لا إيمان إلا بصلاح القلب، ولا كفر إلا بفساده

الكفر عند بعض الغلاة مجرَّد حركات ظاهرة لا علاقة لها بالباطن.
مما يذكرونه لتقعيد هذا الأصل الفاسد؛ السجود للصنم لأجل مال أو اعتناق النصرانية لأجل مال.
وجواب ذلك هو؛ أنَّ من فعل ذلك فقد قدم حب الدنيا والمال على حبِّ اللّه تعالى ذكرُهُ، قال اللّه تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ  ۖ  وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (195)}[1].
فأعمال القلوب ليست محصورة في التصديق والتكذيب، فمنها؛ المحبة والبغض، والرضا والإباء، والصدق والنفاق، والتعظيم والاستهانة، والاطمئنان والشك، وانقياد القلب وإعراضه، وخضوع القلب واستكباره.
فالتلازم بين الظاهر والباطن من البدهيات العقليَّة والضرورات الشرعيَّة، فمن أتى بكفرٍ صريح مع انتفاء الموانع، فقد فسد باطنه أوَّلاً فأدَّى إلى فساد ظاهره.
قال اللَّه تعالى ذكرُهُ: { مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) }[2].
قال ابن تيمية رحمه اللهُ تعالى: (فإنّه من كفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدراً)[3].
وكذا سائر موانع التكفير، فمن كفر من غير مانع تكفير، فقد شرح بالكفر صدراً.
فالمكفرات الصريحة من أعمال الجوارح مع عدم الموانع هي دلالات على كفر الباطن.
والكفر المحتمل في ذاته يُسأل صاحبه عن دافعه القلبي، فلأن معاونة كفار على المُسلمين كفر محتمل في ذاته؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم لحاطب رضي الله عنه: (مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟).
وأما الكفر الصريح، فلا حاجة فيه للسؤال إلا على وجه التحقق من موانع التكفير الخمسة، وهي؛ الخطأ، والإكراه، والجهل، والتأويل أو الشبهة، وزوال العقل.
ومن الكفر الصريح في ذاته ما لا ترد عليه موانع الجهل والتأويل والشبهة كسب الله جل ثناؤه.
ومع القرائن قد لا يرد على الكفر الصريح في ذاته احتمال في غيره، فقد تدل القرائن كالغضب المعتاد في مسألة سب الله تعالى ذكره على انتفاء جميع موانع التكفير، فلا حاجة حينئذ للسؤال مطلقاً.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وما كان كفراً من الأعمال الظاهرة، كالسجود للأوثان، وسب الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك، فإنما ذلك لكونه مستلزماً لكفر الباطن، وإلا فلو قدر أنه سجد قدام وثن، ولم يقصد بقلبه السجود له، بل قصد السجود لله بقلبه لم يكن ذلك كفراً).[4].
والتلازم هنا هو التلازم الجلي البدهي، ولا يجوز التكفير باللازم الخفي ولا الجلي النسبي الذي قد يخفى على بعضٍ ويحتاج إلى نظر وتأمل، وهو المُراد بقاعدة لازم القول ليس بلازم حتى يلتزمه صاحبه.
قال ابن تيمة رحمه الله تعالى: (والظاهر تابع للباطن لازم له، متى صلح صلح الظاهر، وإذا فسد فسد)[5].
وقال: (ثم القلب هو الأصل، فإذا كان فيه معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلَّف البدن عما يريده القلب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ألا وإنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب)[6])[7].
كلا غلاة التكفير والمرجئة فصلوا بين الظاهر والباطن، كلٌ من جهة مختلفة عن الآخر معاكسة له، وكلا الطرفين مخالف للجبلة الفطرية والضرورة العقلية مع مخالفته للنُّصوص الشرعية، والحق وسط بين الطرفين.
فالمرجئة بطوائفهم المختلفة فصلوا بين الظاهر والباطن من الجهة المعاكسة للتكفيريين، إما فصلاً كلياً أو جزئياً بما يُخالف الشرع والعقل والفطرة.
فمذهب المرجئة هو عدم تأثير أعمال الجوارح فعلاً للمحظورات وتركاً للمأمورات في الإيمان، إما كل أعمال الجوارح فعلاً وتركاً، أو بعضها، وذلك باعتبار أن الإيمان كلٌ لا يزيد ولا ينقص مطلقاً أو جزئياً.
أما من ناحية المأمورات؛ فمن المرجئة من حصر الإيمان في معرفة القلب أو تصديقه، ومنهم من أدخل فيه غيرهما من أعمال القلوب ولكن مع إنكار صلتها بأعمال الجوارح، ومنهم من أدخل إقرار اللسان فقط في مسمى الإيمان وأخرج منه العمل، إما آحاد العمل كجزء من الإيمان مكمل له، أو جنس الأعمال كركن في الإيمان، وإخراج جنس العمل كركن في الإيمان هو مذهب مرجئة الفقهاء أيضاً.
وأما من ناحية المنهيات؛ فالمرجئة أخرجوا عمل المحظورات الظاهرة - كلها أو بعضها - عن مسمى الكفر أو الفسق أو ضعف الإيمان عموماً، ومن ذلك أنَّهم يرون أن من أتى كفراً صريحاً مع انتفاء موانع التكفير يمكن أن يكون مؤمناً في الباطن، إما كلياً أو في بعض المكفرات.
وإنَّ إبليس وفرعون وغيرهما من أهل الكفر إنما كفروا بعد تصديق القلب ومعرفته، بل لا يكون كفر من غير معرفة القلب وتصديقه.
وغلاة المرجئة زعموا أنّ الإنسان يُمكن أن يكون صحيح الإيمان في الباطن مهما أتى من أعمال مكفِّرة؛ كاعتناق اليهودية والنصرانية، وسب الرب سبحانه وتعالى، وقتل الرسل عليهم السلام، ومن غلاتهم من لا يفرق بين أقوى الناس وأضعفهم إيماناً.
وقد علم بالضرورة الشرعية والعقلية بطلان مذاهب المُرجئة البعيد منها عن الحق والأشد بعداً، سواءٌ في ترك المأمورات الباطنة، أو الظاهرة، أو في فعل المحظورات الباطنة أو الظاهرة.
فلأن الظاهر لا ينفصل عن الباطن إلا بموانع، ولأنه لا سبيل للنظر في الباطن؛ فإن التكفير منوط بأعمال ظاهرة مع توفُّر شروط وانتفاء موانع، لا بالنظر في الباطن.
أما الواجبات الظاهرة في منهج أهل السنة والجماعة؛ فقد أجمع أهل السنة على أن القول والعمل من الإيمان يزيد بهما وينقص، وأن القول الذي ينتفي الإيمان بانتفائه هو الشهادتان، وقرروا امتناع تصور الإيمان مع ترك جنس العمل، وهذا الامتناع العقلي ورد تحديده شرعاً بترك جنس الصلاة المفروضة.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب، وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع) [8].
وقال أيضاً: (فالعمل يصدق أن في القلب إيماناً، وإذا لم يكن عمل؛ كذب أن في قلبه إيماناً، لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم) [9].
ودل الشرع على أن جنس العمل الذي ينتفي الإيمان بانتفائه هو الصلاة المفروضة، فمن تركها بالكلية لا يسجد ولا يركع قط فهو كافر، بخلاف من يصلي أحياناً فإنه لا يكفر كفراً أكبر يخرجه عن الملة.
وعلى هذا يُحمل إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أنهم ما كانوا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة، فحمله على الكفر الأصغر بعيد جداً، وذلك لأن ترك غير الصلاة من الأعمال يصح أن يطلق عليه أنه كفر أصغر.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فإن الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل، كما دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه السلف، وعلى ما هو مقرر في موضعه، فالقول تصديق الرسول، والعمل تصديق القول، فإذا خلا العبد عن العمل بالكلية لم يكن مؤمناً، والقول الذي يصير به مؤمناً قول مخصوص وهو الشهادتان، فكذلك العمل هو الصلاة) [10].
ولما ورد عن السلف من لزوم عقلي على كفر تارك جنس العمل، وما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم من إجماع شرعي على كفر تارك جنس الصلاة المفروضة، يجب تأويل حديث؛ (لم يعملوا خيراً قط) فيمن يخرجهم الرحمن جل ثناؤه من النار؛ بمن لم يعمل خيراً قط على وجهه المأمور به؛ كمن لا يصلي إلا قليلاً ولا يعمل غيرها من الطاعات.
الدليل على أن من يترك الصلاة أحياناً ويصلي أحياناً ليس بكافر أنه تحت المشيئة، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خمسُ صلواتٍ كتبهنَّ اللهُ على العبادِ في اليومِ والليلةِ، من حافظ عليهنَّ: كان له عهدٌ عند اللهِ أن يُدْخِلَه الجنةَ، ومن لم يحافظ عليهنَّ: لم يكن له عهدٌ عند اللهِ، إن شاء عذَّبَه، وإن شاء غفرَ له) [11]، صححه الألباني في حكم تارك الصلاة (46).
والمُحافظة تعني الاستمرار على أدائها بشروطها.
ولا يجوز الحط ممن خالف من أهل السنة في مسألة ترك الأعمال بالكلية، فبعضهم خالف لفظاً لا معنىً لأنه قصد آحاد العمل لا جنسه، ومن خالف حقيقةً من مرجئة الفقهاء، فله استدلال بنصوص ونقل عن أئمة من السلف، كمسألة تارك الصلاة.
وما سبق لا يعني أنَّه لا يكفر إلا من علم أن فعله كفر، وإنما المقصود أنه لا كفر إلا بفساد القلب، فالآيات صريحة في أن الإنسان قد يكون كافراً مع تزيين عمله له.
قال الله عز وجل: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (104) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (105) أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}.

المصادر

[1] سورة البقرة، الآية رقم 165.
[2] سورة النحل، آية 106.
[3] مجموع الفتاوى (ج7/ص220)، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
[4] مجموع الفتاوى (ج14/ص120)، الطبعة السابقة.
[5] المصدر السابق.
[6] صحيح مسلم، المساقاة، رقم الحديث 4178.
[7] مجموع الفتاوى (ج7/ص187)، الطبعة السابقة.
[8] مجموع الفتاوى (ج7/ص616)، الطبعة السابقة.
[9] مجموع الفتاوى (ج7/ص 294)، الطبعة السابقة.
[10] شرح العمدة لابن تيمية (ج1/ص86)، تحقيق؛ خالد بن علي بن محمد المشيقح، الناشر؛ دار العاصمة، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م..
[11] أخرجه أبو داود (٤٢٥)، والنسائي (٤٦١)، وابن ماجه (١٤٠١)، وأحمد (٢٢٧٥٦) بنحوه.
pdf

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق