مما ورد على من لا يعذر بالجهل في الأحكام الدنيوية والأخروية من شبه؛ حملهم فهم القلوب وعقل القلوب الوارد في النصوص على فهم الأذهان وعقلها.
لا إيمان إلا بصلاح القلب، ولا كفر إلا بفساده المحتويات العذر بالجهل ومُجمل الإيمان
فمما يزيل الإشكال في فهم الآيات التي يظنُّ بعض الناس أنها تدل على لحوق العذاب بالكفار مع إثبات جهلهم وعدم فهمهم؛ أن نعلم أن الفهم والعقل في النصوص نوعان؛ الأول: فهم الأذهان وعقلها، والثاني فهم القلوب وعقلها.
فقول الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}، صريح في أنَّ الفهم المنفي عنهم والذي لا يمنع لحوق العذاب بهم هو فهم القلوب.
وأصل كلمة العقل في اللغة من الربط، فالعقل يعقل صاحبه عن القبائح والمنكرات، ولذا فإن للعقل صلة بالإرادة، والإرادة محلها القلب، وعلى هذا يُحمل قول من حصر العقل في القلب من السلف.
والصحيح أن للدماغ عقلٌ وأنَّ للقلب عقلٌ يختلف عن عقل الدماغ، فكلمة العقل تفهم من السياق، ومن معانيها الفهم.
ومما يدل على أن للقلب عقله وللذهن عقله، أن الله تعالى أثبت للكفار من أهل الكتاب عقل كلامه ونفى عن عموم الكفار عقل كلامه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فلزم أن يكون العقل المنفي عنهم غير المثبت لهم، ولزم أن يكون المثبت هو عقل الأذهان، وأما المنفي فهو عقل القلوب والنافع من عقل الأذهان وعقل أذهان المعرضين بعد أن تبينت لهم الحجة الرسالية.
قال الله جل ثناؤه في إثبات عقل أهل الكتاب كلامه: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
ونفى الله تعالى عن الكفار عموماً العقل في مثل قوله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}، وقوله جل ذكرُه: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.
والسمع المنفي في الآيات هو السمع الذي يُنتفع به وسمع المعرض بعد أن تبينت له الحجة الرسالية.
ويدل حديث؛ (أن تحفَظ الرَّأسَ، وما وَعى) على أن للدماغ وعي وعقل، فمن معاني العقل الوعي والفهم والإدراك.
وقد ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى قولان في معنى الحديث قال في أحدهما: (ويريد بالرأس وما احتوى الدماغ، وإنما خص القلب والدماغ لأنهما مجمع العقل ومسكنه) [1].
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (استَحيوا منَ اللَّهِ حقَّ الحياءِ، قُلنا: يا رسولَ اللَّهِ إنّا لنَستحيي والحمد لله، قالَ: ليسَ ذاكَ، ولَكِنَّ الاستحياءَ منَ اللَّهِ حقَّ الحياءِ أن تحفَظ الرَّأسَ، وما وَعى، وتحفَظَ البَطنَ، وما حوى، ولتَذكرِ الموتَ والبِلى، ومَن أرادَ الآخرةَ ترَكَ زينةَ الدُّنيا، فمَن فَعلَ ذلِكَ فقدَ استحيا يعني: منَ اللَّهِ حقَّ الحياءِ) [2].
من فهم من أقوال بعض السلف حصر العقل في القلب بإطلاق استدلوا بقول الله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
ولكن هذه الآية لم تنفِ نسبة الفعل "يعقلون" إلى الذهن، ولا أحد ينفي العمى عن الأبصار مع أنَّ الآية صريحة في نفيه عنها ونسبته إلى القلوب فقط، وذلك لورود تسمية فاقد البصر أعمى في القرآن والسنة، كما في قول الله تعالى ذكره: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّىٰٓ أَن جَآءَهُ ٱلۡأَعۡمَىٰ ﴾، فيكون المنفي عن الأبصار عمىً خاص وهو العمى المانع من الهداية.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (ثم قال تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}، أي: وما يفهمها ويتدبرها إلا الراسخون في العلم المتضلعون منه، قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثني ابن لهيعة، عن أبي قبيل، عن عمرو بن العاص، رضي الله عنه، قال: عقلت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألف مثل) [3].
للقلب كذلك إبصار وعمىً كما للأبصار والأذهان إبصار وعمىً، قال الله تعالى: {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، وقال: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ۚ}.
وقول الله عز وجل: {أفمن زيِّن له سوء عمله فرآه حسناً}، يشمل التزيين باستحسان القلب والتزيين بالشبه وعدم فهم المعاني والدلالات، وقوله تعالى {فرآه حسناً} يشمل رؤية العلم بالذهن ورؤية القلب بالهداية، ولكن من يلحقه العذاب هو من رأى الحق بذهنه وأعرض بقلبه بجمع النصوص.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (ثم قال: (أفمن زيِّن له سوء عمله فرآه حسناً) يعني: كالكفار والفجار، يعملون أعمالاً سيئة، وهم في ذلك يعتقدون ويحسون أنهم يحسنون صنعاً) [4].
ومن قواعد التفسير؛ حمل الآية على كل ما تحتمله من معانٍ غير متضادة، فهي في عمى القلوب عن قبول الحق وعمى الأذهان عن فهمه، ولذا قال: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}.
ومن يلحقه العقاب في الآخرة بدلالة النصوص وأقوال الأئمة سلفاً وخلفاً هو من قامت عليه الحجة الرسالية وفهم فهم دلالة ومعنى وأعرض عن الحق وإن جهل تفصيله.
وفقه وعقل ورؤية وعمى القلب ليست مثل فقه وعقل ورؤية وعمى غيره من الأعضاء كالدماغ والبصر.
ويدخل فيمن يلحقه العذاب من لم يعقل ذهنه تفاصيل الحق لإعراضه عنه بعد عقل أصله، فمن أنواع الكفر كفر الإعراض، والإعراض لا يكون إلا بعد بلوغ الحجة وفهم أصلها.
ومن أعرض عن الحق فإنه يسد الطرق الموصلة إلى هداية القلوب فيُعرض عن سماع الحق والنظر والتفكُّر فيه، ومن جحد الحق فقد حرم أذنه وبصره وذهنه من النافع من السمع والرؤية والعقل، فالأسماع والأبصار والأذهان هي السبيل إلى القلوب وعقلها ورؤيتها.
قال الله عز وجل: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، وقال الله تعالى ذكره: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
المصادر
[1] غريب الحديث (ج2/ص 117)، تحقيق؛ د. محمد عبد المعيد خان، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد- الدكن، الطبعة الأولى، 1384 هـ - 1964م.
[2] أخرجه الترمذي (٢٤٥٨) واللفظ له، وأحمد (٣٦٧١)، وحسنه الألباني في؛ صحيح الترمذي (٢٤٥٨).
[3] تفسير ابن كثير (ج6/ص279) [العنكبوت : 41]، دار طيبة للنشر والتوزيع الطبعة: الثانية 1420هـ - 1999م.
[4] تفسير ابن كثير (ج6/ص535) [فاطر : 7]، الطبعة السابقة.
[2] أخرجه الترمذي (٢٤٥٨) واللفظ له، وأحمد (٣٦٧١)، وحسنه الألباني في؛ صحيح الترمذي (٢٤٥٨).
[3] تفسير ابن كثير (ج6/ص279) [العنكبوت : 41]، دار طيبة للنشر والتوزيع الطبعة: الثانية 1420هـ - 1999م.
[4] تفسير ابن كثير (ج6/ص535) [فاطر : 7]، الطبعة السابقة.
لا إيمان إلا بصلاح القلب، ولا كفر إلا بفساده المحتويات العذر بالجهل ومُجمل الإيمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق