الميثاق الوطني

الخروج السلمي       المحتويات         واقع حُكومات مُعاصرة
الوطن المحبوب فطرياً هو بلد المولد والنشأة والعشيرة، وعشيرة الرجل هم أقرباؤه الذين يعاشرهم.
وحب الوطن السياسي تبع لحب الوطن الحقيقي، والمواطنة عقد فيه تحقيق مصالح المتعاقدين فلزم أن تكون بين أفراده صلة خاصة، يدل على ذلك قوله في الحديث التالي؛ (لهمْ ذِمَّةً)، فالذمة هي العهد والأمان.
والوطن السياسي غالباً ما يضم شعباً واحداً أو شعوباً بينها رحم، والشعب درجة من النسب أكبر من القبيلة كبني إسرائيل وبني إسماعيل، ومن درجات النسب القبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة والعشيرة.
وقد دلت السنة على تأكيد الإحسان إلى الرحم البعيد وخصوص صلته، وذلك لحديث؛ (إذا افتتحتُم مصرَ فاستوصوا بالقبطِ خيرًا، فإنَّ لهم ذمةً ورحماً)، قال الألباني رحمه الله تعالى: (صحيح على شرط الشيخين) [1]، وفي صحيح مسلم؛ (إنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أرْضًا يُذْكَرُ فيها القِيراطُ، فاسْتَوْصُوا بأَهْلِها خَيْرًا، فإنَّ لهمْ ذِمَّةً ورَحِمًا) [2].
وقد تقتضي الضرورة التوافق على ميثاق وطني فيه تنازل عن واجبات لأن الوجوب منوط بالقدرة، اعتباراً للممكن والمقدور عليه، والإمكان مقابل التعذر، والقدرة مقابل التعسُّر والأضر، فالقدرة تعني الوُسع.
فقد تسقط واجبات في بلد كلبنان ثلثه سنة وثلثه نصارى وثلثه رافضة وباطنية مع تفرق السنة إلى طوائف وجماعات وتفرق المسلمين إلى دويلات وغلبة دول الغرب.
وقد كان في المدينة توافق مع غير المسلمين يشبه التواثق الوطني، ومع ضعف وثيقة المدينة فإن بعض بنودها ثابتة عُرْفاً بدلالة النصوص والسيرة.
ومما ورد في وثيقة المدينة من بنود دل عليها العرف؛ الدفاع المُشترك؛ "وإن بينهم النصر على من دهم يثرب"، والاستقلالية المالية؛ "وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم"، والمرجعية لأهل الشوكة؛ "وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد"، وفي وقتها تعددت أنظمة القضاء.
فغزوة الأحزاب تدل على تحالف مع اليهود في الدفاع عن المدينة، وعلى أنه كان لليهود استقلال حربي ومالي، وتدل الآية المنسوخة حُكماً في تخيير النبي صلى اله عليه وسلم بين الحكم بين اليهود أو الإعراض عنهم على أنه كان لليهود نظامهم القضائي الخاص بهم قبل غدرهم ونسخ الحُكم مرحلياً حسبما تقتضيه الضرورة.
ولذا جاز عند الضرورة إقرار أهل الذمة على إنشاء محاكم خاصة بهم يحكم فيها قضاتهم بأحكامهم.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "فإذا قويت شوكة قوم من أهل الذمة وتعذر إلزامهم بأحكام الإسلام أقررناهم وما هم عليه ، فإذا ذلوا وضعف أمرهم ألزمناهم بذلك" [3].
وكلام ابن القيم رحمه الله تعالى إنما هو في أهل ذمةٍ كانت تسري عليهم أحكام الإسلام في المعاملات ثم تمردوا عليها، فهؤلاء ليس في إلزامهم عند القدرة عليهم انتهازية لأنه لم يكن لهم عهد ابتداءاً ولأن أحكام الإسلام في مصلحتهم الدنيوية.
وأما من عاهدهم المسلمون ابتداءاً على عدم إجراء أحكام الإسلام عليهم، فلا يُلزمون بها إلا إذا خيفت خيانتهم بظهور أمارات الغدر، فيُنبذ إليهم عهدهم ويخيرون بين  البقاء في دار الإسلام والهجرة منها.
ويُلزم أهل الذمة بأحكام الإسلام في المعاملات لأن أحكامهم لا تحقق مصالحهم الدنيوية، ولأن أصل مساواة الناس في في أحكام المعاملات.
ولا يلزم أهل الذمة بأحكام العبادات بما في ذلك أولى أولويات الشريعة وهما الشهادتان والصلاة، وللمزيد حول إجراء أحكام الإسلام على أهل الذمة؛ مدونتي » شبهات وردود » الشريعة أجل من أن تعرض على البرلمان.
المواطنة عقد بين الفرد والدولة، ويُقدم عقد الإسلام على المواطنة حسب القدرة والإمكان، والأصل في العقود أن تكون مطلقة جائزة، لا أن تكون دائمة لازمة، وعقود الاحتياج والاضطرار أولى بأن لا تكون دائمةً، وفي بعض العقود اختلاف كالزاوج.
والعهود مع الكفار سواءٌ كانت مؤقتة أو مطلقة يجوز إلغاؤها عند خوف خيانتهم قبل حربهم، لأن الحرب قبل الإعلام غدر، وإعلام المعاهد بالإلغاء هو معنى النبذ إليه في قول الله تعالى ذكره: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}.
ولا يخفى أن في قبول السلم في حالة الضعف مع نية الحرب حال القوة لغير سبب انتهازية واستغلال، ولذا فإن أصحاب العهود الملطقة لا يُلزمون بجزية إلا عند خوف خيانتهم وبعد النبذ إليهم.
للمزيد؛ مدونتي » إصلاح » الموجزُ اليسير حول شبهاتٍ في الجهاد والتكفير » سبب مشروعية الجهاد والإرقاق.
لا يجوز نقض عهدٍ غدراً، فلا يجوز الانقلاب العسكري بسبب الكفر الصريح البواح على سلطان يغلب عقد المواطنة، لأنه نقضٌ للعهد غدراً من غير نبذ إليه.
بخلاف سلطان غلب عقد الإسلام ثم نقض العهد بإظهار الكفر الصريح غير المحتمل في أصل المسألة أو احتمال ورود التأويل والجهل فيها، فيجوز لمن كان قادراً من ضباط الجيش الانقلاب عليه إذا ترجحت المصلحة، ولا يعد ذلك غدراً.
وذلك لأن حقيقة الغدر هي عدم الوفاء بالعهد، والعهد نقضه السلطان بترك رعاية أصل الدين، يدل على ذلك خروج النبي صلى الله عليه وسلم لقتال كفار قريش سراً بعد سنتين من صلح الحديبية الذي كان أمده عشر سنوات بسبب غدر قريش.
ولا يجوز الانقلاب العسكري بكل إخلال بعقد الإسلام أو عقد المواطنة.
ولا يُعد ناقضاً لعقد الإسلام من يحرس أصل الدين بالعناية بالشهادتين والصلاة ومنع إظهار الكفر الصريح غير المحتمل في ولايته.
ولا يعد ناقضاً لعقد المواطنة من اعتنى بالحقوق الأساسية للمواطنين، ومن ذلك حرية ممارسة الشعائر الدينية وحرية التعبير بما لا يناقض عقد المواطنة وحقوق الآخرين.
ولا شك أن انتساب الرجل إلى وطنه حق لا يتعلق بعقد، ولكن الوطن هو مكان المولد والنشأة في الصغر، فالوطن ليس هو الوطن بمفهومه المُعاصر بحدوده الجغرافية السياسية.
فعقد المواطنة مطلق جائز يجوز لأحد طرفي العقد إلغاءه متى ما أراد إذا لم يكن في النقض إضرار بالآخر وبشرط إلا يحتوِي نقض العقد على غدر.

المراجع

[1] السلسلة الصحيحة (١٣٧٤).
[2] صحيح مسلم (٢٥٤٣).
[3] أحكام أهل الذمة (ج7/ص768)، تحقيق؛ البكري والعاروري، رمادى للنشر، الدمام، السعودية، الطبعة الأولى.
pdf
الخروج السلمي       المحتويات         واقع حُكومات مُعاصرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق