الخروج السلمي

إذا أفسد السلطان بأكثر مما يصلح       المحتويات       الميثاق الوطني
الولاية عقد بين السلطان ونوابه والناس، وليس كل إخلال بشيء من العقد يعد إخلالاً بأصل العقد، فإذا كان العقد مبنياً على تغليب عقد المواطنة ابتداءاً ولم يكن على الإسلام، فالإخلال بالعقد يكون بعدم رعاية الحقوق الأساسية للمواطنين مثل عدم السماح للمواطنين بممارسة الشعائر الدينية.
وأما إذا كان العقد بين السطان والناس مبنياً على تغليب عقد الإسلام، فلا يجوز نزع يد الطاعة ونقض البيعة إلا إذا ترك السلطان أو النظام رعاية أصل الدين بترك رعاية الشهادتين والصلاة في الولاية أو بالسماح پإظهار الكفر الصريح كسب دين الإسلام، ويكون ذلك إما بظهور ذلك عملياً بطريقة ممنهجة ومدروسة أو بقرار معلن أو بالنص على ذلك في النظام الأساسي للدولة.
فالخروج السلمي على سلطة إسلامية مخالفٌ للنصوص التي دلت على وجوب الصبر على جور السلطان وتحريم نقض البيعة ونزع يدٍ من طاعة ومنازعة السلطان الأمر ما أقام الصلاة وما لم نر كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان.
فلا يجوز الخروج على من أقام أصل الشهادتين ولو كانت فيه بدعة مكفرة لأنه متأول، وكذا من أقام الجمع والجماعات، إلا إذا أذن بظهور الكفر الصريح المناقض لعقد الولاية الإسلامية.
وعلة النهي عن الخروج كما تقدم هي كون السلطان مسلماً حارساً لأصل الدين؛ الشهادتين والصلاة، وأما الحِكمة فهي رجحان المفسدة، وهي ملازمة غالباً للخروج السلمي والمسلح، والقليل النادر لا يعتد به في الحُكم العام، فالخلوة بالأجنبية محرمة مطلقاً مع أن احتمال عدم الفتنة وارد.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان، إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته) [1].
وأمَّا إذا نقض السلطان العقد بالإخلال بأصله، فإنَّ التغيير السلمي من غير ثورة ولا إخراج للعوام في مسيرات تظاهرية إذا كان مدروس النتائج أفضل من البدء بحمل السلاح لأنه أقل ضرراً.
ونقض أصل العقد بحسبه، فإذا كان النظام مبنياً على تغليب عقد المواطنة فيكون ذلك بعدم رعاية الحقوق الأساسية للمواطنين، وإذا كان العقد على ولاية إسلامية فيكون ذلك بترك رعاية أصل الدين وهو إقامة الشهادتين والصلاة، أو بفعل أعظم محظورات الولاية بالسماح بظهور الشرك الأكبر والكفر الصريح.
ودراسة النتائج تشمل المعرفة بضباط الجيش الذين يستلمون السلطة، واحتمال تحول التغيير السلمي إلى مسلح، واعتبار القدرة، والنظر في الظروف المحلية والإقليمية والدولية.
وقد تقدم قول الجويني رحمه الله تعالى: (فلا نطلق للآحاد في أطراف البلاد أن يثوروا; فإنهم لو فعلوا ذلك لاصطلموا وأبيروا، وكان ذلك سبباً في ازدياد المحن، وإثارة الفتن).
فالثورة من الثور، والثور عند هيجانه لا يفرق بين عدو وصديق، وهكذا الثورات والثوار، ولا فرق في ضررها بينما لو كان السلطان مسلماً أو كافراً، ولا بينما لو كان راعياً لأصل الدين (الشهادتين والصلاة) أو لم يكن كذلك، ولنعتبر بما حدث في سوريا التي لم يختلف العلماء في كفر نظامها.
وذلك لأن الجمهور الأعزل لا يستطيع أن يغير نظاماً حاكماً، فالذي يغير النظام استجابةً لعامة الناس أو خوفاً من الفوضى أو طمعاً في السلطة هم أهل الشوكة، والشوكة تعني القوة والبأس والسلاح، وأهم شوكة في الحكومات المعاصرة هي شوكة الجيش.
ومع أن الثورات يُخطط لها المعارضون للنظام إلا أنها لا تحدث إلا في ظل ظروف معينة أهمها تأزم الوضع الاقتصادي وتعطل المصالح العامة بسب اشتداد الفساد، ولهذا فالغالب في الثورات أنها عفوية كما يقال.
والثورات غير مدروسة النتائج غالباً لطبيعتها العفوية ولاعتمادها على العُزل الذين لا يملكون التغيير، وقد دل الشرع والعقل على أنَّ الأحكام لا تُبنى على الوهم والمغامرة وإنما على اليقين أو الظن الغالب.
ولهذا ينتج عن الثورة أحد احتمالين إذا لم تُقمع في مهدها؛ الأول؛ انحياز الجيش إلى الجمهور، والثاني؛ تحول الخروج السلمي إلى مسلح.
أما الاحتمال الأول؛ فمع حقن الدماء واستتباب الأمن إلا أنَّه لا يُعلم من يستلم السلطة من ضباط الجيش ومن يستعين به من المدنيين.
أما من يستلم من ضباط الجيش فغالباً ما يكون مثل السُلطان السابق أو أسوأ منه لسيطرة الدولة العميقة على الجيش ولولاء ضباط الجيش للسلطة، وأما من يستعين به من المدنيين فإن كانوا من قادة المُعارضة فإن أغلب قادة الثورات طلاب سلطة لا يختلفون عن الأنظمة الحاكمة.
وأما الاحتمال الثاني؛ فالتغيير المسلح عفوي أيضاً لأنه تبع للسلمي العفوي، وغالباً ما تتعدَّد الرايات إما لوجود عدد من المنظمات المسلحة أو لاضطرار أهل كل ناحية للدفاع عن أنفسهم، ولاختلاف الداعمين للثوار من الحكومات الأجنبية، وبالتالي الاقتتال بين الثوار أثناء الثورة أو بعد تغيير النظام.
ولأن الثورات تحدث غالباً مع شدة الأزمات الاقتصادية فهي ليست للدين، ولذا تكثر فيها الشعارات الجاهلية مثل الدعوة إلى الديمقراطية الوضعية، وتأزم الوضع الاقتصادي عقوبة، والعقوبة لا تُرفَعُ بالسيف وإنما بالتوبة بالدرجة الأولى مع الاهتمام بالوسائل المادية المشروعة.
فإن قال قائل؛ لا يوجد أضر على الناس من التسلط والجبر، فيقال؛ بل الفوضى أضر، وقد قيل؛ ستون يوماً مع سلطان ظالم أفضل من يومين من غير سلطان.
والضرر على الدين أعظم إن لم يؤدِّ الأمر إلى فوضى، لأن مصلحة الدين مقدمة على جميع المصالح، وفي الخروج تفرق وضعف وإغراء الأعداء بالبلاد.
بل حققت بعض الأنظمة الجبرية بأنواعها المختلفة؛ الملكية والشمولية والسلطوية كالحزبية الأحادية المتسلطة شيئاً من التقدم والتطور وخدمة الناس كنظام الصين.
وليس لما يُسمى بقوة إرادة الشعوب وجود من غير قوة وبأس ومال وإعلام واستخبارات، ومكمن الخطر عند حدوث الثورات والتي غالباً ما تكون غير مدروسة النتائج هو في تدخل الأجنبي بماله وإعلامه واستخباراته أو بأسه وقوته، ولهذا يتكرر ما يسمى بسرقة الثورات.
أجاز البعض الخلع إذا لم تترتب عليه فتنة، والخلع يكون من أهل الشوكة، وليس بالخروج السلمي أو المسلح، وتقدم أن الخلع يجوز عند الضرورة، وذلك عند الضعف الذي يُخشى معه تبدد دعائم الإسلام وذهاب البيضة، وتقدم أن الضرورة تُدفع بالخلع وليس بالثورات والقتال، لأنَّ ذلك يزيد الضعف، ويُعجِّل بذهاب البيضة، ويُغري الأعداء بالمسلمين، ويَزيد المحن ويُثير الفتن.
أذكر من ذلك قول القاضي عياض في المصدر السابق في مبحث؛ شرط إظهار الكفر الأكبر وترك الصلاة: (فلو طرأ على الخليفة فسق قال بعضهم: يجب خلعه إلا أن تترتب عليه فتنة وحرب).
وقال ابن الهمام فيما سبق نقله عنه: (ولكن يستحب العزل إن لم يستلزم فتنة)، وتقدم كذلك قول القرطبي رحمه الله تعالى بجواز الخلع بالفسق الظاهر المعلوم وأنه عنى به الخلع من غير قتال.
وقال ابن حجر رحمه الله تعالى: (ونقل ابن التين عن الداودي قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب. وإلا فالواجب الصبر) [2].
ورؤوس أهل الشوكة الذين يتم بهم عزل رئيس البلد هم ضباط الجيش، فلذا يُنصح الأخيار بالدخول في الجيش كضباط، ليس بنية الانقلاب إذ لا يجوز الغدر حتى بالكافر، فإذا قامت ثورة وخُشي انزلاق البلاد إلى فوضى جاز الانقلاب إذا ترجحت المصلحة، وليس هذا بغدر لأنَّ قيادة الجيش عاهدت السلطان على الحفاظ على أمن واستقرار البلد، ويجوز الانقلاب أيضاً إذا أخل الرئيس بأصل عقد الولاية على نحو ما سبق تفصيله.
فإذا بايع ضباط الجيش سلطاناً على الحُكم بالإسلام ثم نقض أصل البيعة الشرعية وهو رعاية أصل الدين وغلب على الظن تحقق المصلحة جاز الانقلاب، وذلك لخروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة سراً بعد نقضهم العهد بسنتين قبل انقضاء مدة الصلح التي كانت لعشر سنوات، وأعني بأصل الدين الشهادتين والصلاة، وكذا إذا بايعوه على حكم وطني يسمح بممارسة الشعائر الدينية فمنع المسلمين منها.

المراجع

[1] منهاج السنة النبوية (ج3/ص391)، تحقيق؛ محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الأولى.
[2] فتح الباري شرح صحيح البخاري (ج13/ص8)، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ.
pdf
إذا أفسد السلطان بأكثر مما يصلح       المحتويات        الميثاق الوطني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق