التوسُّط في الردود

رجوع إلى قسم منهج وإصلاح

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
ذكرت في مقال سابق أنَّ منهج أهل السنة والجماعة الرد على أهل الباطل وفضح طرقهم. إلَّا أنَّ البعض قد يوافق هواه بعض ما هو مطلوب شرعاً، فيقوده الهوى إلى الغلو في المشروع -واجباً كان أم مستحباً- فيقع من حيث لا يدري في نقيض ما أمر الله عز وجل به ورسوله، لذا لزِم معرفة أهمية التوسُّط في الردود، وضرر الغلو والاعتداء فيها.
لقد ذكر أهل العلم أنَّ مسائل الشرع كلها وسط، ففي جانب العبادة كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم ويفطر، ويقوم من الليل وينام. وفي جانب العقيدة يعتقد أهل الإسلام في عيسى عليه السلام أنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فلم يغلو كغلو النصارى، ولم يقصِّروا كتقصير اليهود.
فالاعتدال لازم في كل شيء، وكل ما زاد عن حده انقلب إلى ضده.
كما يكون الاعتدال في مسائِل الكفر والإيمان والوعد والوعيد والأسماء والصفات وسائر مسائل المعتقد والعبادات، فهو لازم كذلك في السلوك والتعقل والأدب والعاطفة.
ففي المحبة والبغض جاء في الأثر: ( أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وابغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما ).
وقد ورد في السنة من خصال المنافق الفجور في الخصومة.
ومن أفرط في حسن الظن وقع في الغفلة وسهل غشه وخداعه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الحذر الذي يتضمن سوء ظن محمود: (وأما الحذر من الرجل في شهادته وأمانته ونحو ذلك، فلا يحتاج إلى المعاينة؛ بل الاستفاضة كافية في ذلك، وما هو دون الاستفاضة، حتى إنَّه يستدلُّ عليه بأقرانه، كما قال ابن مسعود: (اعتبروا الناس بأخدانهم)، فهذا لدفع شرِّه، مثل الاحتراز من العدو. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (احترسوا من النَّاس بسوء الظن). فهذا أمر عمر، مع أنَّه لا تجوز عقوبة المسلم بسوء الظن) [1].
ومن تجاوز في المسامحة والعفو في مجتمع فاسد أُصيب بالذلة والصغار، وفي الدعاء المأثور (اللهم إني أعوذ بك أن أَذِل أو أُذَل).
وقد دلت النصوص على أن الانتصار للنفس محمود أحيانا، من ذلك قول الله تعالى: {وَالَّذينَ استَجابوا لِرَبِّهِم وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمرُهُم شورى بَينَهُم وَمِمّا رَزَقناهُم يُنفِقونَ (٣٨) وَالَّذينَ إِذا أَصابَهُمُ البَغيُ هُم يَنتَصِرونَ} [الشورى:  ٣٨ - ٣٩].
قال ابن قتيبة رحمه الله في عيون الأخبار في باب التوسط في المداراة والحِلم: (ومن أمثال العرب في هذا: (لا تكن حُلْواً فتُستَرطَ ولا مُرَّاً فتُلْفظ ))، سرطه وأسترطه: ابتلعه.
وقال النابغة الجعدي:
ولا خير في حِلْمٍ إذا لم تكن له بوادر تحمي صَفْوهُ أن يُكدّرا
وقال آخر:
ولا خير في عرض امرئ لا يصونه ولا خير في حلم امرئٍ ذلَّ جانبُه
وقال في باب التوسط في العقل والرأي: (ويُقال: إفراط العقل مضر بالجَدِّ)، الجَدُّ: الحظ والسعادة والغنى.
وقال في باب ذم فضل الأدب والقول: (قيل لبعض الحكماء: متى يكون الأدب شرَّاً من عدمه؟ قال: إذا كَبُر الأدبُ ونقص العقلُ).
وقال أيضاً: (قرأت في كتاب للهند: بعضُ المقاربة حزمٌ، وكلُّ المقاربة عجزٌ، كالخشبة المنصوبة في الشمس تُمال فيزيدُ ظلُّها، ويُفرط في الإمالة فينقُص الظلُّ) [2].
وبين الحكمة من جهة والضعف والجبن من جهة أخرى شعرة، وبين الشجاعة والتهور شعرة.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحياء لا يأتي إلا بخير)، المراد به الحياء المعتدل، فالحياء الذي يمنع صاحبه من الخير لا خير فيه.
ومن أخطاء بعض من فيه حياء حني الرأس بطريقة توحي باستصغار نفسه، ولا بأس بحني الرأس تواضعا، وإنما العيب في استصغار النفس واحتقارها أمام من قد يكون فيهم الحاسد والمتكبر وسيء الخلق.
فإنَّ ذكر الشبهات وطرحها للعوام إذا لم يكن لها وجود فيه مشغلة عما هو مفيد إلى فضول العلم، وقد تقع الشبهة في نفوس البعض إذا لم يحسن المتكلم ردها، وقد يزينها الشيطان في نفوس بعض السامعين. ولكن يجب على العلماء وطلاب العلم معرفة الشبهات وكيفية الرد عليها، فهي من قبيل فروض الكفايات، لأنَّ كثيراً من الباطل معاد مكرر، وكم مِن رأي ادَّعى أناس أنهم أهله بينما هو منقول عمن سبقهم  { كَذَ‌ٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ۘ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ }، { يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ }.
ترى المغالي في الردود يتجاوز في رده على الخصم حتى يقع في الظلم المنهي عنه، فتراه ينكر كل ما عند الخصم من خير، ولا يكاد يعترف للخصم بحسنة، وهذا مخالف لما أمر الله سبحانه وتعالى به من ميزان العدل والقسط { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللهَ ۚ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }، بل يبلغ الأمر ببعض المغالين في الردود إلى رد كثير من الحق لأنَّ الخصم تميَّز به أو سبق إليه.
وظلم الآخرين وانتقاص حقهم منفِّر عن صاحبه، لأنَّ الناس تكره الظلم وتبغض الظالم، وبذا حرم الله عز وجل على أهل الظلم الإمامة في الدِّين، والظالم في الردود معتد على نفسه وغيره بالغرور وغمط الناس، والناس مسلمهم وكافرهم جُبلوا على كراهة هذه الخصال، والنفور من أهلها. عن أبي مسعودٍ عُقبة بن عمرو البدري رضي الله عنهُ قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخرُ عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا! فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ؛ فقال: (( يا أيها الناس إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليتجوز؛ فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة )) متفق عليه.
والمعتدي في الرد يجد لكلامه رواجاً عند خصوم المردود عليه، ويجد عندهم مكانة ورفعة، وهذا ما يُغري البعض بالغلو في الرد، وذلك لأن النفس البشرية فيها طبيعة الميل إلى ظلم المخالف والاعتداء عليه، ولذا حذر الله عز وجل من ذلك في قوله : { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا }. والانشغال بالردود من غير تربية وتزكية للنفس يحمل على الاعتداء فيها، ويحمل على الغضب للنفس، والغضب لغير الله من مداخل الشيطان، والمفرط في الردود المعتدي فيها تجده ضيِّق الصدر سيِّئ الخلق قاسي القلب.
ومن آثار الاعتداء في الردود التبديع بغير ضوابط أهل السنة وطريقتهم، قال ابن القيِّم رحمه الله تعالى: ( ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أنَّ الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدمٌ صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلَّة، هو فيها معذور، بل ومأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتَّبع فيها، ولا يجوز أن تُهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين ) [3]. ومثل المعتدي في الردود مثل الذباب لا يقع إلا على موضع الجرح.
والمغالي في الردود المعتدي فيها تجده ضيق الأفق، لا يوازن بين المصالح والمفاسد في مجتمع كثر فيه أهل البدع أو صارت لهم فيه الغلبة، مما يوقع صاحبه في ترك كثير من الواجبات وتحقيق كثير من المصالح، ويحمله ضيق صدره على ترك أخذ العلم الواجب أخذه لما في صاحبه من بدعة خفية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ( وتمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين، وشرَّ الشرَّين، ويعلم أنَّ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلَّا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعيَّة والمفسدة الشرعيَّة، قد يدع واجبات ويفعل محرَّمات، ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعاً، ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع، ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعةٍ خفيَّة، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع )[4].
ودحض الشبهات أهم من الدفاع عن المصلحين والتحذير من المفسدين، فإذا أُخِّر العلم طغت الأهواء وفسدت الفهوم وثارت الفتن وضيعت الأوقات.
قال الله سبحانه وتعالى: { وَكَذَ‌ٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }، قال الإمام الطبري رحمه اللهِ تعالى: (والمعنى أنَّهم وسط لتوسُّطِهم في الدِّين فلم يغلوا كغلوِّ النصارى، ولم يقصِّروا كتقصير اليهود، ولكنَّهم أهل وسط واعتدال)[5].

عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
هلسنكي، فنلندة
يوم الثلاثاء 17 رجب 1431هـ - 29 يونيو 2010م

المراجع

[1] مجموع الفتاوى (ج28/ص372).
[2] عيون الأخبار، دار الكتب العلمية بيروت (ج1/ص449-451).
[3] إعلام الموقعين (ج3/ص295).
[4] مجموع الفتاوى (ج28/ص512)
[5] فتح البارئ (ج8/ص22)، دار الريَّان للتراث، القاهرة، الطبعة الأولى 1407هـ - 1986م.

pdf

رجوع إلى قسم منهج وإصلاح

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق