تكفير رؤوس الدولة

 واقع حُكومات مُعاصرة      المحتويات        خاتمة
من فوائد هذا البحث الحد من الحرص على تكفير رؤوس الدولة، فكثيرٌ ممن يكفر الرؤوس بأعيانهم يصدر عن هوىً فلا يراعي ضوابط التكفير، وذلك لأن هدفهم من تكفير الحكام الخروج عليهم أو إعداد العدة للخروج عليهم، ولذا تجد بعضهم لا يكفرون المحكومين بما يكفرون به الحكام.
ولا فائدة تُذكر من تكفير رؤوس الدولة حتى مع تحقق شروط التكفير، وذلك لعدم القدرة على جهادهم بالسنان، ومما يعتبر في القدرة الظروف والعلاقات الدولية والإقليمية المعاصرة لا سيما مع ما يُسمى بالحرب على الإرهاب.
والقدرة في مسألة الخروج على الحكام هي شرط صحة ووجوب في الغالب الأعم، فمثل هذه المسائل الأصل فيها مراعاة المصالح والمفاسد، للمزيد؛ مدونتي » إصلاح » الموجزُ اليسير حول شبهاتٍ في الجهاد والتكفير » القدرة قد تكون شرط صحَّة أو وجوب.
ولا فائدة أيضاً من تكفير رؤوس الدولة لأن هذه الرؤوس لا تُقاتِل غالباً، فمن يُقاتل هم من يرسلهم رؤوس الدولة للقتال، وهم ضباط الجيش وجنوده، وهؤلاء غالبهم مسلمون.
ولذا نجد أن بعض الغلاة توسعوا أكثر فكفروا الجيوش، وهم مضطربون في ذلك، فبعضهم يقول عن الجيوش لا نكفر أعيانهم ولكنهم طوائف ردة يجوز استهدافهم.
وعمدتهم في تكفير الجيوش المُسلمة ما سبق ذكرهُ من قول ابن تيمية رحمه الله تعالى في عدم اعتبار خلاف الفقهاء في معاملة الممتنعين المقرين بالوجوب معاملة الكفار، فنزلوا كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في غير موضعه كما سبق في مبحث؛ الممتنعون عن الشرائع الظاهرة المتواترة.
وقد سبق بيان أن الممتنعين لا يكفرون إلا عند القتال وبعد إقامة الحجة عليهم وأن الذي يقاتلهم هو الإمام، وأن علياً رضي الله عنه ناظر الخوارج قبل قتالهم، وأن عهد مانعي الزكاة قريب بالرسالة وتوافر العلم والصحابة رضي الله عنهم.
ومما يبين الهوى في هؤلاء الغلاة أنهم يتحدثون فقط في الشرائع العملية كالحدود، علماً بأن ابن تيمية رحمه الله تعالى كما سبق ذكره عندما تحدث عن الممتنعين ذكر أهل البدع المغلظة النافين للقدر أو السابين للصحابة رضي الله عنهم أو الجاحدين للصفات، وسبق نقل كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وسبق أيضاً أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يرى أن أهل البدع هؤلاء لا يكفرون من غير إقامة الحجة عليهم، انظر أقواله في تكفير الإمامية والجهمية في؛ مدونتي » إصلاح » الموجزُ اليسير حول شبهاتٍ في الجهاد والتكفير » ضوابطٌ في التكفير.
ولو كان غلاة التكفير صادقين في التكفير لما فرقوا بين حاكم ومحكوم في تكفير أعيان من يفصل الدين عن الدولة، فمن حاله كذلك لا يخلو حاله من أحد أمرين؛
الأول؛ من يؤمن بفصل الدين عن الدولة كطريقة أمثل للحياة عموماً، وحكم هذا أنه كافر لا ينفعه عمل صالح من ناحية درء العذاب عنه وتخليده في نار جهنم والعياذ بالله تعالى. 
ولكن أعماله الصالحة هذه قد تكون سبباً في تخفيف العذاب عنه يوم القيامة، لأنه أخف ردة ممن ارتد عن أصل الدين، فالكفر دركات، والمُنافقون في الدرك الأسفل من النار، وقد تنفعه صدقته وأعماله الصالحة في الدنيا.
ولكن الردة عن بعض شرائع الدين أخطر من الردة عن أصل الدين رغم أنها أخف، ولذا قاتل الصحابة رضي الله مانعي الزكاة، وأسموهم مرتدين.
وذلك لأنه لا أحد يجهل أن الإسلام دين ودولة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام دولة لها أحكام داخلية وعلاقات خارجية بالسلم والجهاد، وأن خلفاءه من بعده ساروا على نهجه، وهو أمر معلوم لا يكاد يجهله حتى الكفار فضلاً عن المُسلمين، فلا عذر في هذا بالجهل لأحدٍ من الناس.
وعدم تكفير المعين إنما يكون للجاهل بالحُكم الشرعي أو من له شبهة من ناحية التأويل، كمن ينكر تحريم ربا الأوراق النقدية متأولاً النصوص، أو من يحصر حكم الردة في المحارب القاتل متأولاً النصوص، ونحو ما سبق ممن فيه علمانية جزئية بتأويل للنصوص أو جهلٍ بالحُكم الشرعي.
وأما من يعلم أن الحكم هو حكم الله ثم يرفضه فهو كافر في أحكام الدنيا، وأما حكمه يوم القيامة؛ فعقيدة أهل السنة والجماعة هي أنهم لا يحكمون على أحد بجنة ولا بنار إلا من شهد الله أو رسوله لهم بذلك كالرسل والأنبياء أنهم في الجنة، وكالحكم على فرعون وأبي لهب أنهم في النار.
الثاني؛ من يؤمن بأن الدين يصلح للحُكم والسياسة، ولكنه يتعذر بالظروف والتعقيدات المعاصرة والضغوط التي تواجهها الأمة فيدعم العلمانيين لهذا السبب، وهذا لا يخلو حاله من أحد أمرين؛ إما أنه منافق أو جاهل معذور.
وعلى كلا الاحتمالين يجب التعامل معه بحذر، فمن فوائد ذكر صفات المنافقين في القرآن والسنة الحذر منهم {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}، وقد قيل؛ مهما تكن عند امريء من خليقة وإن خالفها تخفى على الناس تعلم.
ويجب التفريق بين الحذر والحكم على الشخص، فلا تجوز عقوبة المُسلم بسوء الظن، ولكن من ظهرت منه صفات المنافقين يجب أن يُعامل بحذر، ويجوز عقوبة من نشك في نفاقه بما ثبت عليه من أحكام، فالجاسوس المُسلم يجوز للسلطات المُسلمة قتله بعد محاكمته وثبوت الجريمة عليه على الأرجح من أقوال أهل العلم.
ولا يجوز تعظيم من نشك في نفاقهم ممن تصدر منهم أعمال محتملة للكفر، فعن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقولوا للمنافِقِ سيدَّنا، فإِنَّهُ إِنْ يكنْ سيدَكُمْ فقدْ أسخطتُمْ ربَّكُمْ)، صححه الألباني في؛ صحيح الجامع (٧٤٠٥).
pdf
 واقع حُكومات مُعاصرة      المحتويات        خاتمة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق