضة فلا يجوز أن تصلى الظهر خمساً، ومن المطلق الدعاء بأي صيغة ولغة.
ابن القيم رحمه الله تعالى ألف كتاب مدارج السالكين في وقت كان فيه قريب عهد من التصوف، ومن قرأ كتبه يعلم أنه تراجع عن بعض ما في مدارج السالكين، وأما نسبته هذا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فالدعاء أصله مأثور، ولكن يبقى الإشكال في تحديد العدد والوقت والمواظبة على ذلك استدلالاً بالتجربة، فربما يكون قد تراجع عنه، لأنه لم ينقل في غير هذا الموضع، وربما تكلم ابن تيمية في أصل الدعاء وذكر العدد من غير التزامه، وذلك لقوله: (كان شديد اللهج جداً)، فربما كان يعد أحياناً ويترك العدد أحياناً أخرى، فظن ابن القيم رحمه الله تعالى عندما كان قريب عهد بالتصوف أنه يواظب عليه.
يؤكد ما سبق تحذير ابن تيمية من تقييد المطلق، وهو ما يسمى بالبدعة الإضافية، وهذا نص كلامه في الاجتماع للذكر؛ (لكن ينبغي أن يكون هذا أحياناً في بعض الأوقات والأمكنة فلا يجعل سنة راتبة يحافظ عليها إلا ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم المداومة عليه في الجماعات؟ من الصلوات الخمس في الجماعات ومن الجمعات والأعياد ونحو ذلك، وأما محافظة الإنسان على أوراد له من الصلاة أو القراءة أو الذكر أو الدعاء طرفي النهار وزلفاً من الليل وغير ذلك؛ فهذا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصالحين من عباد الله قديماً وحديثاً، فما سن عمله على وجه الاجتماع كالمكتوبات؛ فعل كذلك وما سن المداومة عليه على وجه الانفراد من الأوراد عمل كذلك) [2].
وقد أنكر الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى لزوم عدد الأربعين في هذا الدعاء، وبين بطلان أخذ العبادات من المنامات فقال: (وإنما يبقى الكلام في التحديد بالأربعين، وإذا لم يوجد على اللزوم استقام)، وذلك في تعليقه على قوله: (كما يحكى عن الكتاني رحمه الله؛ قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: ادع الله أن لا يميت قلبي، فقال: قل كل يوم أربعين مرة: يا حي يا قيوم! لا إله إلا أنت) [3].
البدع درجات؛ منها المكروه كراهة تحريم ومنها المحرم ومنها المكفر، وكما أن المحرمات درجات متفاوتة منها الموبقات ومنها الكبائر ومنها الصغائر، فكذلك البدع المكروهة كراهة تحريم والمحرمة والمكفرة، كل قسم منها درجات متفاوتة، وقد ذكر هذا التفصيل الشاطبي رحمه الله تعالى في؛ الاعتصام للإمام الشاطبي » الباب السادس في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة » فصل تفاوت البدع [4].
قول السلف بأن البدعة شر من المعصية؛ يُقصد به أن جنس البدعة شر من جنس المعصية، وليس كل بدعة شرٌ من كل معصية، بمعنى أن  البدعة المكروهة كراهة تحريم شر من المكروه كراهة تحريم، والبدعة المحرمة شر من المحرم حسب درجة تحريم البدعة والمحرم، وكذا يقال في البدعة المكفرة، فلا شك أن بعض المعاصي شر من بعض البدع.
ونحن في جماعة أنصار السنة المحمدية كنا ولا زلنا ولله الحمد نفرق بين هذه المنكرات ودرجاتها، وكنا ولا زلنا نقدم حرب البدع المكفرة والشركيات على غيرها، إلا ما كان من تفلتات من مبتدئين في الدعوة ونحو ذلك، وهذا أمرٌ طبيعي يحدث في كل جماعة من الجماعات المستقيمة على المنهج أو المنحرفة عنه في قليل أو كثير.
التزام الإنسان لخاصة نفسه عدداً لم يرد بغير سبب مكروه كراهة تنزيه وليس من البدع، ومن الأسباب المبيحة تجزئة قراءة القرآن في التزام عدد معين من الركعات في صلاة التراويح، فإذا التزم عدداً لغير سبب ثم استحسنه لغيره أو دعا للاجتماع له كان من البدع المكروهة كراهة تحريم، فإذا رتب عليه أجراً معيناً كان ذلك افتراءاً على الله سبحانه وتعالى، وإذا ادعى أن مصدره المنام أو الإلهام، كان كإضافة مصدرٍ لمصادر التشريع، وهي؛ الكتاب والسنة والإجماع والقياس والمختلف فيها، والبدع تبدأ صغيرة ثم تكبر، ومعظم النار من مستصغر الشرر.
إذا افترضنا أن ابن القيم وابن تيمية رحمهما الله تعالى لم يتراجعا عن هذا القول فنحن تعلمنا منهما بالأدلة من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة ألا نتعصب لغير الحجة والدليل، ونحن نحبهما، ولكن الحق أحب إلينا، وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى عن التزام عدد الأربعين في هذا الدعاء ونسبته إلى ابن تيمية، فأجاب بأن ابن تيمية ربما قال ذلك على وجه التجربة، وأنه ربما يكون اجتهاد من ابن تيمية إلا أنه لا يسلم له ذلك إلا بدليل شرعي في؛ التلفزيون الآمن » فتوى العلامة ابن عثيمين في كلام شيخ الإسلام في قول من واظب على يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت.
وأول من أنكر البدع الإضافية ليس هو الإمام الشاطبي ولا ابن تيمية ولا ابن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى ولا السلفيون، وإنما سبقهم الأئمة إلى ذلك، وقبلهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وأكتفي هنا بذكر أثر لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه عندما رأى بدعة إضافية في المسجد.
عن عمرو بن يحيى قال سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: (كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعاً، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفا أمراً أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيراً، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً، ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاً، انتظار رأيك، وانتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم، ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح، قال فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون وهذه ثيابه لم تبل وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة، قالوا والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم، فقال عمرو بن سلمة رأينا عامة أولئك الخلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج)، رواه الدارمي والطبراني في الكبير وابن نعيم في الحلية، وصححه الألباني رحمه الله تعالى في الصحيحة، أنظر؛ سنن الدارمي » المقدمة » باب في كراهية أخذ الرأي (210)، وفي الأثر فوائد كثيرة، أذكر منها ما يلي.
نهي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن التزام عدد لم يرد في السنة بقوله: (عدوا سيئاتكم وأنا ضامن أن يعد الله لكم حسناتكم)، فلما رأى ابن مسعود رضي الله عنه في اجتماعهم على تلك الهيئة التزام عدد المائة في ذكر مطلق، أنكر العدد، ولعله قصد إنكار التزام عدد لم يرد في السنة مبيناً أنه لا حاجة لهم بحساب حسناتهم، جواباً على قولهم: (يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا خيراً).
تشديد ابن مسعود رضي الله عنه النكير مع أنها بدعة مكروهة كراهة تحريم بقوله: (ما أسرع هلكتكم)، وقوله: (مفتتحو باب ضلالة)، وتفرسه بأنهم من الخوارج، وذلك لأنهم ابتدعوا تلك البدعة، ومن افتتح باب ضلالة فهو أشد إثماً لأن له أوزار من اتبعه إلى يوم القيامة، ولأن الصحابة رضي الله عنهم متوافرون، ومن ابتدع في عصر الصحابة رضي الله عنهم شر ممن ابتدع بعدهم لتوافر العلم، ولقرب العهد بالرسالة، ولذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: (هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون)، وقال: (وهذه ثيابه لم تبل وآنيته لم تكسر).
وما سبق دليل على فقه الصحابة رضي الله عنهم، ومن فوائد ذلك أن إنكار البدع المكروهة في زماننا يجب أن يكون برفق لكثرة الجهل في زماننا وقلة العلم وبعدنا عن عصر الرسالة، وفي الأثر دليل على أن البدع تبدأ صغيرة فتكبر، فهؤلاء كانت بدعتهم مكروهة كراهة تحريم فكبرت حتى صاروا من الخوارج الذين هم كلاب النار وشر الخلق والخليقة، ومعظم النار من مستصغر الشرر، لقول عمرو بن سلمة: (رأينا عامة أولئك الخلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج)، وقد يكون فيهم أهل زيغ أرادوا استدراج غيرهم.
ليس في البدع مكروه كراهة تنزيه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة)، فهو عموم لا يخصص إلا بدليل شرعي، ذكر ذلك الشاطبي رحمه الله تعالى، مبيناً أن ما أطلق عليه الأئمة السابقون الكراهة من البدع، فإن مقصودهم بالكراهة هنا كراهة التحريم التي هي في مرتبة أقل من المحرم، فقال: (فلا يغتر المغتر بإطلاق المتقدمين من الفقهاء لفظ المكروه على بعض البدع، وإنما حقيقة المسألة أن البدع ليست على رتبة واحدة في الذم ـ كما تقدم بيانه ـ وأما تعيين الكراهة التي معناها نفي إثم فاعلها وارتفاع الحرج البتة، فهذا مما لا يكاد يوجد عليه دليل من الشرع ولا من كلام الأئمة على الخصوص) [5].
أما سؤال الكاتب عن هل نبدع ابن القيم وابن تيمية بذلك؟ فالجواب؛ طبعاً لا، وذلك على فرض أنهما لم يتراجعا عن قولهما، فالخطأ في مسألة ليس مثل الخطأ في مسائل تعود على أصل بالنقض، كيف وعندهما من إنكار البدع والمحدثات وصبرهما على الأذى في ذلك ما هو معلوم؟ ولي كلام حول التبديع في؛ مدونتي » إصلاح » الموجز اليسير حول شبهات في الجهاد والتكفير » الغلو في التبديع.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
يوم الأربعاء، 3 ذو القعدة 1438هـ، 26 يوليو 2017م
لوند، السويد

المصادر

[1] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (ج1/ص446)، تحقيق؛ محمد المعتصم بالله البغدادي، الناشر؛ دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة الثالثة، 1416 هـ - 1996م.
[2] مجموع الفتاوى (ج22/ص521)، تحقيق؛ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416هـ/1995م
[3] الاعتصام للشاطبي (ج1/ص332)، تحقيق؛ سليم بن عيد الهلالي، الناشر؛ دار ابن عفان، السعودية، الطبعة الأولى، 1412هـ - 1992م.
[4] الاعتصام للإمام الشاطبي (ج2/ص515)، الطبعة السابقة.
[5] الاعتصام للشاطبي (ج2/ص533)، الطبعة السابقة.

رجوع إلى قسم شبهات وردود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق