الخطأ في الفتوى المشهورة

القول بالتقدير ليس مخالفاً للإجماع      المحتويات     الاجتهاد قد يتعيَّن
خلاصة الفتوى المشهورة هي أن العلامات إذا وجدت خلال أربع وعشرين ساعة فإنه يجب العمل بها في الصلاة والصوم بغض النظر عن طول الزمن بين العلامات وقصره، فإذا كان النهار ساعة واحدة فقط فإنه يجب عندهم صوم ساعة، ولو كان النهار أو الليل أكثر من أربع وعشرين ساعة فإنه يجب عندهم حيئذ تقدير الصوم والصلوات جميعها.
ويجب عندهم صوم ساعات النهار مهما طالت إذا تمايز الغروب والشروق خلال أربع وعشرين ساعة، إلا أنهم لما علموا أن هذا قد يكون تكليفاً بما لا يطاق في بعض المناطق أوجدوا مخرجاً بالإفتاء بالفطر والقضاء في أيام أخر.
هذه خلاصة فتاوى المجامع واللجان الفقهية المعاصرة، ويمكن الرجوع إلى تفصيل الفتوى في؛ مجلة البحوث الإسلامية [1].
واضح لمن اطَّلع على فتاوى المعاصرين والقدامى في هذه المسألة أنَّ مستند كل العلماء فيها هو القياس على حديث الدجال، بمن فيهم من يمنع تقدير الصوم إذا تمايز الليل والنهار خلال أربع وعشرين ساعة.
وذلك لأنه لم يرد في حديث الدجال نصاً حكم العمل في اليوم الذي يزيد نهاره عن أربع وعشرين ساعة المعتادة لمجموع الليل والنهار ولا الذي كشهر ولا الذي كأسبوع، كما لم يرد حكم الصوم مطلقاً حتى في اليوم الذي كسنة.
كثير من الفتاوى القديمة والمعاصرة التي اطَّلعت عليها فيها خلل علمي واضح وهو عدم ذكر علة القياس ولا نفي الفارق بين الأصل والفرع، والمعلوم أنَّ العلة من أركان قياس التمثيل وبدونها لا يصح مع وجود فارق بين الأصل والفرع، وعدم ذكرهم العلة في فتاويهم يدل على أنهم لم يتفكروا في شروط العلة وهي أن تكون منضبطة وظاهرة ومناسبة.
ولذا كان في فتاويهم خلل واضح من ناحية اعتبار علة القياس واعتبار المقاصد الشرعية لمواقيت الصلاة والصوم، ومن ثم محاولاتهم إيجاد مخارج للخلل، ولكن المخارج هي الأخرى غير دقيقة وفيها خلل واضح أيضاً.
يحتمل أنَّ العلة التي انقدحت في أذهانهم انعدام العلامة في الأيام الاعتيادية من اليوم الأول من أيام الدجال، وقد نص ابن حجر الهيتمي على هذه العلة في قوله: (وَلَيْسَ هَذَا حِينَئِذٍ كَأَيَّامِ الدَّجَّالِ لِوُجُودِ اللَّيْلِ هُنَا وَإِنْ قَصُرَ)، ولعله يقصد بأيام الدجال كل يوم اعتيادي مقداره أربع وعشرون ساعة خلال الأيام غير الاعتيادية التي كسنة وشهر وأسبوع.
وقد تقدم بيان أن العلامات موجودة في اليوم غير الاعتيادي الذي كسنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأداء الصلوات قبل أوقاتها المعتادة في اليوم الذي كسنة.
اعتبار العلة هي انعدام العلامة خلال الأيام الاعتيادية فيه نظر من جانبين؛الأول؛ بعض هذه الأيام الاعتيادية تمر فيها علامة واحدة لما سبق من أن اليوم الذي كسنة فيه كل العلامات ولكنها متباعدة جداً.
الثاني؛ هذه العلة ليس فيها إلا اعتبار مقصد واحد وهو أن يكون عدد الصلوات خمس صلوات والصوم مرة واحدة خلال كل يوم اعتيادي، وهذا المقصد متحقِّق باعتبار أن العلة هي اختلال العلامات إضافة إلى مراعاته لسائر الحكم والمقاصد في أوقات الصلاة والصوم.
بل العلة المنقدحة في أذهانهم لا وجود لها على فتواهم في التقدير، لأن عدم تمايز الليل والنهار خلال أربعٍ وعشرين ساعة لا يعني أنَّ الليل لن يحل مطلقاً، وأقل طول لنهار لا ليل فيه هو بمقدار ثلاث أيام اعتيادية، فلِمَ لا يٌفتون في هذه الحال بالفطر والقضاء في أيام أُخَر؟ {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، لأن الليل سيحل ولابد ولو بعد ثلاث أيام اعتيادية.
والصحيح أنَّ التقدير على أي حال ليس فيه مخالفة لنص لأن القياس على الخاص يخصص العام كما تقدم، وحديث الدجال فيه تخصيص اليوم الأول من أيام الدجال من العموم، والقياس عليه يخصص غيره بعلة مناسبة.
وهذه الفتاوى مع كونها أوجدت بعض المخارج لما فيها من خلل، إلا أنَّ تلك المخارج لا تخلو من إشكالات، من ذلك مثلاً قول المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة التابع لرابطة العالم الإسلامي: (ومن عجز عن إتمام صوم يومه لطوله، أو علم بالأمارات أو التجربة أو إخبار طبيب أمين حاذق، أو غلب على ظنه أن الصوم يفضي إلى مرضه مرضاً شديداً أو يفضي إلى زيادة مرضه أو بطء برئه أفطر، ويقضي الأيام التي أفطرها في أي شهر تمكن فيه من القضاء).
فقولهم "عجز عن إتمام صومه"، ليس فيه رفع المشقة والحرج عن المكلف، بل فيه تكليف له بأن يبدأ صوم كل الأيام وتعريضه للمشقة ثم إيجاب القضاء عليه بعد المشقة، وحبذا إجراء دراسة حول البلاد التي تزيد عدد ساعات صومها عن ثلاث وعشرين ساعة لأنَّ الضرر قد يتبيَّن آخر الشهر أو بعده بأشهر أو بسنوات، فقد يُصاب بعض الناس بالضرر بسبب تتالي صوم النهار الطويل جداً ومع ذلك لا يدرون السبب في الإصابة.
ومن تلك المخارج التي ذكرها بعض الفقهاء قول الإمام القرافي رحمه الله تعالى: "مسألة من نوادر أحكام المواقيت. فتيا جاءت من بلاد البلغار من الإقليم السابع إلى بخارى يقولون فيها إنه جاءنا رمضان وطول الليل نحو ثلث ساعة إن اشتغلنا بالفطر طلع علينا الفجر وإن اشتغلنا بالصلاة فاتنا الفطر لضيق الزمان بأيهما نبدأ؟ وأيهما نفوت؟ فأفتاهم فقهاء بخارى بالاشتغال بالفطر، وتفويت الصلاة لأن مصلحة الأجساد مقدمة على العبادات بدليل المرض يسقط الطهارات وإن كان للصلوات، والصوم وغير ذلك" [2].
ومع أن هذه الفتوى أوجدت مخرجاً إلا أن هذا المخرج أقرب إلى كونه مخالف للنصوص التي أمرت بأداء الصلاة في وقتها من فتوى التقدير التي اعتمدت حديث الدجال، هذا إضافة إلى أنها لم تراعي رفع المشقة والحرج عن المكلف لأن هذا الليل لا يكفي أن يتناول فيه الصائم ما يقيم بنيته لتوالي الصوم عليه بهذه الطريقة.
ومن الخلل في هذه الفتاوى التي لن يعدم بعض الفقهاء أن يجدوا لها مخرجاً غير لائق، أن النهار عندما يقصر جداً في بعض المناطق، فإنه كثيراً ما يمر على المكلف أن يفوت عليه وقت الظهر والعصر حتى يدخل وقت المغرب بسبب الخروج لقضاء حاجة يسيرة، وفي بعض المناطق قد يفوت عليه وقت الظهر والعصر والمغرب.
المخرج من مشقة توالي الصلوات؛ أن يصليها قضاءاً كما أفتى فقهاء بخارى، ولكن هذا الأمر يتكرر على الطالب والعامل، واجتماع الصلوات فيه مشقة، كما أن الخروج من قاعات الدراسة ومكاتب وأماكن العمل بين كل فينة وأخرى فيه مشقة واضحة.
والدليل على أنَّ أوقات الصلاة فيها مراعاة لأحوال المكلف ورفع الحرج والمشقَّة عنه ما ورد في الحديث الذي رواه البخاري لمَّا أخَّر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم صلاة العِشاء ثم قال: (إِنَّهُ لَلْوَقْتُ، لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِى )[3]
ومهما أوجدوا من مخارج فكلها في اليوم الطويل وأما اليوم القصير فانتفاء الحكم والمقاصد فيه واضحة، وقد نص بعضهم على أن النَّهار لو كان ساعةً واحدة فإنه يجب صوم ساعة واحدة فقط.
ولا ريب أنِّ صوم ساعة واحدة ليس بصوم، فالأصل في الصوم ترك الشهوات تركاً تكون معه رغبة في الأكل والشرب، ممَّا يدلُّ على ذلك ما ورد في الحديث القدسي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّى صَائِمٌ، مَرَّتَيْنِ. وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِى، الصِّيَامُ لِى، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا)[4].
فإن قيل إنَّ من صام ساعة يصدق عليه أنَّه ترك الطعام والشراب لأجل الله عز وجل، فيقال سباق وسياق الحديث يدلُّ على أنه ترك مع رغبة، وماذا يُقال في صوم التطوع؟ وصوم الشاب الذي لا يقدر أن يتزوَّج فترة الشتاء عندما يقصر النَّهار جدَّاً؟ كما أنَّ الصوم في الصيف يكون شاقَّاً في المناطق التي يكون طول النهار فيها أكثر من ثلاث وعشرين ساعة منتصف الصف.
في الصيف الصلوات تكون متباعدة جداً وتسبب خللاً واضحاً في الوقت وترتيبه وتنظيمه، فالتباعد الكثير في أوقات الصلاة يؤدِّي إلى الانقطاع عن العبادة وقتاً طويلاً لمن كان مقتصداً، والتباعد في أوقات الصلوات يؤدي إلى الخلل في أوقات النوم والعمل، ويُلاحظ في أوقات الصلاة في مهبط الوحي أنَّها متقاربة، عدا وقت الفجر، فإن زمن الفجر بعيد عن وقت العشاء، وهذا وقت للنوم والراحة، وبعيد عن وقت الظهر، وهذا وقت للعمل، وطلب الرزق، للمزيد؛ مدونتي » إرشادات » تنظيم النوم والأوقات.

المصادر

[1] مجلة البحوث الإسلامية » العدد الحادي والثلاثون - الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1411هـ » توضيح وبيان » من قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة » القرار الثالث حول أوقات الصلوات والصيام في البلاد ذات خطوط العرض العالية الدرجات.
[2] اليواقيت في أحكام المواقيت (ص 121)، نقلاً من؛ مجلة مجمع الفقه الإسلامي (ج3/ص204)، تصدر عن منظمة المؤتمر الاسلامي بجدة،  [الكتاب مرقم آلياً غير موافق للمطبوع].
[3] صحيح البخاري، التمني، حديث رقم 7239.
[4] صحيح البخاري، الصوم، حديث رقم 1894. 
pdf
القول بالتقدير ليس مخالفاً للإجماع     المحتويات     الاجتهاد قد يتعيَّن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق