من أسباب فتنة الغلو في التكفير أن الحُكم من الألفاظ المجملة التي يكون معناها حسب السياق، ولذا كانت من المتشابه على الجاهل ومن في قلبه زيغ، والراسخون في العلم يحملون المتشابه على المُحكم فيما يمكن تأويله، ويعملون بالمحكم ويفوضون علم ما لا يعلمون من المتشابه إلى الله سبحانه وتعالى.
الحُكم لغةً هو إثبات أمرٍ لأمر أو نفيه عنه، ومعناه في الاستعمال حسب مورده ومنه؛ التشريع، والتقنين (القرار العام في الدولة والمجتمع)، وتولي الشؤون العامة في الدولة والمجتمع، والفصل في النزاعات والقضاء في الأعيان.
والكفر لغةً يعني التغطية، والفسق لغةً هو الخروج، وأما في الاصطلاح؛ فقد فرق الشارع بينهما في قول الله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سِبابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وقِتالُهُ كُفْرٌ) [1].
فكلمة الكفر تنصرف أصالةً إلى الأكبر، وكلمة الفسق تنصرف أصالةً إلى ما دون الكفر، وهذا عند عدم وجود دليل يدل على خلاف هذه المعاني.
فالفسق يعني ما دون الكفر في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
وقد ترد كلمة الكفر بمعنى الأصغر أو المعصية العظيمة كما لو أبهمت، وعندئذ يكون معنى الفسق المقابل لها ما دون ذلك، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سِبابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وقِتالُهُ كُفْرٌ).
وتعريف الكفر باللام يدل على أنه الأكبر ما لم يصرفه صارف عن هذا المعنى في ذات السياق أو بدليل آخر في درجته.قال ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ (وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس بين العبد وبين الكفر - أو الشرك - إلا ترك الصلاة) وبين كفر منكر في الإثبات، وفرق أيضاً بين معنى الاسم المطلق إذا قيل: كافر أو مؤمن، وبين المعنى المطلق للاسم في جميع موارده كما في قوله: (لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض)) [2].
الحُكم بغير ما أنزل الله على وجه القانون العام المُلزم من الكبائر العظيمة التي هي كفرٌ محتمل، فيُشترط لتكفير فاعله استحلاله أو اتخاذه فكراً أو ديناً مثل الشريعة أو مقدماً عليها.
وكبائر الذنوب متفاوتة في الإثم، فمنها الموبقات ومنها دون ذلك، والموبقات متفاوتة وما دونها كذلك متفاوتة.
وأما قول الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} فهو أصالةً في الكفر الأكبر وفيمن جحد ما أنزل الله وحكم بغيره معتقداً صلاحه.
وما كان كذلك فهو يتضمن معنى الكفر المُحتمل، وذلك لأن المنافقين يتظاهرون بالإسلام ويبطنون الكفر، فهؤلاء قد يقرون ظاهراً باعتقادهم في الشرع ويبطنون اعتقادهم الباطل مع حكمهم بغير ما أنزل الله غالباً أو على وجه التقنين العام.
ولأن الكفر المحتمل يحتمل الأكبر والأصغر، فالآية تتضمن معنى الكفر الأصغر أيضاً.
والكفر شعب كما أن الإيمان شعب، فالكفر دركات متفاوتة بعضه أشد من بعض، وعلة الكفر الأكبر في الآية مركبة من جزأين؛ الاعتقاد القلبي، والحكم العملي، فالأول شرك في الربوبية لاتخاذ غير الله تعالى مشرعاً، والثاني شرك في العبادة لطاعة غير الله فيما لم يأذن به مع اعتقاد صلاح العمل.
الدليل على أنَّ {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} فيمن جحد ما أنزل الله؛ سباقها، ويدل سياقها على أنها في الكفر الأكبر أصالةً.
ويدل أيضاً على أن الآية في الكفر الأكبر مع تضمنها معنى المحتمل والأصغر في حق المقرِّ بذنبه؛ مجموع أقوال السلف.
أما دلالة سياق الآية على أنها في الكفر الأكبر؛ فلتعريف الكافرين باللام وورودها بصيغة الخبر مع ضمير الفصل "هو"، ولأنها في اليهود الذين حرفوا الشرع واتخذوا غيره سنة متبعة ونظاماً عاماً.
وفائدة ضمير الفصل المعنوية هي تأكيد الخبر، وقد تدل على الاختصاص، فلا شك أن قول؛ "زيد هو الكريم" يعني أنه قد بلغ درجة عالية في الكرم وكأنه اختص به، فكذلك قول الله تعالى ذكرُهُ: {فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} يعني أنهم قد بلغوا دركة سحيقة في الكفر وكأنهم اختصوا به.
أما دليل السباق على أن الآية أصالةً فيمن جحد ما أنزل الله؛ فما ورد فيها من صفات التوراة والنبيين والمبدلين لكلام الله، إضافةً إلى أنَّ تعدد الألفاظ في القرآن لابد له من معنىً وفائدة، وقد تعدد الوصف بالكفر تارةً وبالظلم تارةً وبالفسق أخرى، ونجد عند تأمل الآيات أن كل وصف في كل آية يناسب سياقها.
فقد ورد في الآية التي ورد فيها وصف الكفر أن الله جل ثناؤه استحفظ الربانيين والأحبار كتاب الله والنهي عن الشراء به ثمناً قليلاً، والمعلوم أن أهل الكتاب حرفوا المعاني والألفاظ واشتروا بذلك ثمناً قليلاً، فدلت الآية على أنها فيهم ومن سلك سبيلهم بجحود ما أنزل الله وتبديله وتغييره تديناً أو باتخاذه فكراً ورؤية.
وفي الآية كذلك ذكر اهتداء النبيين بما أنزل الله وحكمهم به، فدلت على أن الكفار هم من يقابلهم، وهم من لا يهتدون بالوحي ولا يحكمون به، وهذا يشمل المبدلين للشرع الجاحدين ما أنزل الله مع حُكمهم بغيره.
قال الله تعالى ذكرُهُ: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.
وفي المقابل ورد في الآية التي ذكرت فيها صفة الظلم بيان أن المعاملة في الشريعة بالمثل والتي هي غاية في العدل، قال الله جل ثناؤُهُ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
وأما الآية التي وردت فيها صفة الفسق؛ ففيها الأمر بالحكم بما أنزل الله عملياً، وهي قول الله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
ومما يدل على صحة ما سبق أيضاً ما نقل عن السلف من أقوال في معاني الآيات، وأكثر ما نقل عنهم من معانٍ مُرادة بالآيات لكونها معانٍ صحيحة وليس فيها تضاد، وذلك لأن من قواعد التفسير أن كل الأقوال غير المتضادة المنقولة عن السلف مُرادة إذا كان معنى النص يحتملها.
وخلاف التضاد في بعض ما نقل عن السلف ليس في أن مجرد الحكم بغير ما أنزل الله كفرٌ أصغر، وإنما هو في مثل قول الشعبي رحمه الله تعالى في الآية التي فيها وصف الكفر بأنها في المُسلمين وقول غيره بأنها في اليهود.
وقد نُقل عن ابن عباس رضي الله عنهما ما هو في معنى ما سبق من أن الآية التي فيها وصف الكفر هي في الأكبر وأن الأخرتين في الظلم والفسق، ونقل عنه أيضاً ما يدل على أن الآية التي فيها وصف الكفر تتضمن معنى الكفر الأصغر.
قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: (من جحَد ما أنزل اللهُ فقد كفرَ، ومن أقرَّ به ولم يحكمْ فهو ظالمٌ فاسقٌ)، قال الألباني رحمه الله تعالى: (فيه ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس، لكنه جيد في الشواهد) [3].
وقال الإمام الألباني رحمه الله تعالى: (روى ابن جرير الطبري بإسناد صحيح عن ابن عباس: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} قال: (هي به كفر، وليس كفراً بالله وملائكته وكتبه ورسله).
وفي رواية عنه في هذه الآية: (إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفراً ينقل عن الملة، كفر دون كفر). أخرجه الحاكم وقال: "صحيح الإسناد". ووافقه الذهبي، وحقهما أن يقولا: على شرط الشيخين، فإن إسناده كذلك) [4].
وقال أيضاً: (وروى من طريقين عن عمران بن حدير قال: (أتى أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس (وفي الطريق الأخرى: نفر من الإباضية) فقالوا: أرأيت قول الله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} أحق هو؟ قال: نعم. قالوا: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون} أحق هو؟ قال: نعم. قالوا: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} أحق هو؟ قال: نعم.
قال: فقالوا: يا أبا مجلز فيحكم هؤلاء بما أنزل الله؟ قال: هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون وإليه يدعون -[يعني الأمراء]- فإن هم تركوا شيئاً منه عرفوا أنهم أصابوا ذنباً. فقالوا: لا والله، ولكنك تفرق. قال: أنتم أولى بهذا مني! لا أرى، وإنكم أنتم ترون هذا ولا تحرجون، ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك، أو نحواً من هذا)، وإسناده صحيح) [5].
المصادر
[1] اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (ج1/ص237-238)، تحقيق؛ ناصر عبد الكريم العقل، دار عالم الكتب، بيروت – لبنان، الطبعة السابعة، 1419هـ - 1999م.
[2] السلسلة الصحيحة (٦/١١٣-114)، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض الطبعة الأولى. 1416 هـ - 1996 م.
[3] موسوعة الألباني في العقيدة (ج4/ص 425-426)، صَنَعَهُ؛ شادي بن محمد بن سالم آل نعمان، الناشر؛ مركز النعمان للبحوث والدراسات الإسلامية وتحقيق التراث والترجمة، صنعاء - اليمن الطبعة: الأولى، 1431 هـ - 2010 م.
[4] موسوعة الألباني في العقيدة (ج4/ص 426-427)، الطبعة السابقة.
[2] السلسلة الصحيحة (٦/١١٣-114)، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض الطبعة الأولى. 1416 هـ - 1996 م.
[3] موسوعة الألباني في العقيدة (ج4/ص 425-426)، صَنَعَهُ؛ شادي بن محمد بن سالم آل نعمان، الناشر؛ مركز النعمان للبحوث والدراسات الإسلامية وتحقيق التراث والترجمة، صنعاء - اليمن الطبعة: الأولى، 1431 هـ - 2010 م.
[4] موسوعة الألباني في العقيدة (ج4/ص 426-427)، الطبعة السابقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق