إذا أفسد السلطان بأكثر مما يصلح

 شرط إظهار الكفر الأكبر وترك الصلاة       المحتويات       الخروج السلمي
يجوز الخروج  على السلطان إذا كان إفساده في سلطانه أكثر من إصلاحه، بشرط ألا يترتب على الخروج عليه ضرر أعظم، وإنما يكون الإفساد أكثر من الإصلاح بعدم رعاية أصل الدين؛ الشهادتين والصلاة، وذلك بترك أهم واجبات الولاية وهي العناية بتثبيت أصل الشهادتين في المسلمين وأمرهم بالصلاة، أو بفعل أعظم محظورات الولاية بنشر الكفر أو الشرك.
ومما يدل على أن إقامة الشهادتين من واجبات السلطان قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله).
والدليل على أن الطاعة بموجب عقد الولاية الإسلامية منوطة بالعناية بأصل الشهادتين والأمر بالصلاة قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أمر عليكم عبد مجدع يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا)، أخرجه مسلم (1298) [1]، ولقوله: (إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين)، أخرجه البخاري (7139 ) [2].
وتقدم أن من اعتنى بالشهادتين وأمر بالصلاة فإنه يعد قائداً للناس بكتاب الله ومقيماً للدين وإن لم يقم ما دون الأمر بالصلاة من واجبات، فالجمع بين النصوص يقتضي حمل النهي عن الخروج على من لم يعتنِ بأهم واجبات الولاية وهي العناية بالشهادتين والصلاة، ولم ينته عن أعظم محظوراتها وهي الكفر والشرك، وتقدَّم أن معنى أقاموا فيكم الصلاة مثل معنى أقام فيكم كتاب الله.
ولأن جنس فعل الواجبات أهم من جنس ترك المحظورات، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في شرط استحقاق السلطان للسمع والطاعة: (يقودكم بكتاب الله)، وقال في عدم جواز الخروج عليه: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة).
ذكر قاعدة تقديم جنس فعل الواجبات على جنس ترك المحرمات  ابن تيمية رحمه الله تعالى فيما يزيد عن مائتي صفحة في الفتاوى، وقد قال في مقدمة كلامه عن هذه القاعدة: (قاعدةٌ في أن جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه، وأنَّ جنس ترك المأمور أعظم من جنس فعل المنهي عنه، وأن مثوبة بني آدم على أداء الواجبات أعظم من مثوبتهم على ترك المحرمات، وأن عقوبتهم على ترك الواجبات أعظم من عقوبتهم على فعل المحرمات) [3].
قال ابن تيمية رحمه الله: (والشرك قد تقدَّم أن أصله ترك المأمور به من عبادة الله، واتباع رسله، وتحريم الحلال فيه ترك ما أمروا به من الاستعانة به على عبادته، ولما كان أصل المنهي عنه الذي فعلوه الشرك والتحريم روي في الحديث (بعثت بالحنيفية السمحة)، فالحنيفية ضد الشرك، والسماحة ضد الحجر والتضييق) [4].
ولحديث؛ "ما أقاموا فيكم الصلاة"، وقد تقدم كلام النووي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث بقوله: "وأما قوله: (أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا) ففيه معنى ما سبق أنه لا يجوز الخروج على الخلفاء بمجرد الظلم أو الفسق ما لم يغيروا شيئاً من قواعد الإسلام"، ويقاس ترك الدعوة إلى الشهادتين على ترك إقامة الصلاة والدعاء إليها قياس أولى، وقياس الأولى في حُكم المنصوص عليه، ولأن المقصود رعاية أصل الدين.
ولأنَّ الإجماع المحكي يدل على جواز الخروج على من ترك الدعوة إلى الصلاة وإقامة الجمع والجماعات، ويدخل في هذا الإجماع من ترك الدعوة إلى الشهادتين من باب أولى، قال القاضي عياض فيما نقله عنه النووي رحمهما الله تعالى في المصدر الذي سبق ذكره: ((أجمع العلماء على أنَّ الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل، قال: وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها)).
ولأنَّ النصوص التي تنهى عن الخروج مع الفسق والظلم كلها تدور حول السلطان الذي يحمي الدين، ولا يكون ذلك إلا برعاية أصل الإسلام، وذلك لما في تلك النصوص من النهي عن نزع يد الطاعة وعدم جواز نقض البيعة كما في حديث؛ (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)،والطاعة بموجب عقد الولاية الإسلامية لا وجود لها إلا بالإسلام ولا تبقى رعاية للإسلام بترك رعاية أصله، وكذا البيعة لكون الجماعة إنما اجتمعت على الإسلام.
والإجماع كله يدور حول هذه المعاني، والطاعة قد تكون واجبة بمثل ما لا يخالف الشرع من عقد المواطنة أو الصلح عند عدم القدرة على قتال الكافر أو الذي لا يحرس أصل الدين في ولايته أو لترتب ضرر أعظم على ذلك ونحو ذلك من الأسباب.
ولأنَّ تجويز الخروج على من يفسد بأكثر مما يصلح يتفق مع مقاصد الشريعة التي جاءت بتحقيق المصالح وتكمليها وتعطيل المفاسد وتقليلها، ولأن الخروج إنما نُهي عنه لما يترتب عليه من مفسدة أعظم من المراد إزالتها، ولأنَّ النظر الصحيح يدل على اعتبار أثر السلطان في الرعية في مسألة الخروج لا مجرد كفر السلطان في ذاته.
ولأنَّ طغيان إفساد الدين على إصلاحه يناقض غرض الولاية التي نصب السلطان من أجلها، فلا يبقى معنىً للولاية بترك رعاية أصل الدين، فمقصود الولاية هو رعاية مصالح الناس الدينية والدنيوية.
قال الماوردي رحمه الله تعالى: (الإمامة موضوعة لخلافة النبوَّة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع) [5].
فمقصود الولاية هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأهم معروف هو الشهادتان ثم الصلاة، وأعظم منكر هو الشرك الأكبر والكفر الأكبر الصريح ثم ترك الصلاة.
قال الله تعالى ذكرُهُ: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}، سورة الحج 41، وقد نصت الآية على إقامة الصلاة، ويدخل التوحيد من جهة عموم الأمر بالمعروف، ومن جهة قياس الأولى الذي هو في حُكم المنصوص عليه.
ويستحيل شرعاً وعقلاً نفي خطر السلطان في إفساد الرعية مع إثبات أهميته في إصلاحهم، لأن الفساد والصلاح الضروري ضدان مثل النور والظلام، فيقل الظلام بقدر حلول النور وقوته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فإذا كان المقصود بالسلطان والمال هو التقرب إلى الله وإنفاق ذلك في سبيله، كان ذلك صلاح الدين والدنيا، وإن انفرد السلطان عن الدين، أو الدين عن السلطان فسدت أحوال الناس) [6].
والجميع متفقون على أهمية السلطان في إصلاح الرعية، ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض رحمه الله تعالى والإمام أحمد رحمه الله تعالى يقولون: (لو كانت لي دعوة مستجابة لادَّخرتها للسلطان، فإن بصلاحه صلاح الناس)، فليزم من ذهاب الصلاح الضروري حلول المفاسد المقابلة له محله.
وقال عثمان رضي الله عنه: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)، وقال شيخ الإسلام: (فقوام الدين بالكتاب الهادي والسيف الناصر).
ذهب الجويني رحمه الله إلى جواز الخروج على الأئمة إذا كثر الفسق في ولايتهم وغلب على أداء الواجبات، وغلب هضم الحقوق على رعايتها، ولا يصح كلامه إلا إذا قصد بغلبة الفسق اشتماله على ترك رعاية أصل الدين.
قال أبو المعالي الجويني رحمه الله: (وهذا كله -حرس الله مولانا- في نوادر الفسوق. فأما إذا تواصل منه العصيان، وفشا منه العدوان، وظهر الفساد، وزال السداد، وتعطلت الحقوق والحدود، وارتفعت الصيانة، ووضحت الخيانة، واستجرأ الظلمة، ولم يجد المظلوم منتصفاً ممن ظلمه، وتداعى الخلل والخطل إلى عظائم الأمور، وتعطيل الثغور، فلا بد من استدراك هذا الأمر المتفاقم على ما سنقرر القول فيه على الفاهم -إن شاء الله عز وجل- وذلك أن الإمامة إنما تعنى لنقيض هذه الحالة) [7]
قرر الجويني رحمه الله تعالى جواز الخروج فيما إذا كان طغيان الظلم في الولاية إلى درجة تؤدي إلى ضعف الدولة ضعفاً شديداً يخشى معه تبدد دعائم الإسلام وذهاب البيضة، وفي هذا التقرير نظر، وذلك لأن الاقتتال بين المسلمين يؤدي إلى زيادة الضعف ويعجل بتبدد دعائم الإسلام وذهاب البيضة.
والغرض من نقل كلامه في جواز الخروج في حال الضعف ما فيه من بيان أن الثورات الجماهيريّة سبب في ازدياد المحن وإثارة الفتن، ولكن يجب التنبه إلى ما سبق من أن كلامه في الثورات الجماهيريّة ينطبق على الخروج المسلح.
قال الجويني رحمه الله: (ومما يتصل بإتمام الغرض في ذلك أن المتصدي للإمامة إذا عظمت جنايته، وكثرت عاديته، وفشا احتكامه واهتضامه، وبدت فضحاته، وتتابعت عثراته، وخيف بسببه ضياع البيضة، وتبدد دعائم الإسلام، ولم نجد من ننصبه للإمامة حتى ينتهض لدفعه حسب ما يدفع البغاة، فلا نطلق للآحاد في أطراف البلاد أن يثوروا; فإنهم لو فعلوا ذلك لاصطلموا وأبيروا، وكان ذلك سبباً في ازدياد المحن، وإثارة الفتن، ولكن إن اتفق رجل مطاع ذو أتباع وأشياع، ويقوم محتسباً، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، وانتصب بكفاية المسلمين ما دفعوا إليه، فليمض في ذلك قدماً. والله نصيره على الشرط المقدم في رعاية المصالح، والنظر في المناجح، وموازنة ما يدفع، ويرتفع بما يتوقع) [8].

المراجع

[1] صحيح مسلم (1298).
[2] صحيح البخاري (7139 ).
[3] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج20/ص85)، الطبعة السابقة.
[4] مجموع الفتاوى (ج20/ص114)، المصدر السابق.
[5] الأحكام السلطانية للماوردي ص 15، دار الحديث، القاهرة.
[6] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج28/ص394)، الطبعة السابقة.
[7] غياث الأمم في التياث الظلم ص 105-106، تحقيق؛ عبد العظيم الديب، الناشر؛ مكتبة إمام الحرمين، الطبعة الثانية، 1401هــ.
[8]. غياث الأمم في التياث الظلم ص 115-116، الطبعة السابقة.
pdf
 شرط إظهار الكفر الأكبر وترك الصلاة      المحتويات       الخروج السلمي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق