يرى غلاة التكفير والجهاد أن امتناع السلطان عن التزام واحدة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة كالحدود أو الامتناع عن ترك المحرمات الظاهرة المتواترة كالربا يعد كفراً أكبر يوجب قتال السلطان، مخالفين بذلك مخالفة صريحة لقول النبي صلى الله: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة).
ومعنى الحديث كما سبق هو أن السلاطين المسلمين لو أقاموا الصلاة وما هو أولى من الصلاة لا يقاتلون وإن تركوا ما دون الصلاة من واجبات الولاية الدينية، وما هو أولى من الصلاة هو أصل الشهادتين دعوةً وتعليماً حتى مع وجود بدع مكفِّرة لا تنقض أصل الشهادتين، وأما لو تركوا ما دون الصلاة من واجبات فيحرم قتالهم، ويدخل فيما دون الصلاة من واجبات كثير من الشرائع الظاهرة المتواترة المعلومة من الدين بالضرورة.
ويحتجُّ هؤلاء بكلام ابن تيمية رحمه اللّه تعالى في وجوب قتال الإمام الطائفة الممتنعة عن شريعة من شرائِع الإسلام الظاهرة المتواترة المعلومة من الدين بالضروة وإن أقرُّوا بوجوبها، أو ترك محرم معلوم من الدين بالضرورة كالربا وإن أقر بحرمته، وحكايته الإجماع على وجوب قتالهم، وترجيحه أن معاملتهم في القتال ليست كمعاملة البغاة، وعدِّ ذلك إجماعاً وعدم اعتداده بخلاف من خالف في ذلك.
كلام ابن تيمية رحمه الله في الطائفة الممتنعة ليس في الخروج على السلطان، وإنما هو في وجوب قتال الإمام الطائفة المتنعة عن التزام شرائع ظاهرة متواترة وإن أقرت بوجوبها وترك محرمات ظاهرة متواترة وإن أقربت بحرمتها، وقد نص على ذلك بقوله: (وقاتل الإمام عليها).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللهُ تعالى: (وكذلك مانعوا الزكاة فإنَّ الصدِّيق والصحابة ابتدؤوا قتالهم، قال الصديق: واللهِ لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، وهم يقاتلون إذا امتنعوا من أداء الواجبات وإن أقرُّوا بالوجوب.
ثم تنازع الفقهاء في كفر من منعها وقاتل الإمام عليها مع إقراره بالوجوب، على قولين، هما روايتان عن أحمد، كالروايتين عنه في تكفير الخوارج.
وأمَّا أهل البغي المجرَّد فلا يُكفَّرون باتفاق أئمة الدِّين، فإنَّ القرآن قد نصَّ على إِيمانهم وأخوَّتهم مع وجود الاقتتال والبغي. واللهُ أعلم) [1].
وقال أيضاً رحمه اللهُ تعالى: (وهذا كله مما يبيِّن أنَّ قتال الصدِّيق لمانعي الزكاة، وقتال علي للخوارج، ليس مثل القتال يوم الجمل وصفِّين، فكلام علي وغيره في الخوارج يقتضي أنهم ليسوا كفاراً كالمرتدِّين عن أصل الإسلام، وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره، وليسوا مع ذلك حكمهم كحكم أهل الجمل وصفِّين، بل هم نوع ثالث، وهذا هو أصحُّ الأقوال الثلاثة) [2].
ولعله قصد بالنوع الثالث أنهم يعاملون معاملة الكفار فيما عدا سبي النساء والذرية، إذ لا وجه لتكفير نسائهم وذراريهم.
وقول شيخ الإسلام بأنهم ليسوا كالمرتدين عن أصل الإسلام فيه إشارة إلى أن الردة عن بعض الشرائع أخف من الردة عن أصل الإسلام، والكفر دركات، ولذا كان أخف أهل النار عذاباً من له شراكان من نار يغلي منهما دماغه.
ومجرَّد الامتناع عن التزام بعض الشرائع أو ترك بعض المحرمات لا يستلزم فساد عقيدة الممتنعين، ومن رأى معاملتهم معاملة الكفار من الفقهاء فهو عند القتال لا قبل ذلك، ولذا قال ابن تيمية رحمه الله: (ثم تنازع الفقهاء في كفر من منعها وقاتل الإمام عليها مع إقراره بالوجوب).وقد تقدم أن المخالفة الصريحة بتقنين عام وطريقة متبعة عند الناس كفرٌ محتمل، فإذا اجتمع مع ذلك القتال على ذلك مع ضعف الممتنعين وقوة المسلمين قويت القرائن على فساد عقيدتهم.
فربما رأى بعض الفقهاء أن إصرار الممتنعين المقرين للوجوب وقتالهم على ما هم عليه فيه دلالة على فساد عقيدتهم، مثل من أصر على ترك الصَّلاة حتى قُتِل.
فقد ذكر شيخ الإسلام أنَّه يمتنع عقلاً صحَّة عقيدة من أصر على ترك الصلاة وفضل أن يُقتل على إقامتها، حيث قال: (فإنَّه يمتنع في الفطرة أن يكون الرجل يعتقد أنَّ اللهَ فرضها عليه، وأنَّه يعاقبه على تركها ويصبر على القتل ولا يسجد للّه سجدة من غير عذر له في ذلك) [3].
فالفقهاء لم يكفروا الممتنعين عن شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة ابتداءاً وإنما كفروهم عند القتال كما سبق.
وقول شيخ الإسلام بأنهم ليسوا كالمرتدين عن أصل الإسلام فيه إشارة إلى أن الردة عن بعض شرائع الإسلام أخف من الردة عن أصل الإسلام، والكفر دركات، ولذا كان أخف أهل النار عذاباً من له شراكان من نار يغلي منهما دماغه.
وقد قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في الخوارج: (والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالاً للأمَّة وتكفيراً لها، ولم يكن من الصحابة من يكفرهم لا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين) [4].
وعلي رضي الله عنه ناظر الخوارج قبل قتالهم مما يدل على أن سبب تكفيرهم هو إقامة الحجة عليهم.
وبعض غلاة الجهاد ناصروا جماعة الطالبان الماتوريدية الصوفية التي استبدلت تدريس العقيدة السلفية في المعاهد الدينية بالماتوريدية عندما استولت على ولاية كونر، وفي هذا حجة عليهم من جهة كلامهم في الممتنعين عن الشرائع الظاهرة المتواترة ومن جهة تكفيرهم بما أسموه بالتشريع العام وقد يكون تقنيناً لا تشريعاً كما سبق.
أما الحجة عليهم من جهة كلامهم عن التقنين العام، فلأن تبديل العقيدة السلفية بالماتوريدية في المعاهد الدينية يعد تقنيناً فيه اتباعٌ لشرع محدث فهو تبديل للشرع.
فهذا التقنين أبلغ من جهتين؛ أنه تبديل للشرع يصحبه اعتقاد، وأنه متعلق بأصول العقيدة.
وما يتعلق من العقيدة بأركان الإيمان الستة كالقدر وأولها الإيمان بالله والذي يشمل الإيمان بأسماء الله وصفاته وربوبيته وألوهيته؛ أهم مما يتعلق منها بالشرائع كوجوب الصلوات الخمس وتحريم الخمر والخنزير.
فإن قالوا؛ الماتوريدية متأولون، فيقال لهم: هو تأويل غير سائغ خاصة ما يتعلق منه بالصفات الظاهرة المتواترة كعلو الله عز وجل واستوائه على عرشه.
وقد رُوي أنّ الجاحدين لوجوب الزكاة من المرتدين تأولوا قول الله تعالى: ﴿خذ من أموالهم صدقة﴾، فقالوا هي خاصة للنبي ﷺ، وإنما كفرهم الصحابة رضي الله عنهم لأنه تأويل غير سائغ متعلق بأصل عظيم وهو الركن الثالث من أركان الإسلام، ولأن الحجة قائمة عليهم لتوافر العلم بتوافر الصحابة رضي الله عنهم وقُرب العهد بالرسالة.
وقد رجح ابن تيمية رحمه الله في الممتنعين عن الشرائع الظاهرة المتواترة وأهل البدع المغلظة أنهم يعاملون معاملة معاملة الكفار عند القتال فيما عدا سبي النساء والذرية، وأن ردتهم أخف ممن ارتد عن أصل الإسلام.
وعد شيخ الإسلام طريقة معاملة الممتنعين والخوارج إجماعاً، وعلل ذلك بأنها سنة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مانعي الزكاة وعلي رضي الله عنه في الخوارج، وهو يعد سنة الخلفاء الراشدين إجماعاً، لأن السنة هي الطريقة المتبعة، فهي مشتهرة بدون نكير.
قال رحمه الله: (فجعل أحمد الأرض التي للخوارج إذا غنمت بمنزلة ما غنم من أموال الكفار. وبالجملة فهذه الطريقة هي الصواب المقطوع به. فإن النص والإجماع فرق بين هذا وهذا وسيرة علي رضي الله عنه تفرق بين هذا وهذا) [5].
ويظهر أنهم لا يعاملون حتى عند القتال معاملة الكفار إلا بعد إقامة الحجة عليهم لأن علياً رضي الله عنه ناظر الخوارج قبل قتالهم وأقام الحجة عليهم ولقرب عهد مانعي الزكاة بالرسالة وتوافر العلم والصحابة رضي الله عنهم.
وابن تيمية رحمه الله تعالى لم يذكر فقط الممتنعين عن الحدود ونحوها من الشرائع الظاهرة المتواترة، وإنما ذكر كذلك أهل البدع المغلظة النافين للقدر أو السابين للصحابة رضي الله عنهم أو الجاحدين للصفات، والمعلوم أن شيخ الإسلام يرى أن أهل البدع هؤلاء لا يكفرون من غير إقامة الحجة عليهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين، وإن تكلمت بالشهادتين.
فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا، وإن امتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة، وكذلك إن امتنعوا عن صيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق.
وكذلك إن امتنعوا عن تحريم الفواحش أو الزنا أو الميسر أو الخمر أو غير ذلك من محرمات الشريعة.
وكذلك إن امتنعوا عن الحكم في الدماء والأموال والأعراض والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة.
وكذلك إن امتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار إلى أن يسلموا ويؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
وكذلك إن أظهروا البدع المخالفة للكتاب والسنة واتباع سلف الأمة وأئمتها، مثل أن يظهروا الإلحاد في أسماء الله وآياته أو التكذيب بأسماء الله وصفاته أو التكذيب بقدره وقضائه أو التكذيب بما كان عليه جماعة المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين أو الطعن في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان أو مقاتلة المسلمين حتى يدخلوا في طاعتهم التي توجب الخروج عن شريعة الإسلام وأمثال هذه الأمور) [6].
المصادر
[1] مجموع الفتاوى (ج34/ص57)، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
[2] مجموع الفتاوى (ج30/ص518)، الطبعة السابقة.
[3] مجموع الفتاوى (ج7/ص219)، الطبعة السابقة.
[4] مجموع الفتاوى (ج7/ص217-218)، الطبعة السابقة.
[5] مجموع الفتاوى (ج٢٨/ص٥١٦) - ابن تيمية (ت ٧٢٨).
[6] مجموع الفتاوى (ج28/ص510-511)، الطبعة السابقة.
[2] مجموع الفتاوى (ج30/ص518)، الطبعة السابقة.
[3] مجموع الفتاوى (ج7/ص219)، الطبعة السابقة.
[4] مجموع الفتاوى (ج7/ص217-218)، الطبعة السابقة.
[5] مجموع الفتاوى (ج٢٨/ص٥١٦) - ابن تيمية (ت ٧٢٨).
[6] مجموع الفتاوى (ج28/ص510-511)، الطبعة السابقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق