بعض الحُكومات تُغلب عقد المواطنة على عقد الإسلام، فلا تنص أنظمتها الأساسية على وظيفة رعاية الدين ولا تقر بذلك واجباً من واجباتها، ولا تمنع قوانينها إظهار الكفر الصريح مثل سب الإسلام والطعن في شرائعه الحكومية والسلطانية المتواترة المعلومة.
الواجب عند تلك الحكومات سياسة الدنيا فقط والدين تبعٌ للمواطنة، فرعاية الأوقاف الدينية عندها واجب وطني بلا فرق بين مسجد وكنيسة ومعبد.
وواجبات القتال وحماية الثغور في الحُكومات التي لا ترى أن من واجباتها رعاية الدين مبنية على تغليب حماية الوطن والمواطنين لا على حماية الإسلام والمسلمين، وعلى شعارات قومية جاهلية، وحماية الدين هدف ثانوي عند تلك الحكومات.
وبعضهم علمانيون معتقداً يقدِّمون حرمة الوطن على حرمة الدين، ولا يرون شهيداً إلا شهيد الوطن، ولا واجباً إلا واجب الوطن، ولا معروفاً إلا ما أقرته لوائح الوطن، ولا منكراً إلا ما أنكرته تلك اللوائح والنظم.
وقد تقدَّم أنَّ قصر جواز الخروج على كفر السلطان لا يصح، بل قصره على كفر السلطان مخالف للنصوص والإجماع، قال القاضي عياض رحمه الله تعالى في المصدر الذي سبق ذكره فيما نقله عنه النووي رحمه الله تعالى: (أجمع العلماء على أنَّ الإمامة لا تنعقد لكافر. وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل. قال: وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها).والنظر الصحيح يدل على اعتبار أثر السلطان في الرعية في مسألة الخروج، فمقصود الولاية هو رعاية الدين والدنيا، ولم يحرس الدين من لم يحرس أصله.
فكل النصوص وأقوال العلماء السابقين هي في حكومات إسلامية تحرس أصل الدين مع ما فيها من ظلم وفسق دون ترك إقامة الصلاة، وليس في حكومات لا علاقة لها بالإسلام في واجبات الولاية أو تسمح فقط بالشعائر الدينية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم؛ (يقودكم بكتاب الله)، (ما أقام فيكم كتاب الله)، (ما أقاموا الدين)، (ما أقاموا فيكم الصلاة).فالولاية عقد من العقود، فإذا كان العقد بين السُلطان والرعية قائم على تغليب عقد المواطنة، ولم يكن لرعاية أصل دين الإسلام وجود في العقد والحُكم، فلا وجود لطاعة وبيعة على ولاية إسلامية، فالنهي عن الخروج هنا ليس للنهي الوارد في الأحاديث، وإنما هو بأسباب أخرى؛ كعدم القدرة، أو لتحريم الغدر إذا لم يكن السلطان قد بايع الناس ابتداءاً على رعاية الدين، وكان العقد ابتداءاً على المواطنة ولم يخل بأصله.
وثمة تشابه مع فروقات بين ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن التتار وعسكرهم والحكومات المعاصرة التي لا تحرس أصل الدين وأهداف جيوشها، من ذلك التماثل بين الهدف من القتال، وطاعة السلطان لكونه سلطاناً لا لأجل الدين، وترك كثير من الواجبات أو أكثرها مثل الجهاد لأجل الدين لا لدولتهم.
من الفوارق بين التتار وبعض تلك الحُكومات؛ اعتقاد التتار في أحكامهم واتخاذها ديناً، علماً بأنَّ بعض الحكومات اليوم تتخذ طريقتها في الحكم المخالفة لشرع الله فكراً ومنهجاً تقدمه على حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن الفروق أيضاً أنَّ كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في قتال الطائفة الممتنعة ليس في الخروج على السلاطين بنزع يد الطاعة أو بقتالهم، وإنما في وجوب قتال إمام المسلمين للطائفة الممتنعة.
والطائفة المتتنعة هي التي تمتنع عن إقامة شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة وإن أقرت بوجوبها، أو ترك محرمٍ ظاهرٍ متواترٍ معلوم من الدين بالضرورة وإن أقرت بحرمته، وتمتنع عن الاستجابة لإمام المسلمين.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فإذا تقررت هذه القاعدة فهؤلاء القوم المسئول عنهم عسكرهم مشتمل على قوم كفار من النصارى والمشركين وعلى قوم منتسبين إلى الإسلام - وهم جمهور العسكر - ينطقون بالشهادتين إذا طلبت منهم ويعظمون الرسول وليس فيهم من يصلي إلا قليلاً جداً وصوم رمضان أكثر فيهم من الصلاة.
والمسلم عندهم أعظم من غيره وللصالحين من المسلمين عندهم قدر وعندهم من الإسلام بعضه وهم متفاوتون فيه; لكن الذي عليه عامتهم والذي يقاتلون عليه متضمن لترك كثير من شرائع الإسلام أو أكثرها.
فإنهم أولا يوجبون الإسلام ولا يقاتلون من تركه; بل من قاتل على دولة المغول عظموه وتركوه وإن كان كافراً عدواً لله ورسوله وكل من خرج عن دولة المغول أو عليها استحلوا قتاله وإن كان من خيار المسلمين.
فلا يجاهدون الكفار ولا يلزمون أهل الكتاب بالجزية والصغار ولا ينهون أحداً من عسكرهم أن يعبد ما شاء من شمس أو قمر أو غير ذلك; بل الظاهر من سيرتهم أن المسلم عندهم بمنزلة العدل أو الرجل الصالح أو المتطوع في المسلمين والكافر عندهم بمنزلة الفاسق في المسلمين أو بمنزلة تارك التطوع .
وكذلك أيضاً عامتهم لا يحرمون دماء المسلمين وأموالهم; إلا أن ينهاهم عنها سلطانهم أي لا يلتزمون تركها وإذا نهاهم عنها أو عن غيرها أطاعوه لكونه سلطاناً لا بمجرد الدين. وعامتهم لا يلتزمون أداء الواجبات; لا من الصلاة ولا من الزكاة ولا من الحج ولا غير ذلك. ولا يلتزمون الحكم بينهم بحكم الله; بل يحكمون بأوضاع لهم توافق الإسلام تارة وتخالفه أخرى) [1].فإنهم أولا يوجبون الإسلام ولا يقاتلون من تركه; بل من قاتل على دولة المغول عظموه وتركوه وإن كان كافراً عدواً لله ورسوله وكل من خرج عن دولة المغول أو عليها استحلوا قتاله وإن كان من خيار المسلمين.
فلا يجاهدون الكفار ولا يلزمون أهل الكتاب بالجزية والصغار ولا ينهون أحداً من عسكرهم أن يعبد ما شاء من شمس أو قمر أو غير ذلك; بل الظاهر من سيرتهم أن المسلم عندهم بمنزلة العدل أو الرجل الصالح أو المتطوع في المسلمين والكافر عندهم بمنزلة الفاسق في المسلمين أو بمنزلة تارك التطوع .
وقول إخواننا بأنَّ الهدف من الدعوة والإصلاح استئناف حياة إِسلامية تحكم بشرع الله جل ثناؤه يدل على أن ما في قرارة أنفسهم هو أن الحُكومات التي تفصل الدين عن الدولة عملياً أو عقدياً ليس لها أحكام الولاية الإسلامية، لكون ذلك من البدهيات العقلية إضافة لدلالة النصوص والإجماع.
ولكن تبقى مواقف إخواننا العملية صحيحة، لأن التغيير بالثورات يضر أكثر مما ينفع لطبيعتها العفوية التي لا تعرف عواقبها، وبسبب الضعف في العتاد والإيمان وللتفرق وتفوق أمم الكفر وتقدمها، ولكن تبقى أضرار عملية، ومن ذلك الغفلة عن إصلاح الدولة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق