العذر بالجهل ومُجمل الإيمان

يُفرق في العذر بالجهل بين الإيمان المجمل والمفصل، فالخارج عن مجمل الإيمان المنزل على خاتم الأنبياء لا يعذر بالجهل في الأحكام الدنيوية مطلقاً سواء بلغته الحجة الرسالية أم لم تبلغه.
فإذا لم تبلغه الحجة الرسالية أو بلغته على وجه لا يفهمها مثله فإنه يعذر في الأحكام الأخروية فقط، وهذا إذا انتفت موانع عدم العقل وعدم التكليف والخطأ والإكراه.
والأحكام الدنيوية هي مثل الزواج وأكل الذبيحة وصلاة الجنازة، والأحكام الأخروية مثل عذاب جهنم.
ومن أمثلة الخارجين عن مجمل الإيمان المنزل على خاتم الأنبياء؛ الكفار الأصليون كالبوذيين، والباطنية الزنادقة، وذلك لخروجهم عن أصل الإيمان وهو التوحيد والرسالة.
والإجمال قد يكون بغير طريق الشمول، فالأمر الواحد قد يضم الكثير بطريق اللزوم، ويشترط في التكفير باللازم أن يكون جلياً بدهياً بحيث لا يخفى على أحدٍ من العوام ولا الخواص.
ولا يجوز التكفير باللازم الخفي ولا الجلي النسبي الذي قد يخفى على بعض الناس ويحتاج إلى نظر وتأمل، وهو المُراد بقاعدة لازم القول ليس بلازم حتى يلتزمه صاحبه.
ومثال ما سبق؛ من أنكر وجود الله عز وجل، فقد أنكر كل تفاصيل الدين، وكذا من قال؛ "ما الكلب والخنزير إلا إلاهنا وما الله إلا راهب في كنيسة" فإنه كافر بعينه.
وعندما يقول الزنادقة أهل وحدة الوجود؛ "لا إله إلا الله"؛ فإنهم يقصدون أن كل ما في الكون هو الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
فهؤلاء كفروا بالإسلام جملةً وتفصيلاً، فلا ينبغي لأحد أن يشك في كفرهم بأعيانهم ما لم توجد موانع زوال العقل والخطأ والإكراه.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (هؤلاء الدرزية و النصيرية كفار باتفاق المسلمين لا يحل أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم) [1].
وحرمة الزواج والذبائح تقع على الأعيان لا على الأوصاف، فابن تيمية رحمه الله تعالى يكفر الدرزية والنصيرية بأعيانهم.
وقال أيضاً عن الباطنية الذين أسماهم غالية الرافضة: (والغالية يقتلون باتفاق المسلمين وهم الذين يعتقدون الإلهية والنبوة في علي وغيره مثل النصيرية والإسماعيلية الذين يقال لهم: بيت صاد وبيت سين ومن دخل فيهم من المعطلة الذين ينكرون وجود الصانع أو ينكرون القيامة أو ينكرون ظواهر الشريعة؛ مثل الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت الحرام ويتأولون ذلك على معرفة أسرارهم وكتمان أسرارهم وزيارة شيوخهم، ويرون أن الخمر حلال لهم ونكاح ذوات المحارم حلال لهم، فإن جميع هؤلاء الكفار أكفر من اليهود والنصارى، فإن لم يظهر، عن أحدهم ذلك كان من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار ومن أظهر ذلك كان أشد من الكافرين كفراً) ... إلى قوله: (ولا يحل نكاح نسائهم ولا تؤكل ذبائحهم) [2].
وقال أيضاً: (هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين، وضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم، فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع وموالاة أهل البيت، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا بكتابه ولا بأمر ولا نهي ولا ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ولا بأحد من المرسلين قبل محمد صلى الله عليه وسلم ولا بملة من الملل السالفة) [3].
وهذا الحُكم يشمل الباطنية الغلاة ممن انتسب إلى التصوف وادعى الألوهية وسقوط التكاليف الشرعية ونحوهم، ولا يكفر عوام المتصوفة ممن تلبس ببعض مظاهر الشرك والكفر بجهل كما سيأتي في مبحث؛ العذر بالجهل ومُفصل الإيمان.
قال ابن تيمية رحمه الله: (وليس هذا مختصاً بغالية الرافضة بل من غلا في أحد من المشايخ وقال: إنه يرزقه أو يسقط عنه الصلاة أو أن شيخه أفضل من النبي أو أنه مستغن عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وإن له إلى الله طريقا غير شريعة النبي صلى الله عليه وسلم أو أن أحدا من المشايخ يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم كما كان الخضر مع موسى، وكل هؤلاء كفار يجب قتالهم بإجماع المسلمين وقتل الواحد المقدور عليه منهم) [4].
وتجوز الشهادة على الجمع من الكفار بالنار تغليباً كقول قتلاكم في النار، وأما الكافر المعين فلا تجوز الشهادة عليه بالنار إلا بنص لِما يلي من أدلة؛
1. حديث الشاك في شيء من كمال قدرة الله عز وجل، لدلالته على أن من لم تقم عليه الحجة الرسالية معذور في أحكام الآخرة، ويستنبط منه عذر من لم ينقض مجمل الإيمان في أحكام الدنيا.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت، فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب خشيتك، فغفر له) [5].
2. حديث الأربعة الذين لم تقم عليهم الحجة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربعةٌ كلُّهم يُدْلِي على اللهِ يومَ القيامةِ بحُجَّةٍ وعُذْرٍ رجلٌ مات في الفَتْرَةِ ورجلٌ أدركه الإسلامُ هَرِمًا ورجلٌ أَصَمُّ أَبْكَمُ ورجلٌ مَعْتُوهٌ فيبعثُ الله إليهم مَلَكًا رسولًا فيقولُ اتَّبِعوه فيأتيهِمُ الرسولُ فيُؤَجَّجُ لهم نارًا ثم يقولُ اقْتَحِموها فمَن اقتحمها كانت عليه بَرْدًا وسلامًا ومَن لا، حُقَّتْ عليه كلمةُ العذابِ)، صححه الألباني رحمه الله تعالى [6].
3. القياس على عدم الشهادة لمسلم بالجنة إلا بنص.
4. عدم إيراد القائلين بالشهادة على كافر معين بالنار ما يؤيد مذهبهم بقول صريح عن أحد من السلف والسابقين.
5. أنه لا سبيل للتيقن من أن الكافر المعين لم يسلم في آخر لحظة قبل وفاته.
من أدلة من قال بأن المعين الكافر والمرتد يشهد عليه بأنه في النار ما يلي.
1. الاستدلال بما ورد في السنة من أن قتلى المسلمين في الجنة وقتلى الكفار في النار، وما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم من قول هذا للمرتدين كقوم طليحة بن خويلد الأسدي.
وليس في هذا دليل، لأنه حكم بالغالب، ولو كان حكماً على الأعيان لصح أن نشهد لكل قتلى المُسلمين بأنهم في الجنة لأنه يتضمن قول؛ (قتلانا في الجنة).
ومما ورد في إطلاق هذا القول على المقاتلين من المسلمين والكفار؛ عن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: (اتَّهِمُوا أنْفُسَكُمْ فَلقَدْ رَأَيْتُنا يَومَ الحُدَيْبِيَةِ - يَعْنِي الصُّلْحَ الذي كانَ بيْنَ النبيِّ ﷺ والمُشْرِكِينَ - ولو نَرى قِتالًا لَقاتَلْنا، فَجاءَ عُمَرُ فَقالَ: ألَسْنا على الحَقِّ وهُمْ على الباطِلِ؟ أليسَ قَتْلانا في الجَنَّةِ، وقَتْلاهُمْ في النّارِ؟ قالَ: بَلى) [7].
2. عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قال: (إذا مَرَرْتُمْ بِقُبُورِنا وقُبُورِكُمْ مِن أهْلِ الجاهِلِيَّةِ، فَأخْبِرُوهُمْ أنَّهُمْ فِي النّارِ)، صححه الألباني رحمه الله تعالى [8].
وهو مثل السابق في الحكم على الأغلب، فلا دليل فيه.
3. ومن أقوى أدلتهم حديث؛ (حيثما مررت بقبر كافرٍ فبشره بالنار)، ولكن في الحديث ضعف فتُقدم عليه معاني النصوص الصحيحة.
فقد روي عن سعد بن أبي وقاص وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه؛ (جاءَ أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ ﷺ فقالَ إنَّ أبي كانَ يصِلُ الرَّحمَ، وَكانَ وَكانَ، فأينَ هوَ؟ قالَ في النّارِ قالَ: فَكأنَّ الأعرابيَّ وجدَ من ذلِكَ، فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ فأينَ أبوكَ؟ قال حيثُما مررَتَ بقبرِ كافِرٍ فبشِّرْهُ بالنّارِ قالَ: فأسلَمَ الأعرابيُّ بعدُ، فقالَ: لقد كلَّفني رسولُ اللَّهِ ﷺ تعَبًا، ما مررتُ بقبرِ كافرٍ إلّا بشَّرتُهُ بالنّارِ).
هذا الحديث صححه الألباني [9]، ولكن المرسل أصح، فالمتصل قد يكون شاذاً، وذلك لأن مدار الحديث على الزهري، وروى عنه المرسل معمرُ بْنُ راشد وروى عنه المتصل إبراهيمَ بْنَ سَعْد، ومعمر أوثق من إبراهيم.
قال الدارقطني: (عن الزهري مرسلاً، وهو الصواب) [10]، وقال ابن أبي حاتم: (والمُرسَلُ أشبهُ) [11]، وقال ابن باز: (الحديث في صحته نظر) [12].

هناك تعليق واحد:

  1. غير معرف8/18/2021 04:05:00 م

    برجاء قراءة كتاب (حوار حول حكم الصلاة في مسجد فيه قبر) لأبي ذر التوحيدي...
    وبصرف النظر عن عنوان الكتاب، فإنه يحوي فقرات ممتازة ومهمة في مسألة (الإرجاء المعاصر) ومسألة (العذر بالجهل)، كما أنه يفضح (المدرسة العقلية الاعتزالية) و(مدرسة فقه التيسير والوسطية) و(منهج الأزهر) و(منهج الإخوان المسلمين)
    يمكنكم تحميل النسخة 1.45 من الكتاب في هيئة مَلَفٍّ مَضغوطٍ يَحْتَوِي على ثَلاثِ نُسَخٍ مِنَ (الحِوَارِ) بِصِيَغٍ مُخْتَلِفَةٍ
    ("docx" و"doc" و"pdf")
    فقط قم بالدخول على هذا الرابط
    https://www.mediafire.com/folder/cck743bqrv6t5
    ثم قُمْ بِالتَّحمِيلِ

    ردحذف