الموصوف في الذمّة والمحوز

الرّاجح في الفرق بين الموصوف في الذمّة وما لم يقبض هو في اشتراط الحاجة العامّة الشائعة لجواز الموصوف في الذمّة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حيازة المبيع شرط لصحّة البيع عند انعدام الحاجة العامّة الشائعة لبيعه بدونه.
لأنّ بيع ما لم تتم حيازته محرّم سداً لذريعة الغرر والضرار.
وبيع السلم هو بيع موصوف في الذمّة فيه مصلحة حاجيّة عامّة شائعة، وذلك لما فيه من رفق بالبائع والمشتري بسبب الأجل.
فلجواز بيع السلم بالنصوص والإجماع لم يشترط بعض العلماء حيازة المبيع.
وبعض هؤلاء فسّروا الحديث المتفق عليه (لا تبع ما ليس عندك) بما فيه غرر، فقال بعضهم نهي عن بيع الأعيان قبل قبضها، وقال آخرون نهي عن وصف مشكوك في القدرة عليه.
وذهب بعضهم إلى أنّ النهي عن بيع ما لم يقبض مخصوص بالربويات، ومنهم من خصّه بالطعام مكيلاً كان أو موزوناً.
ومن العلماء من خصّ النهي عن بيع ما لم يقبض بالحال من الموصوف في الذمّة، وخصّ الجواز بالسلم المؤجّل، ونسب هذا القول للإمامين أحمد والشافعي رحمهما الله.
والرّاجح في الفرق بين بيع السلم وبيع ما لم تتم حيازته هو في الحاجة العامّة الشائعة.
فالرّاجح في حديث (لا تبع ما ليس عندك) أنّه على ظاهره في النهي عن بيع كل ما لم يقبض وإن غلب على الظن القدرة على الحصول عليه ما دام أنّ بيعه بدون حاجة عامّة ولا احتياج خاص.
وأصرح رواياته في هذا المعنى ما رواه أصحاب السنن وصححه الألباني في إرواء الغليل؛ عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله ﷺ فقلت يأتيني الرجل يسألني من البيع ما ليس عندي أبتاع له من السوق ثمّ أبيعه؟ قال لا تبع ما ليس عندك).
فهذا صريح في أنّ ما سأل عنه ليس فيه غرر وشك في الحصول عليه، لقوله: (أبتاع له من السوق ثمّ أبيعه؟)، وثمّ للترتيب والتراخي.
وليس هو بيع عين لم تقبض، لقوله: (يسألني من البيع ما ليس عندي) فهو في المعيّن بوصفه لا بعينه.
فدلّ هذا مع جواز بيع السلم على أنّ النهي عن بيع ما لم يقبض خاص بما ليس فيه مصلحة حاجيّة عامّة من الموصوف في الذمة.
وكلّ موصوف في الذمّة كبيع السلم إذا ماثله في وجود حاجة عامّة إليه، كنقله للمشتري.
وأمّا بيع ما لم يقبض بالطريقة التي في الحديث فليس فيه منفعة، وقد يفوّت مصلحة اطّلاع المشترين على محلات الباعة الآخرين، وقد يؤدي إلى الغرر، ولذا حرّم سداً للذريعة.
ومما يدلّ على أثر الحاجة العامّة الشائعة في حكم المحرّم لغيره؛ بيع العرايا المستثنى استثناءاً عاماً من ربا البيوع.
فربا البيوع محرّم لغيره إذا لم يكن ربا قروض، فبينهما تداخل [١].
والمحرّم لغيره يجوز للاحتياج، فإذا كانت الحاجة لأمرٍ عامّةً شائعةً، فإنّه لا يدخل في المحرّم لغيره.
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما (أنّ النبيّ ﷺ نهى عن المُزابَنَةِ) [٢]، وعن زيد بن ثابتٍ رضي الله عنه: (أنّ النبيّ ﷺ رخّص في العَرايا بخَرْصِها) [٣].
المزابنة؛ بيع الرطب بالتمر اليابس.
العرايا؛ بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر اليابس.
وهذا مما يدلّ على قاعدة؛ إذا ضاق الأمر اتّسع، وإذا اتّسع ضاق، وقاعدة البلوى العامّة، وهذه المسألة من صورها إضافةً إلى؛ تنزيل الاحتياج العام منزلة الاضطرار الخاص [٤].
وبيع عينٍ قبل قبضها دون إخبار المشتري غرر، يتردّد ضمان المبيع فيه بين ضمان وصفه وضمان عينه إذا تلفت، وهذا قد يوقع العداوة والبغضاء.
وهو ما ينطبق عليه قول ابن القيّم في حكمة المنع بعلّة الغرر (بيع عينٍ قبل قبضها)، ولكن لا يصح أنّها علّة النهي، فالنهي عن بيع موصوف في الذمّة بدون حاجة عامّة لسد ذريعة الغرر لا لوجوده وانعدام الضمان.
قال ابن القيّم رحمه الله: (وقد ظنّ طائفة أنّ السلم مخصوص من عموم هذا الحديث، فإنّه بيع ما ليس عنده، وليس كما ظنوه، فإنّ الحديث إنّما تناول بيع الأعيان، وأما السلم فعقدٌ على ما في الذمّة.
وما في الذمّة مضمون مستقرّ فيها، وبيع ما ليس عنده إنّما نهي عنه لكونه غير مضمون عليه ولا ثابت في ذمّته، ولا في يده، فالمبيع لا بدّ أن يكون ثابتاً في ذمّة المشتري أو في يده، وبيع ما ليس عنده ليس بواحد منهما، فالحديث باقٍ على عمومه) [٥].
وفي رواية أصحاب السنن للحديث ما ينفي هذا العموم، فظاهرها أنّها في بيع موصوف في الذمّة بدون حاجة عامّة ولا احتياج خاص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ونهي النبي ﷺ حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده: إمّا أن يراد به بيع عين معينة فيكون قد باع مال الغير قبل أن يشتريه وفيه نظر) [٦].
فابن القيم رحمه الله لا يشترط الحيازة، ويرى أنّ معنى (ما ليس عندك) ما فيه غرر (بيع عين قبل قبضها).
فقد قال: (وأما قوله ﷺ: «ولا تبع ما ليس عندك» فمطابق لنهيه ﷺ عن بيع الغرر، لأنّه إذا باع ما ليس عنده فليس على ثقة من حصوله، بل قد يحصل له وقد لا يحصل، فيكون غرراً، كبيع الآبق والشارد والطير في الهواء، وما تحمل ناقته ونحوه) [٧].
وكذا يرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عدم اشتراط الحيازة، ولكنه يرى أنّ حديث (لا تبع ما ليس عندك) في المشكوك في القدرة عليه وإن كان وصفاً، وهذا أيضاً بعيد عن لفظ الحديث.
ولذا يرى الإمام أحمد رحمه الله أنّ النهي عن بيع ما لم يقبض نهي عن بيع الموصوف في الذمّة، فهذا هو ظاهر الحديث، وأنّ بيع السلم موصوف في الذمّة آجل، وأنّ السلم الحال غير جائز.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولهذا صار أحمد بن حنبل وطائفة إلى القول الثاني، فقالوا: الحديث على عمومه يقتضي النهي عن بيع ما في الذمّة إذا لم يكن عنده، وهو يتناول النهي عن السلم إذا لم يكن عنده، لكن جاءت الأحاديث في جواز السلم المؤجّل، فبقي هذا في السلم الحال) [٨].
والفرق بين السلم الحال الذي في حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه والسلم المؤجّل هو المصلحة العامّة، فالأجل فيه رفق بالبائع والمشتري.
ويرد على التعليل بالحال والمؤجّل أنّه غير مناسب، ومن شروط العلل أن تكون مناسبة، ومعناه أن تكون متضمنة للمقاصد والحكم، بل الحال أولى بالجواز من المؤجّل.
فبيع السلم موصوف في الذمّة فارق ما لم يقبض بالحاجة العامّة، لا بكون ما لم يقبض عيناً، ولا للشك في تحصيله وصفاً كان أو عيناً، وذلك لحديث (لا تبع ما ليس عندك) لا سيّما رواية أصحاب السنن.
والتعليل الحادث لا يخالف الإجماع ما لم يحدث قولاً يخالف ما أجمعت عليه الأقوال.
فليس في التعليل بالمصلحة العامّة إحداث لقول، فهو موافق لقول من أجاز الموصوف في الذمّة المؤجّل، وموافق لقول من منع بيع ما لم يقبض من وجه ولمن أجازه من وجه [٩].
ومن الصور الحديثة للحاجة العامّة لبيع ما لم يقبض؛ المتاجر الإلكترونية التي فيها عون لمن لا يجد وقتاً لإدارتها من البائعين والصنّاع، لما فيها من ترويج لسلعهم وإعانتهم على بيعها.
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله.
لوند، السويد.
الخميس ٢٩ ربيع الثاني ١٤٤٦هـ،  ٣١ أكتوبر ٢٠٢٤م.

مصادر ومراجع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق