الصغار وجريان الأحكام على أهل الذمة

الصحيح في شرط الصغار بالجزية أنه على من حارب المسلمين وآذاهم، وأما الجزية على غيرهم فهي مقابل الرعاية من الأمان والحماية وسكنى الدار ونحو ذلك، فالجزية من الجزاء، وقد نص الفقهاء على أنها إما جزاء على كفرهم بالصغار أو جزاء على أمان المسلمين لهم أو جزاء على حقن دمائهم أو جزاء على سكنى الدار أو جزاء على الحماية والنصرة بالجهاد.
والراجح أن كل ما ذكره الفقهاء من أسباب صحيح ولكنها علل متعددة تختلف باختلاف حال أهل الذمة ورعاية المسلمين لهم، فأصل سبب تشريع الجزية الصغار بسبب الكفر والمحاربة بنص القرآن، ثم شرعت على كل ذمي بالإجماع لأن الذمي لا زكاة عليه، للمزيد حول آية الصغار والجزية؛ مدونتي » إصلاح » الموجزُ اليسير حول شبهاتٍ في الجهاد والتكفير » سبب مشروعية الجهاد والإرقاق.
وليس ثمة خرق للإجماع في قولي بأن للجزية علتين؛ جزاء محاربة المسلمين وأذاهم، وجزاء رعاية المسلمين لمن لم يؤذي المسلمين، فالأرجح جواز الإحداث بشرط عدم رفع ما اتفقت عليه أقوال السابقين، وهذا القول لم يرفع ما اتفقت عليه أقوال السابقين، بل اعتبر جميعها.
ولا إشكال في استخراج علتين أو أكثر لحُكم واحد، إذ يجوز أن تكون علة الحُكم الواحد متعددة، ومن أمثلة ذلك؛ السفر والمرض علتان لجواز الفطر في نهار رمضان.
ويجوز كذلك استخراج علل اجتهادية متعددة باعتبارات مختلفة، ومن ذلك قول بعض الشافعية بأنَّ لجريان الربا في النقدين علتين في محلين مختلفين؛ وهما الثمنية للمضروبة وكونها جنس الأثمان لغير المضروبة، قال النووي رحمه الله تعالى: (قال الماوردي: ومن أصحابنا من يقول: العلة كونهما قيم المتلفات قال: ومن أصحابنا من جمعهما) [1].
و كلا العلة والحكمة وصف، إلا أن العلة يشترط فيها أن تكون مناسبة ظاهرة منضبطة، والحكمة إذا  انطبقت عليها هذه الشروط فهي علة وحكمة.
وليس المراد بحديث (جُعل الذل والصغار على من خالف أمري)؛ إذلال كل كافر، والحديث من أوله يدل على معناه، فهو في القتال والمحاربة، وفي الرابط السابق بيان أن الجزية على أمم الكفر لا تفرض إلا على المحارب أو من يتآمر منهم على المسلمين.
فتمام الحديث؛ (بُعِثتُ بين يدي الساعةِ بالسَّيفِ، حتى يُعبَدَ اللهُ تعالى وحده لا شريكَ له، وجُعِلَ رِزْقي تحت ظِلِّ رُمْحي، وجُعِلَ الذُّلُّ والصَّغارُ على من خالفَ أمري، ومن تشبَّه بقومٍ فهو منهم)، صحيح الجامع (٢٨٣١).
والغاية في قوله؛ (حتى يُعبد) ههي غاية الكف والحبس وليست غاية المقصد والهدف بدليل قبول الجزية، لأن دافع محاربة الإسلام ينتفي مع إدراك هذه الغاية.
وبما أننا مأمورون بالإحسان إلى غير المحارب من الكفار، بل وبمقابلة إساءته بالإحسان، فليس في الحديث دليل على إذلال كل كافر بالجزية.
قال الله تعالى ذكره: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
جاء في تفسير القرطبي؛ (قال مقاتل: نزلت في أبي سفيان بن حرب، كان مؤذياً للنبي صلى الله عليه وسلم، فصار له ولياً بعد أن كان عدواً بالمصاهرة التي وقعت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم فصار ولياً في الإسلام حميماً بالقرابة) [2].
قال ابن تيمية رحمه الله: (فإن الجزية عند بعضهم عقوبة للمقام على الكفر، وعند بعضهم عوض عن حقن الدماء، وقد يقال أجرة سكنى الدار ممن لا يملك السكنى فليست عقوبة وجبت لقدر زائد على الكفر) [3].
وقال ابن العربي رحمه الله: (اختلف العلماء فيما وجبت الجزية عنه؛ فقال علماء المالكية: وجبت بدلاً عن القتل بسبب الكفر. وقال بعض الحنفية بقولنا. وقال الشافعي: بدلاً عن حقن الدم وسكنى الدار. وقال بعضهم من أهل ما وراء النهر: إنما وجبت بدلاً عن النصرة بالجهاد. واختاره القاضي أبو زيد، وزعم أنه سر الله في المسألة) [4].
وقال ابن القيم رحمه الله: (والمسألة مبنية على حرف وهو أن الجزية هل وضعت عاصمة للدم، أو مظهرا لصغار الكفر وإذلال أهله فهي عقوبة؟)، [5].
وقال الماوردي رحمه الله: (فأما الجزية فهي موضوعة على الرءوس واسمها مشتق من الجزاء، إما جزاء على كفرهم؛ لأخذها منهم صغاراً، وإما جزاء على أماننا لهم؛ لأخذها منهم رفقاً) [6].
فأهل الذمة يعاملون بالرفق أو الصغار حسب الحال، فإن خيفت خيانتهم بظهور أماراتها بعد الذمة أو بمحاربة وتكرار غدر قبل الذمة؛ فإن الجزية جزاءٌ على كفرهم وعدائهم، وإن كانوا مستقيمين في معاملة المسلمين؛ فإن الجزية جزاء على رعاية المسلمين لهم، وتؤخذ منهم رفقاً كما تؤخذ الزكاة من المسلمين، وتصرف في شؤون الدولة ومصالح الناس بمن فيهم أهل الذمة.
عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أرْضًا يُذْكَرُ فيها القِيراطُ، فاسْتَوْصُوا بأَهْلِها خَيْرًا، فإنَّ لهمْ ذِمَّةً ورَحِمًا)، صحيح مسلم (٢٥٤٣).
وقد روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله ﷺ، أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يُقاتَل من ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم صحيح البخاري (٣٠٥٢). ، أورد في باب يقاتل عن أهل الذمة ولا يُسترقون.
قال القرافي المالكي رحمه الله تعالى: (والذي إجماع الأمة عليه أن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك صوناً لمن هو في ذمة الله) [7].
وقد كان في المدينة عهد مطلق مع غير المسلمين فيه اعتبار التعدد الكوني القدري من باب المقدور عليه والممكن والاضطرار والاحتياج.
ومما ورد في وثيقة المدينة الضعيفة السند من بنود دلت عليها النصوص؛ (وإن بينهم النصر على من دهم يثرب)، والاستقلالية المالية؛ (وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم)، وجعل المرجعية إلى أهل الشوكة؛ (وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مردَّه إلى الله، وإلى محمد رسول الله)، وتعددت أنظمة القضاء وقتها.
فغزوة الأحزاب تدل على تحالف للمسلمين مع اليهود في الدفاع عن المدينة، وعلى أنه كان لليهود استقلال حربي ومالي.
وتدل الآية المنسوخة حُكماً في الحُكم بين اليهود أو الإعراض عنهم على أن اليهود كان لهم نظامهم القضائي المنفصل قبل غدرهم ونسخ الحُكم مرحلياً حسبما تقتضيه الضرورة على رأي ابن القيم رحمه الله تعالى.
ولهذا جاز عند الضرورة ترك الخيار لأهل الذمة باتخاذ محاكم خاصة بهم على غير الشريعة، قال ابن القيم رحمه الله: (فإذا قويت شوكة قوم من أهل الذمة وتعذر إلزامهم بأحكام الإسلام أقررناهم وما هم عليه ، فإذا ذلوا وضعف أمرهم ألزمناهم بذلك) [8].
يدل على ما سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالخيار أول الأمر بين الحكم بين من تحاكم إليه من اليهود أو الإعراض عنهم؛ {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ۚ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، ولكن لا يجوز للقاضي المسلم إذا تحاكموا إليه أن يحكم بينهم بغير شرع الله.
ثم نُسخ الحكم نسخاً متعلقاً بالقدرة أحياناً وبمدى التزام الكفار بالمعاهدة أحياناً أخرى بوجوب الحكم بينهم بما أنزل الله، وقد جاء النسخ في قول الحق تبارك وتعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} .
وكلام ابن القيم رحمه الله لا يعني كما قد يظن من يجهل أحكام الشريعة أنَّها انتهازية، فهو يتحدث عن أهل ذمة كانت تسري عليهم أحكام الشريعة في الأمور الدنيوية ثم تمردوا عليها، فهؤلاء ليس في إلزامهم بأحكام الشريعة الدنيوية عند القدرة غدرٌ، لعدم وجود عهد سابق على ترك إجراء أحكام الشريعة الدنيوية عليهم، ولأن أحكام الشريعة الدنيوية في مصلحتهم.
وأما ما كان في المدينة من تواثق فسبب نقضه هو غدر اليهود، ونسخ الله تعالى تخييرهم بين التحاكم إلى محاكمهم الخاصة والتحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسخاً متعلقاً بنقض اليهود العهد، وهو نسخ متعلق بالقُدرة أيضاً في حق من تمرد على الحكم الإسلامي، وهو كذلك نسخ متعلق بظهور أمارات الغدر والخيانة في حق أصحاب عهود لم يسبقها تمرد.
وذلك لأن العهود المطلقة يجب الوفاء بها كالمؤقتة، والفرق بينهما هو أن المطلقة يجوز نقضها عند ظهور أمارات الخيانة بإعلام المعاهد بذلك، وهو ما يسمى عند الفقهاء بنبذ العهد إليهم، ويسمى في العصر الحديث بقطع العلاقات الدبلوماسية، ولا يجوز النبذ إليهم إلا عند خوف الخيانة بنص الآية، ولأن خوف الخيانة احتمال بخلاف الخيانة، فإن خداع المعاهد قبل النبذ غدرٌ بخلاف خداع من ثبتت خيانته، وسيأتي مزيد شرح لذلك بنقل عن الإمام الطبري رحمه الله تعالى وغيره من أهل العلم.
والحُكم الأصلي عند غلبة المسلمين هو إجراء أحكام الشريعة في الأمور الدنيوية على أهل الذمة وتركها عند عدم القدرة من غير غدر بالعهود، وذلك لأنَّ إجراء أحكام الشريعة الدنيوية على كل الناس فيه تحقيق مصالح الناس جميعاً، فالخمر مثلاً ضرر على كل البشر في الدنيا وليس فقط على المسلمين، وهكذا سائر أحكام الشريعة الدنيوية.
يؤكد ذلك أنَّ أحكام الشريعة التي تُجرى على الكفار لا تشمل أحكام العبادات مثل الشهادتين والصلاة والزكاة مع أن النصوص تدل على أنها أولى أولويات أحكام الشريعة، وإنما تُجرى عليهم الأحكام الدنيوية، للمزيد؛ مدونتي » شبهات » الشريعة أجل من أن تعرض على البرلمان.
فبلد مثل لبنان ثلثه سنة وثلثه نصارى وثلثه رافضة ودروز وباطنية، مع وجود علمانيين وجهلة، ومع تفرق السنة إلى طوائف وأحزاب، وتفرق المسلمين عموماً إلى دويلات صغيرة وأحزاب متنافرة، وغلبة دول الغرب؛ فقد لا يمكن فيه فعل كل ما يجب فعله، وليس في ذلك تعطيل للأحكام إلى الأبد، لأن الكفار يغدرون أو تظهر أمارات خيانتهم، فينبذ إليهم عهدهم حينئذٍ.

المصادر

[1] المجموع شرح المهذب (ج9/ص395)، الناشر: دار الفكر (طبعة كاملة معها تكملة السبكي والمطيعي).
[2] تفسير القرطبي (ج15/ص362)، دار الكتب المصرية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1384هـ - 1964م.
[3] الصارم المسلول (ص452)،  تحقيق؛ محمد محي الدين عبد الحميد، الحرس الوطني السعودي.
[4] أحكام القرآن لابن العربي (ج2/ص481)، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة.
[5] أحكام أهل الذمة (ج1/ص105)، تحقيق؛ يوسف بن أحمد البكري وشاكر بن توفيق العاروري، رمادى للنشر، الدمام، الطبعة الأولى، 1418 – 1997.
[6] الأحكام السلطانية (ص221)، دار الحديث، القاهرة.
[7] أنوار البروق في أنواء الفروق (ج3/ص26) » الفرق بين قاعدة بر أهل الذمة وبين قاعدة التودد لهم، عالم الكتب.
[8] أحكام أهل الذمة (ج2/ص764)، المحقق؛ يوسف بن أحمد البكري - شاكر بن توفيق العاروري، الناشر؛ رمادى للنشر – الدمام، الطبعة الأولى 1418 – 1997.
pdf
 سبب مشروعية الإرقاق     المحتويات   التكفير وضوابطه عند الغلاة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق