التكفير وضوابطه عند الغلاة

الغلاة شابهوا الخوارج القدامى في الإقرار بالمجملات وإرادة معانٍ باطلة بها، ولذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كلمة حق أُريد بها باطل) في قول الخوارج: "لا حُكم إلا لله".
فالغلاة يتفقون في ضوابط التكفير مع أهل السنة على مجملين مع اختلافهم عن أهل السنة والجماعة في معنى هذين المجملين وتفصيلاتهما وتفريعاتهما وتطبيقاتهما.
والمجملان هما؛ 1. لا يجوز التكفير إلا بمكفر، ولا يجوز التكفير بالكبائر ولا بالصغائر. 2. لا بد من توفر شروط وانتفاء موانع في تكفير المسلم، وأنَّ الشروط مجملها في قيام الحجة والعقل والقصد والاختيار، وأنَّ الموانع هي؛ الجهل والخطأ والتأويل والإكراه وزوال العقل.
ففي المجمل الأول يجعل بعض الغلاة ما ليس مُكفراً من المكفرات، فبعض ما يكفرون به ليس بذنب أو من كبائر الذنوب أو صغائرها، ولموافقتهم أهل السنة في بعض المكفرات والكبائر والصغائر اشتبه أمرهم على بعض الناس.
وأصل بلاء الخوارج هو جعل بعض الذنوب وبعض ما ليس من الذنوب مكفِّرات، كما كفروا علياً رضي الله عنه ومعاوية رضي الله عنه وشيعتهما بما ليس ذنباً، بل بما فعلوه من واجب التحكيم، وأوائلهم لم تكن لهم تأصيلات متأخريهم في التكفير بالكبيرة كما هو حال الغلاة المعاصرين.
ومع أنَّ الغلاة يُقرُّون بموانع التكفير الخمسة السابقة ألا أنهم يخالفون أهل السنة في تطبيقاتها.
فمثلاً في مانع الخطأ واعتبار شرط القصد والاختيار جعلوا الكفر مجرد حركات ظاهرة لا علاقة لها بالباطن بغرض تكفير الأعيان بما يعتقدونه مُكفراً مما هو ذنب أو ليس بذنب.
وفي مانع الجهل واعتبار شرط قيام الحجة قد لا يعذرون بالجهل من فعل ما يعتقدونه مكفِّراً مما هو ذنب أو ليس بذنب، وقد لا يعذرون من لايكفر بالذنب أو غير الذنب الذي يعتقدونه مكفِّراً.
ويشبِّه الغلاة والخوارج المعاصرون على الناس بمسائل اختلف أهل العلم في عذر الجاهل بها أو كيفية تحقق قيام الحجة فيها إما خلافاً سائغاً أو أخطأ فيها بعضهم خطأً بيناً يعد من قبيل زلات العلماء.
فبسبب جعل بعض الذنوب وبعض غير الذنوب مكفرات، وبسبب خلل في فهم ضوابط التكفير؛ كفر الغلاة كثيراً من المسلمين.
فبعضهم يكفرون من يسمونهم أركان الدولة، مع اختلاف بينهم في تحديدهم، فيُدخل بعضهم في مُسمى أركان الدولة أصحاب الوظائف السياسية العليا كالوزراء، وآخرون حصروهم في الجيش والشرطة والمُخابرات، ومنهم من قال إنها طوائف ردة تستباح دماؤهم مع عدم تكفير أعيانهم.
والوظائف المدنية عند عتاتهم أشد كفراً من العسكرية، لما يرون فيها من معاونة من يسمونهم كفاراً - وقد لا يكونون كذلك - على المُسلمين الذين حصروهم فيمن لم يخالفهم أو فيمن يؤيدهم حسب دركة غلوهم.
وبعض الغلاة يكفرون كل القضاة في أكثر البلاد المسلمة بسبب وجود أحكام تُخالف الشريعة.
وكفَّر بعضهم أعضاء البرلمانات التي يجوز فيها تشريع ما يخالف الشريعة حتى وإن كانت نيتهم مناصرة أحكام الشريعة بسبب جعلهم الكفر مجرد حركات ظاهرة لا علاقة لها بالباطن، وبعضهم يكفر بمجرد التصويت لعضوية البرلمانات وإن كان بنية تخفيف الشر.
وتولي مثل هذه الوظائف عسكرية كانت أو مدنية قد يكون محرماً أو مباحاً أو مستحباً أو واجباً، فإن كان مشتملاً على فعل محرمات لغير ضرورة دينية أو دنيوية فهو ذنب، وإن لم يكن مشتملاً على فعل محرمات أو كان لضرورة أو لحاجة فهو إما جائز أو مستحب أو واجب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (من ولي ولاية يقصد بها طاعة الله، وإقامة ما يمكنه من دينه، ومصالح المسلمين، وأقام فيها ما يمكنه من الواجبات، واجتناب ما يمكنه من المحرَّمات؛ لم يؤاخذ بما يعجز عنه؛ فإنَّ تولية الأبرار خير للأمة من تولية الفجار) [1].
وقال أيضاً: (إذا كان المتولِّي للسلطان العام أو بعض فروعه كالإمارة والولاية والقضاء ونحو ذلك، إذا كان لا يمكنه أداء واجباته وترك محرماته، ولكن يتعمد ذلك ما لا يفعله غيره قصداً وقدرة؛ جازت له الولاية، وربما وجبت!  ... إلى قوله: وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة وإن سمي ذلك ترك واجب وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر. ويقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة، أو لدفع ما هو أحرم) [2].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق