التفريق بين الفسق الخفي والمعلن

ذهب بعض أهل العلم إلى جواز خلع السلطان من غير قتال ولا فتنة إذا كان فسقه معلناً مفسداً للرعية وهو الفسق الظاهر المعلوم، وهؤلاء خصصوا عموم النصوص التي نهت عن منازعة الفسقة بحديث اشتراط الفسق الظاهر المعلوم لمنازعتهم على ما تأوَّلوه، وكثيرٌ ممن قال ذلك يفرق بين الخلع والخروج، فالخلع والعزل هو ما كان من أهل الشوكة ونحوهم دون حرب، وذلك لقولهم؛ بلا فتنة وحرب ونحو ذلك.
فقد تأول من أجاز خلع السلطان بالفسق الظاهر المعلوم الكفر البواح بكفر دون كفر في حديث؛ (وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم فيه من الله برهان).
وذلك لأن الأرجح في معنى البواح هو الصريح المُعلن، فيشمل المعنيين الواردين عن أهل العلم، من باح الشيء إذا ظهر ووضح، وباح بالسر إذا أفشاه وأظهره، والصريح هو البيِّن الذي لا يحتمل التأويل، وعندكم فيه من الله برهان تعني الذي فيه نصوص صريحة لا يُختلف في معناها.
فالكفر هنا هو الأكبر لوصفه بالصريح البين، وليس كل من حمل الكفر في هذا الحديث على الأصغر أجاز الخلع بالفسق الظاهر المعلوم، فقد تأول بعضهم المنازعة في الحديث بإنكار منكرات السلطان.
ولا يصح القول بجواز الخلع بالفسق الظاهر المعلوم بدلالة النصوص، ومن ذلك النهي عن الخروج على الظلمة، والظلم فسق ظاهر معلوم، ولعدم صحة تأويلهم الكفر في حديث "كفراً بواحاً" بالأصغر كما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى.
مما يدل على أن الفسق المانع من نزع يد الطاعة يشمل الظاهر المعلوم، قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة رضي الله عنه؛ (ويستنون بغير سنتي)، ووجه الدلالة هو أن السنة تعني الطريقة، وإنما تطلق السنة على ما ظهر وأعلن، كما في حديث سنة الخلفاء الراشدين.
ونص رواية مسلم هي؛ (يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع)، أخرجه مسلم  (1847). [1].
وهو ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأموراً تنكرونها) لقوله "سترون"، وللعموم الوارد في الحديث. فقوله صلى الله عليه وسلم "سترون" فيه دلالة على ظهور المعاصي والفسق من السلطان وإعلانها. جاء في صحيح البخاري عن زيد بن وهب سمعت عبد الله قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها. قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم)، أخرجه البخاري (7052). [2].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في شرحه للحديث السابق: ((قوله: وأموراً تنكرونها؛ يعني من أمور الدين))، المصدر السابق، ويدخل في الأمور المنكرة تعطيل بعض الواجبات وإظهار بعض المنكرات من المعاصي والبدع، وليس في الحديث دليل على أن الأمور المنكرة ما يفعله سراً ويعود ضررها على خاصة نفسه، للعموم الوارد في الحديث، ولأن الحديث فيه مخاطبة للناس بأنهم سيرون هذه الأمور المنكرة مما يدل على أنها معلنة.
نسب القرطبي رحمه الله تعالى القول بجواز الخلع بالفسق الظاهر المعلوم إلى جمهور الشافعية، وإنما نسب القُرطبي إلى الجمهور القول بجواز الخلع والعزل من غير قتال لا القول بجواز الخروج، بدليل أنه نسب القول بعدم جواز الخروج إلى أكثر أهل العلم، بل نسب القول بجواز الخروج إلى أهل البدع من المعتزلة والخوارج.
قال القرطبي رحمه الله في جواز خلع السلطان بالفسق الظاهر المعلوم: (الإمام إذا نصب ثم فسق بعد انبرام العقد، فقال الجمهور: إنه تنفسخ إمامته ويخلع بالفسق الظاهر المعلوم.
لأنه قد ثبت أن الإمام إنما يقام لإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وحفظ أموال الأيتام والمجانين والنظر في أمورهم إلى غير ذلك مما تقدم ذكره، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الأمور والنهوض بها. فلو جوزنا أن يكون فاسقاً أدَّى إلى إبطال ما أقيم لأجله، ألا ترى في الابتداء إنما لم يجز أن يعقد للفاسق لأجل أنه يؤدي إلى إبطال ما أقيم له، وكذلك هذا مثله.
وقال آخرون: لا ينخلع إلا بالكفر أو بترك إقامة الصلاة أو الترك إلى دعائها أو شيء من الشريعة، لقوله عليه السلام في حديث عبادة: ألا ننازع الأمر أهله. قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان.
وفي حديث عوف بن مالك: لا ما أقاموا فيكم الصلاة. الحديث. أخرجهما مسلم. وعن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع. قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلوا. أي من كره بقلبه وأنكر بقلبه. أخرجه أيضاً مسلم) [3].
وقال القرطبي رحمه الله تعالى في تحريم الخروج على أئمة الظلم والفسق: (استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على أن الإمام يكون من أهل العدل والإحسان والفضل مع القوة على القيام بذلك، وهو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا ينازعوا الأمر أهله، على ما تقدم من القول فيه.
فأما أهل الفسوق والجور والظلم فليسوا له بأهل، لقوله تعالى: لا ينال عهدي الظالمين، ولهذا خرج ابن الزبير والحسين بن علي رضي الله عنهم، وخرج خيار أهل العراق وعلماؤهم على الحجاج، وأخرج أهل المدينة بني أمية وقاموا عليهم، فكانت الحرة التي أوقعها بهم مسلم بن عقبة.
والذي عليه الأكثر من العلماء أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه؛ لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء، وشن الغارات على المسلمين، والفساد في الأرض. والأول مذهب طائفة من المعتزلة، وهو مذهب الخوارج، فاعلمه) [4].
وممن حمل الحديث على المعاصي الظاهرة المعلومة الحافظ النووي رحمه الله، ولكنه مع ذلك لا يجيز الخروج بمجرَّد الفسق الظاهر المعلوم، وقد تأوَّل المنازعة هنا بالإنكار عليهم، فقال في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم فيه من الله برهان)؛ (ومعناهما؛ كفراً ظاهراً، والمراد بالكفر هنا المعاصي، ومعنى عندكم من الله فيه برهان، أي؛ تعلمونه من دين الله تعالى. ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحق حيث ما كنتم. وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين) [5].
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: (ووقع في رواية حيان أبي النضر المذكورة: إلا أن يكون معصية لله بواحاً. وعند أحمد من طريق عمير بن هانئ عن جنادة: ما لم يأمروك بإثم بواحاً) [6].
حمل رواية الكفر على المعصية بعيد لأنه يفضي إلى ترك العمل بأحاديث تنهى عن نقض البيعة ونزع اليد من الطاعة على السلطان ومنازعته الأمر مع وجود المعصية الظاهرة المعلومة، ولأنَّ تأويل المنازعة بالإنكار عليهم بعيد لغةً، فلابد إذن من تأويل رواية "معصية" ورواية "إثم"، أو ترجيح رواية "كفراً بواحاً" على رواية "معصية لله بوحاً" ورواية "إثم بواح" لكونها في الصحيحين، وبعض روايات "معصية لله بواحاً" ليس فيها "منازعة الأمر أهله" فتفسَّر بعدم جواز طاعتهم في معصية الله كما هو عند ابن حبَّان.
ولهذا ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى تأويل النووي لمعنى المنازعة في رواية "كفراً بواحاً"، وتأويل غيره لمعنى "معصية".
وأما ابن حجر فقد أول "الأمر" في رواية "كفراً بواحاً" بالولاية، وفي رواية "معصية لله بواحاً" على ما عدا الولاية من المنكرات ونحوها حيث قال: (قال النووي: المراد بالكفر هنا المعصية. ومعنى الحديث؛ لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم، إلا أن تروا منهم منكراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام. فإذا رأيتم ذلك فأنكروا عليهم وقولوا بالحق حيثما كنتم. انتهى. وقال غيره: المراد بالإثم هنا المعصية والكفر، فلا يعترض على السلطان إلا إذا وقع في الكفر الظاهر. والذي يظهر حمل رواية الكفر على ما إذا كانت المنازعة في الولاية، فلا ينازعه بما يقدح في الولاية إلا إذا ارتكب الكفر. وحمل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية. فإذا لم يقدح في الولاية نازعه في المعصية بأن ينكر عليه برفق ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف. ومحل ذلك إذا كان قادراً والله أعلم) [7].

المراجع

[1] صحيح مسلم، تحقيق؛ محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
[2] صحيح البخاري، تحقيق؛ محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، الطبعة الأولى، 1422هـ.
[3] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (ج1/ص271)؛ [البقرة : 30]، تحقيق؛ أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، الناشر؛ دار الكتب المصرية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1384هـ - 1964م.
[4] الجامع لأحكام القرآن (ج2/ص108-109)؛ [البقرة : 124]، الطبعة السابقة.
[5] شرح النووي على مسلم  (ج12/ص229)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية.
[6] فتح الباري شرح صحيح البخاري (ج13/ص8)، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ.
[7] فتح الباري شرح صحيح البخاري (ج13/ص8)، الطبعة السابقة.
pdf
الرد على من نفى ثبوت الإجماع       المحتويات     الحُكم بغير ما أنزل الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق