شبهات في المسألة

منهج أهل السنة في الخروج على السلطان       المحتويات       التفريق بين الفسق الخفي والمعلن
احتج القائلون بجواز الخروج على أئمة الجور بحديث ابن مسعود؛ (سيكون أمراء من بعدي يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يأمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، لا إيمان بعده)، المصدر؛ صحيح ابن حبان - مخرجاً (177) [1]، وصححه الألباني رحمه الله تعالى في؛ صحيح الموارد 1298، وقال أحمد شاكر رحمه الله: إسناده صحيح.
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى: (وقد استنكر الإمام أحمد هذا الحديث في رواية أبي داود، وقال: هو خلاف الأحاديث التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بالصبر على جور الأئمة. وقد يجاب عن ذلك بأن التغيير باليد لا يستلزم القتال، وقد نص على ذلك أحمد أيضا في رواية صالح، فقال: التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح.
وحينئذ فجهاد الأمراء باليد أن يزيل بيده ما فعلوه من المنكرات، مثل أن يريق خمورهم أو يكسر آلات الملاهي التي لهم، ونحو ذلك، أو يبطل بيده ما أمروا به من الظلم إن كان له قدرة على ذلك، وكل هذا جائز، وليس هو من باب قتالهم، ولا من الخروج عليهم الذي ورد النهي عنه، فإن هذا أكثر ما يخشى منه أن يقتل الآمر وحده) [2].
فقد نقل الخلال وأبودواد عن الإمام أحمد رحمهم الله جمعياً أنه قال: (وهذا الكلام لا يشبه كلام ابن مسعود، ابن مسعود يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصبروا حتى تلقَوني") [3].
وأما الزعم بأن حكم الخروج على الأئمة المسلمين الحارسين لأصل الدين معلق بما يترتب عليه من مصالح ومفاسد فهو خطأ بينٌ، إذ لا يكون كذلك إلا أحد أمرين؛
1. ما كان مباحاً في الأصل كالسفر يحرم إذا كان لمعصية ويجب إذا كان للحج الواجب وهكذا، وذلك من جهة أن الوسائل لها أحكام المقاصد.
2. أو حكم استثنائي خلاف الأصل، وذلك مثل ما كان منهياً عنه في الأصل للموزانات بسبب التعارض أو التزاحم بين المأمورات والمنهيات، أو ما كان مأموراً به في الأصل للموازنات أو لاعتبار الشروط والموانع.
وقد دل النهي في النصوص على حُرمة الخروج بالثورات أو القتال وأنه ليس مباحاً في الأصل.
وأما الاضطرار (الموازنات) فتصوره في الخروج خطأ لما يأتي.
وأحكام الموازنات عند تعارض أو تزاحم الحسنات والسيئات أوسع من أحكام الاضطرار والاحتياج، ولكنها تدخل في أحكام الاضطرار إذا اقتضت فعل محرم لذاته، وتدخل في أحكام الاحتياج إذا اقتضت فعل محرم لغيره.
والموازنة بين المصالح والمفاسد هي بسبب التعارض أو التزاحم بين حسنتين أو سيئتين أو سيئة وحسنة، لأن فعل الحسنات يحقق مصالح، وفعل السيئات يجلب مفاسد.
وهذا في الجملة، وأما تفصيلاً فثمة تلازم بين المصالح الضرورية والمفاسد وبين حسنات وسيئات، فالمرض ملازم لفوات الصحة، وفعل حسنات يصد عن اقتراف سيئات، واقتراف سيئات يصد عن فعل حسنات.
والحسنة هي كل مأمور به على وجه الندب أو الوجوب وتشمل المباح مجازاً، والسيئة هي كل منهي عنه على وجه الكراهة أو التحريم.
وليس ثمة تعارض ولا تزاحم بين مطلق الأمر بالنهي عن المنكر والنهي عن الخروج على الأئمة الظلمة الفسقة بما دون ترك إقامة الصلاة، وإنما بينهما عموم وخصوص.
فالنهي عن الخروج استثناء من عموم وجوب النهي عن المنكر، ولذا استخرج العلماء من هذا الحكم وأمثاله قاعدة؛ لا ينكر المنكر إذا أدى إلى منكر أعظم.
وأما الاضطرار فلا يتصوَّر إلا في حال الضعف الشديد الذي يُخشى معه تبدد دعائم الإسلام وذهاب البيضة أو خوف انزلاق البلاد في فوضى وفتن وحروب أهلية، وهذه الضرورة لا يمكن دفعها بالثورات ولا بالقتال وإنما بالعزل والخلع من أهل الحل والعقد الذين معهم رؤوس أهل الشوكة (ضباط الجيش).
بل القتال والثورات تزيد هذا الضعف وتُعجِّل بتبدد دعائم الإسلام وذهاب البيضة، وتُغري الكفار بالتدخل في بلاد المسلمين، وتزيد المحن وتثير الفتن.
الكلام عما يترتب على الخروج من مصالح ومفاسد إنما يصح في حال كفر السلطان أو تركه رعاية أصل الدين؛ الشهادتين والصلاة، لدلالة النصوص على مشروعية الخروج عليهم في هذه الحال، ولأن القدرة قد تكون شرط صحة وقد تكون شرط وجوب.
وذلك لأن مصلحة حفظ أصل الدين مقدمة على غيرها من المصالح.
وللمزيد حول شرط القدرة يُرجى الرجوع إلى؛ مدونتي » إصلاح وتكميل » الموجز اليسير في الجهاد والتكفير » القدرة قد تكون شرط صحَّة أو وجوب.
قال ابن تيمية رحمه اللّه تعالى: (إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإنَّ الأمر والنَّهي وإن كان متضمِّناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فيُنظر في المعارض له؛ فإن كان الذي يفوِّت من المصالح أو يحصِّل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به، بل يكون محرَّماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة) [4].
وعلة تحريم الخروج هي كون السلطان مسلماً حارساً لأصل الدين؛ الشهادتين والصلاة.
وأما الحِكمة فهي رجحان المفسدة.
ورجحان المفسدة ملازم غالباً للخروج السلمي والمسلح، والقليل النادر لا يعتد به في الحُكم العام.
فمثلاً الخلوة بالأجنبية محرمة مع أن احتمال عدم الفتنة وارد، واعتبار هذا الاحتمال منافٍ لمقصد سد الذريعة، وذلك لأن احتمال حدوث الفتنة واردٌ أيضاً.
والنادر لا يعتد به في كل الأحكام، بما فيها أحكام البشر الاجتهادية في الطب والهندسة وسائر شؤون الناس.
ومن أسباب تجاهل النادر في حرمة الخروج وغيره من الأحكام؛ أنه لا يعرف بيقين ولا ظن غالب.
فالعلة كثيراً ما تكون غير الحكمة والمقصد.
وبالمثال يتضح المقال؛ فجواز الفطر في نهار رمضان له علل وحكم، وردت منها في كتاب الله تعالى علتان هما؛ السفر والمرض، والحكمة الواردة في الكتاب هي رفع المشقة.
وقد دل النص على أن حكم جواز الفطر في نهار رمضان يدور وجوداً وعدماً مع علل متعددة كالسفر والمرض، وليس مع الحكم كرفع المشقة.
فلم يقل الله تعالى؛ من وجد مشقة فليفطر، وإنما قال: ﴿ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾.
ولعل الأفضل أن يقال إن علة النهي عن الخروج مركبة من إسلام السلطان وإقامة الشهادتين والصلاة ومنع إظهار الكفر الصريح، والعلة المركبة هي التي لابد من وجود جميع أجزائها لوجود الحكم، فإذا كان السلطان مسلماً ولم يكن حارساً لأصل الدين مانعاً للكفر الصريح جاز الخروج عليه إذا  توفر شرط القدرة.
 ويمكن أن يقال إن علة جواز الخروج متعددة من ردة السلطان وتركه إقامة الشهادتين وتركه إقامة الصلاة وسماحه بإظهار الكفر الصريح، والعلة المتعددة هي التي يكفي وجود أحد أفرادها لوجود الحكم، ومثالها المرض والسفر علتان لجواز الفطر في نهار رمضان.
وإقامة أصل الشهادتين والصلاة تكون بنحو العناية بالمساجد والجامعات والمعاهد وتدريسها في المدارس والعناية بالدعوة والدعاة.
ويمكن أن يقال؛ الخروج محرم لأن احتمال المفاسد فيه راجحة وغالبة، وأن هذا الاحتمال الغالب لا ينفك عن أي خروج على أي سلطان مسلم حارس لأصل الدين، ومن أسباب غلبة احتمال المفسدة في الخروج أن مصلحة الدين مقدمة، والخروج يُضعف المسلمين ويُغري بهم الأعداء؛ {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}.
وأما قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإذا عصيتُه فلا طاعة لي عليكم)، فقد أوله بعض المعاصرين بعدم الطاعة إذا أمر بمعصية، ولعل التأويل الأصح أن يقال؛ قوله (فإن عصيته) شارح لقوله: (ما أطعت الله فيكم)، فخرج بذلك المعاصي الخاصة التي لا أثر لها في الرعية، والمعنى أطعته بأداء أهم الواجبات السلطانية في الرعية؛ الشهادتين والصلاة، للنصوص الناهية عن نزع يد من طاعة لمجرد الظلم والفسق بما دون ترك الصلاة.
وأما من ادَّعى أنَّ المسألة ليست محل إجماع، فقد استدلوا بأقوال، من ذلك ما نقله بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله عنه، فقد قال أبوبكر الجصاص رحمه الله: (وكان مذهبه مشهوراً في قتال الظلمة وأئمة الجور، ولذلك قَالَ الأوزاعي: "احتملنا أَبَا حنيفة على كل شيء حتى جاءنا بالسيف، يعني: قتال الظلمة، فلم نحتمله"، وكان من قوله: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض  بالقول، فإن لم يؤتمر له فبالسيف، على ما روي عن النبي، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ...
إلى قوله: وقضيته في أمر زيد بن علي مشهورة، وفي حمله المال إليه وفتياه الناس سراً في وجوب نصرته والقتال معه. وكذلك أمره مع مُحَمَّد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن، وقال لأبي إسحاق الفزاري حين قَالَ له: لم أشرت على أخي بالخروج مع إبراهيم حتى قتل؟ قَالَ: "مخرج أخيك أحب إلي من مخرجك". وكان أَبُو إسحاق قد خرج إلى البصرة، وهذا إنما أنكره عليه أغمار أصحاب الحديث الذين بهم فُقِد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تغلب الظالمون على أمور الإسلام) [5].
إذا سلمنا أن ما نُسب إلى الإمام أبا حنيفة رحمه الله ناقض للإجماع، فلا شك أنه قول مخالف للنصوص الصريحة، ولكن في صحة نسبته بهذا الإطلاق للإمام أبي حنيفة نظر كما سيأتي من قول الطحاوي وغيره من الأحناف، فالذي يظهر أنه أجاز الخروج بشرط رجحان الظن بالقدرة عليهم، وقد خالفه الأئمة في ذلك وشددوا النكير عليه حتى إنَّ اللالكائي نقل عن علي بن المديني ومن أدركه من السلف طعنهم فيمن يغلو في أبي حنيفة ويتبعه في كل شئ.
وسبق عن الإمام الأوزاعي رحمه الله قوله: ((احتملنا أَبَا حنيفة على كل شيء حتى جاءنا بالسيف))، قال اللالكائي رحمه الله في اعتقاد المديني ومن أدركه من السلف: (وإذا رأيت الرجل يحب أبا حنيفة ورأيه والنظر فيه فلا تطمئن إليه وإلى من يذهب مذهبه ممن يغلو في أمره ويتخذه إماماً) [6].
ويحمل كلام ابن المديني السابق على من يأخذ بقول الإمام أبي حنيفة في المسائل التي قد تكون خلاف النص مع العلم بأن الإمام لا يتعمد مخالفة النص، كقوله بجواز الخروج على السلطان لمجرد الظلم والفسق إذا صحت نسبته إليه، ونحو ذلك مما قد يكون فيه مخالفة لما استقر فيه قول أهل السنة على ما جاءت به السنة، مما أصبح من المسائل الظاهرة التي يبدَّع مخالفها.
وذلك لأن الطعن في إمامة أبي حنيفة رحمه الله تعالى يُخالف ما أجمعت عليه الأمة من فضله وإمامته، ولا يجوز بعد إجماع الأمة على إمامته وفضله اعتبار قول من طعن في شئ من ذلك من السلف.
وقد قرَّر الإمام أبو جعفر الطحاوي الحنفي رحمه الله أنَّ المذهب عدم جواز الخروج على حاكم الظلم، واختار هذا القول في بيان معتقد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن، حيث قال: (ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا. ولا ندعو عليهم. ولا ننزع يداً من طاعتهم. ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية. وندعو لهم بالصلاح والمعافاة) [7].
ذهب بعض إلى أنَّ ما حكاه الطحاوي عن مذهب الإمام أبي حنيفة رحمهما الله تعالى هو ما رجع إليه الإمام آخر حياته، وأن مذهب أهل السنة استقر على عدم جواز الخروج على الأئمة، قال الكمال بن الهمام رحمه الله: (وإذا قلد عدلاً ثم جار وفسق لا ينعزل، ولكن يستحب العزل إن لم يستلزم فتنة. يجب أن يدعى له. ولا يجب الخروج عليه. كذا عن أبي حنيفة. وكلمتهم قاطبة) [8].
قول الكمال بن الهمام رحمه الله تعالى: "وكلمتهم قاطبة"، فيه دلالة على إجماع الأحناف على عدم وجوب الخروج على الإمام الظالم الفاسق فسقاً دون ترك الصلاة والدعوة إليها، وعلى استحباب عزله إن لم يؤد عزله إلى فتنة، والعزل والخلع يكون من أهل الشوكة والحل والعقد بينما الخروج هو من العامة بالثورة أو بالقتال.
وقد ادعى بعض أن مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى هو جواز الخروج بنقل من كتب التاريخ ومن كتاب أحكام القرآن لابن العربي المالكي رحمه الله تعالى، فأما ما نقلوه من كتب التاريخ فأصله من تاريخ الأمم والملوك للطبري رحمه الله تعالى، ونقله عن الطبري غيره ممن كتب في التاريخ كابن كثير رحمه الله تعالى في البداية والنهاية.
والقول المنسوب إلى الإمام مالك رحمه الله تعالى هو أنه استُفتي في الخروج مع محمد بن عبد الله بن حسن وقيل له إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر، فقال: (إنما كنتم مكرهين وليس لمكره بيعة، فبايعه الناس عند ذلك عن قول مالك، ولزم مالك بيته) [9].
الرواية فيها مجاهيل، فيحتمل أن الراوي وهم، فقد يكون الاستفتاء في حُكم القتال مع الإمام الظالم على من خرج عليه، يدل على ذلك ما يلي من كلام ابن العربي المالكي رحمه الله، ويؤكد ذلك نقل أئمة المالكية عن الإمام مالك القول بالأمر بالسمع والطاعة لأئمة الجور.
واستدلوا بكلام ابن العربي رحمه الله: (قال علماؤنا في رواية سحنون: إنما يقاتل مع الإمام العدل سواء كان الأول أو الخارج عليه; فإن لم يكونا عدلين فأمسك عنهما إلا أن تراد بنفسك أو مالك أو ظلم المسلمين فادفع ذلك) [10].
كلام ابن العربي ليس في الخروج على السلطان الظالم، بل هو في حُكم قتال الفئة الباغية مع الإمام سواءٌ كان مختاراً أو متغلباً بالخروج، فأجاز قتال الطائفة الباغية مع الأول والثاني إذا كانا عدلين، ومنعها إذا كانا ظالمين.
فابن العربي تحدث عن هذا في سياق حديثه عن معنى الفئة الباغية، فقوله: (سواءٌ كان الأول أو الخارج عليه) هو عن الإمام، فحذف من يقالته الإمام وهي الفئة الباغية لمعلوميتها من السياق، ومعنى قوله هو؛ أن الإمام إذا كان مختاراً أو متغلباً بالخروج فإنه لا تُقاتل معه الفئة الباغية إلا إذا كان عدلاً، فمعنى (الأول) هو الإمام المختار،  و(الخارج عليه) هو الإمام المتغلب بالخروج على الأول.
يؤكد ذلك قوله بعد ذلك في المصدر السابق: (وقد روى ابن القاسم، عن مالك: إذا خرج على الإمام العدل خارج وجب الدفع عنه، مثل عمر بن عبد العزيز، فأما غيره فدعه ينتقم الله من ظالم بمثله ثم ينتقم من كليهما)، ثم قوله: (قال مالك: ولا بد من إمام بر أو فاجر)، وكذا أقوال أئمة المالكية في تحريم الخروج على أئمة الجور، وأنه مذهب أهل السنة، وأن القول بخلافه ضلال وبدعة وقول أهل البدع، ونسبتهم القول بتحريمه إلى الإمام مالك رحمه الله.
أذكر من ذلك قول يحيى بن يحيى المالكي تلميذ الإمام مالك رحمهما الله تعالى وراوي الموطأ كما رواه عنه الشاطبي المالكي رحمه الله: (قيل ليحيى بن يحيى: البيعة مكروهة؟ قال: لا. قيل له: فإن كانوا أئمة جور؟ فقال: قد بايع ابن عمر لعبد الملك بن مروان، وبالسيف أخذ الملك. أخبرني بذلك مالك عنه أنه كتب إليه وأمر له بالسمع والطاعة على كتاب الله وسنة نبيه) [11].
ومن ذلك قول ابن عبد البر رحمه الله تعالى: (وإلى منازعة الظالم الجائر، ذهبت طوائف من المعتزلة وعامة الخوارج. وأما أهل الحق، وهم أهل السنة، فقالوا: هذا هو الاختيار أن يكون الإمام فاضلاً عدلاً محسناً، فإن لم يكن، فالصبر على طاعة الجائرين من الأئمة أولى من الخروج عليه; لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، ولأن ذلك يحمل على هراق الدماء، وشن الغارات، والفساد في الأرض، وذلك أعظم من الصبر على جوره وفسقه) [12].
وقول ابن عبد البر (أولى) ليس مقارنة بين فاضل ومفضول، بل بين محرم وواجب، لبيانه ما يترتب على الخروج من إراقة الدماء وشن الغارات والفساد في الأرض، وكل ذلك من المحرمات، وقد بين أن هذا قول أهل السنة، وأن القول بخلافه هو مذهب أهل البدع.
وكذا قول ابن بطال: (طاعته خيرٌ من الخروج عليه)، ليس فيه مفاضلة بين فاضل ومفضول، فقد نص على وجوب لزوم الطاعة بقوله قبل ذلك: (وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه) [13].
ومن ذلك قول ابن أبي زيد القيرواني المالكي رحمه الله: (فصل فيما اجتمعت عليه الأمور من أمور الديانة ومن السنن التي خلافها بدعة وضلالة ....
إلى قوله: والسمع والطاعة لأئمة المسلمين وكل من ولي أمر المسلمين عن رضى أو عن غلبة واشتدت وطأته من بر أو فاجر فلا يخرج عليه جار أو عدل...
إلى قوله: وكل ما قدمنا ذكره فهو قول أهل السنة وأئمة الناس في الفقه والحديث على ما بيناه، وكله قول مالك فمنه منصوص من قوله ومنه معلوم من مذهبه) [14].
وأما نفي ابن حزم رحمه الله الإجماع في المسألة فإنه لا يعتد به بعد ثبوته بقرون قبله، ولم يذكر ابن حزم الأئمة المعروفين الذين نقلوا الإجماع، وإنما ذكر ابن مجاهد البصري المتكلم الطائي، ثم ذكر الخلاف القديم في المسألة الذي وقع الإجماع بعده على تحريم الخروج على أئمة الجور والفسق، وزعم أنه ناقض يدل على بطلان ادعاء الإجماع، وليس الأمر كما قال، ويرجى في هذا الرجوع إلى مبحث "مسألة الإجماع بعد خلاف".
وأما قول ابن حزم رحمه الله تعالى: (أمره عليه السلام بالصبر على أخذ المال وضرب الظهر، فإنما ذلك بلا شك إذا تولى الإمام ذلك بحق) [15] فبعيد جداً، سواءٌ كان من ناحية التركيب واستعماله في اللغة؛ (أخذ مالك) أو من سياق الحديث؛ (وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع)، أو من مجموع النصوص، بل هو بلا شك في أخذ المال وضرب الظهر بغير حق.
والأمر بلزوم السمع والطاعة لا يستلزم الصبر على أخذ المال وضرب الظهر بغير حق، لما تقدم من قول بعضهم بوجوب إنكار منكر السلطان باليد عند القدرة من غير منازعته الأمر ولا نزع يدٍ من طاعته.
وعلى هذا فلا تعارض بين الحديث وقول الله تعالى ذكرُهُ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، خلافاً لدعوى ابن حزم رحمه الله، إذ ليس في ذلك رضىً بهذا المنكر، بل لو أنكر بلسانه وقلبه فقط لما كان مخالفاً للآية.
وأما قول ابن حزم رحمه الله بأن القول بتخصيص آية قتال البغاة قول بلا علم فخطأ لأنه قول بمقتضى النصوص، فآية قتال البغاة عامة، وأحاديث النهي عن الخروج خاصة بمن استتب له الأمر من السلاطين، وكذا الآيات والأحاديث التي ذكرها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أعم من النهي عن الخروج.
وأما قول ابن حزم: (فلو كان خوف ما ذكروا مانعاً من تغيير المنكر ومن الأمر بالمعروف، لكان هذا بعينه مانعاً من جهاد أهل الحرب، وهذا ما لا يقوله مسلم، وإن أدى ذلك إلى سبي النصارى نساء المسلمين وأولادهم، وأخذ أموالهم، وسفك دمائهم، وهتك حريمهم)[16]، فقياس اقتتال مسلمين على قتال أهل الحرب قياس مع الفارق.
وذلك لأن الأصل في الكفار حل دمائهم وأموالهم وأعراضهم، بخلاف المسلمين، واقتتال المسلمين فيما بينهم فيه إضعاف أهل الإسلام وإغراء للأعداء بهم.
ولا يصح قوله: (ويقال لهم ما تقولون في سلطان جعل اليهود أصحاب أمره، والنصارى جنده، وألزم المسلمين الجزية، وحمل السيف على أطفال المسلمين، وأباح المسلمات للزنا، وحمل السيف على كل من وجد من المسلمين، وملك نساءهم وأطفالهم، وأعلن العبث بهم، وهو في كل ذلك مقر بالإسلام، معلن به، لا يدع الصلاة؟)[17].
فلا يكمن تصور ما ذكره وما بعده في سلطان يحرس أصل الدين، وسيأتي إن شاء الله تعالى أنه لا يكفي الإقرار بالإسلام في نفسه ولا إقامة الصلاة لنفسه وإنما بإقامة ذلك في سلطانه.
ويقال مثلما سبق في سؤاله عن سلطان قتل تسعة أعشار المسلمين إلا واحداً، يضاف إليه أن المسلمين لو كانوا غالب رعايا السلطان فإنه لا يتصور عقلاً أن يحدث مثل هذا من سلطان، وأما إنقاصه العدد إلى واحد ثم قوله بأن التفريق بين ذلك تناقض فلا يصح، وأما مجرد إنكار ذلك؛ فليس خروجاً ولا منازعةً ولا نقض بيعةٍ حتى ولو كان الإنكار باليد كما سبق.
وأما قوله: (ونسألهم عمن غصب سلطانه الجائر الفاجر زوجته، وابنته، وابنه، ليفسق بهم، أو ليفسق به بنفسه، أهو في سعة من إسلام نفسه، وامرأته، وولده، وابنته، للفاحشة، أم فرض عليه أن يدفع من أراد ذلك منهم؟
فإن قالوا: فرض عليه إسلام نفسه وأهله، أتوا بعظيمة لا يقولها مسلم. وإن قالوا: بل فرض عليه أن يمتنع من ذلك ويقاتل رجعوا إلى الحق، ولزم ذلك كل مسلم في كل مسلم وفي المال كذلك‏)[18]، فهذا ليس في منازعة السلطان الأمر ولا نقض البيعة، وإنما في إنكار منكر السلطان باليد.
فكما تقدم فإنَّ النهي الوارد ليس عن مقاومة جلد الظهر وسلب المال، وإنما هو عن نزع يد الطاعة بسبب جلد الظهر وسلب المال، فكذلك مقاومة سلطان أراد أن يفسق بحرم رجل واجب، وهذا لا يعني منازعة السلطان سلطانه، وإنما مقاومة تعديه على غيره.
ولزوم ذلك كل مسلم في كل مسلم وفي المال هو أيضاً من إنكار منكر السلطان باليد، وليس في الخروج عليه ولا نزع يدٍ من طاعته، ولا شك في وجوب إنكار مثل هذا المُنكر باليد.
وإطلاق القول بأنه لا بيعة لحكام اليوم يعد من الأخطاء البينة، لأن مستند هذا القول هو أنهم لا يحكمون كل الأقاليم المسلمة، ولا يخفى ما في هذه الحجة من وهن وضعف ومخالفة للسنن الكونية، هذا مع ما قد يكون فيها من مخالفة إجماع السابقين على بيعة من تغلب على بعض الأقاليم دون أخرى.
فإن مُلك المسلمين قد حدثت فيه انقسامات منذ القرن الأول، ومع ذلك أجمع علماء أهل السنة عند وجود انقسامات على أن لكل سلطان بيعة وطاعة فيما تغلب عليه من أجزاء بلاد المسلمين.
يحتج البعض على عدم وجوب بيعة الحكام المعاصرين بامتناع ابن عمر رضي الله عنه عن البيعة وقت الاختلاف واشتراطه الإجماع، قال ابن حجر رحمه الله تعالى: (وكان عبد الله بن عمر في تلك المدة امتنع أن يبايع لابن الزبير أو لعبد الملك، كما كان امتنع أن يبايع لعلي أو معاوية، ثم بايع لمعاوية لما اصطلح مع الحسن بن علي واجتمع عليه الناس، وبايع لابنه يزيد بعد موت معاوية لاجتماع الناس عليه، ثم امتنع من المبايعة لأحد حال الاختلاف إلى ان قتل بن الزبير وانتظم الملك كله لعبد الملك فبايع له حينئذ) [19].
والجواب عن فعل ابن عمر رضي الله عنهما من ثلاثة وجوه، وهي؛ 
الوجه الأول؛ كان حكام الأقاليم يتنازعون الإمامة العظمى، وقد وقع الخلاف بين الناس بمن فيهم أهل الشوكة ورؤوسهم، فالشوكة تعني القوة والبأس والسلاح، فأهل الشوكة هم أهل القوة والبأس وحملة السلاح، وقد كان حملة السلاح في ذلك العهد كل الرجال، ففي مثل هذه الحال تكون البيعة عند الاختلاف فتنة، ولهذا كان من فقه ابن عمر رضي الله عنه أنه لم يبايع إلا عند اجتماع الكلمة.
الوجه الثاني؛ أن ابن عمر رضي الله عنهما اعتزل الفتنة، فلم يبايع ولم يقاتل مع طرف ولم يدعُ لقتال ولا ثورة.
الوجه الثالث؛ لو سلمنا أن فعل ابن عمر لمجرد عدم وجود إمام واحد لكل الأقاليم، فإن الإجماع قد انعقد بعده على وجوب بيعة من تغلب على بعض أجزاء بلاد المُسلمين، والصحيح ما ذكر في الوجه الأول، ويؤكد أن فعل ابن عمر هو خشية الفتنة والحرص على وحدة الكلمة هو أنه اعتزل الفتنة والقتال.
ورؤوس الناس كانوا معروفين في القرون الأولى، ولذا اشترط علي رضي الله حضور جميع أهل بدر، لأنهم كانوا رؤوس الناس وممثليهم.
قائمة المراجع
[1] صحيح ابن حبان - مخرجاً (ج1/ص403)، تحقيق؛ شعيب الأرنؤوط، الناشر؛ مؤسسة الرسالة - بيروت الطبعة الثانية، 1414 – 1993م.
[2] جامع العلوم والحكم (ج2/ص248-249)، شعيب الأرناؤوط - إبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة السابعة، 1422هـ -2001م.
[3] مسائل أحمد لأبي داود السجستاني ص 419، رقم 1950، مكتبة ابن تيمية، مصر، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999م.
[4] مجموع الفتاوى (ج28/ص129)، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416هـ/1995م.
[5] أحكام القرآن للجصاص (ج1/ص85)، تحقيق؛ عبد السلام محمد علي شاهين، دار الكتب العلمية بيروت، لبنان، الطبعة الأولى.
[6] شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللاكائي (ج1/ص185)، تحقيق؛ أحمد بن سعد الغامدي، دار طيبة، السعودية، الطبعة الثامنة.
[7] متن الطحاوية بتعليق الألباني (ص69)، شرح وتعليق؛ محمد ناصر الدين الألباني الناشر: المكتب الإسلامي - بيروت الطبعة: الثانية، 1414هـ.
[8] رد المحتار على الدر المختار (ج1/ص549)، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية.
[9] البداية والنهاية (ج13/ص357)، تحقيق؛ عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى.
[10] أحكام القرآن (ج4/ص153)، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة.
[11] الاعتصام (ج2/ص626)، تحقيق؛ سليم بن عيد الهلالي، دار ابن عفان، السعودية، الطبعة الأولى.
[12] التمهيد (ج23/ص279)، تحقيق؛ العلوي والبكري، وزارة الأوقاف، المغرب، 1387هـ.
[13] فتح الباري (ج13/ص7)، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ.
[14]الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ (ص107)، المؤلف؛ أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني (المتوفى 386 هـ)، حققه وقدم له وعلق عليه؛ محمد أبو الأجفان - عثمان بطيخ، الناشر؛ مؤسسة الرسالة، بيروت - المكتبة العتيقة، تونس. الطبعة: الثانية، 1403هـ - 1983م.
[15] الفصل في الملل والأهواء والنحل (ج4/ص133)، الناشر؛ مكتبة الخانجي – القاهرة.
[16] الفصل في الملل والأهواء والنحل (ج4/ص134)، الطبعة السابقة.
[17] الفصل في الملل والأهواء والنحل (ج4/ص134)، الطبعة السابقة.
[18] الفصل في الملل والأهواء والنحل (ج4/ص135)، الناشر؛ الطبعة السابقة.
[19] الفصل في الملل والأهواء والنحل (ج4/ص135)، الناشر؛ مكتبة الخانجي – القاهرة.
pdf

منهج أهل السنة في الخروج على السلطان       المحتويات       التفريق بين الفسق الخفي والمعلن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق