السعي الحزبي للسلطة

المحتويات

الأصل أن تكون الأمّة المسلمة أمّة واحدة في النظام السياسي مع تمايز أصحاب المنهج الصحيح بمجموعاتهم المدنيّة التي تتزاحم فيها خلافات أصوليّة مع مشتركات أهل القبلة، كالدعويّة والسياسيّة.
يدلّ على ذلك اعتقاد أهل السنة وجوب طاعة رئيس البلاد المسلم المقيم لأصل الدين (الشهادتين والصلاة) في المنشط والمكره ولو كان مبتدعاً.
ولا يصحّ اعتبار السعي للسلطة بانقلاب حزبي أو خوض معترك سياسي مثل سعي النبي ﷺ لتمكين الدين، فقد كانت الأمّة المسلمة أمّة واحدة في عهد الرسالة، فلم يكن في السعي لتمكين الدين المفاسد المترتبة على إنشاء مجتمع خاص تتضارب مصالحه مع بقية الأمة.
والأصل في الانقلاب العسكري عدم جوازه لأنه غدر، فلا يجوز إلا عند الاضطرار وإذا أخل رئيس البلاد بأصل العقد، والإخلال برعاية الدين يكون بترك رعاية أصله؛ الشهادتين والصلاة، للمزيد؛ شرعية السلاطين برعاية أصل الدين.
والضرورة في خلع الحاكم لا تتصور إلا حال الضعف الذي يُخشى معه تبدد دعائم الإسلام وذهاب البيضة، وليس ذلك غدر لأن رؤوس أهل الشوكة بايعوا السلطان على حماية البلاد وأمنها.
والضرورة تُدفع بخلع رؤوس أهل الشوكة وليس بالثورات والقتال، لأنَّ ذلك يزيد الضعف، ويُعجِّل بذهاب البيضة، ويُغري الأعداء بالمسلمين، ويَزيد المحن ويُثير الفتن.
وأما السعي لتمكين الدين في البلاد التي لا يرى قادتها وجوب رعاية أصل الدين؛ فله طرق منها ما يلي في مبحث؛ جماعة نصح بدل حزب سياسي.
لا يختلف العلماء في أهمية مزاحمة الباطل بآلية لا ضرر فيها أو ضررها أخف.
ولذا اتفقوا على جواز بل وجوب التصويت للأخف ضرراً، وعلى جواز تولي ولاية أو دخول برلمان بتعيين ونحوه.
ففي تولي الأخيار تخفيف شر أو دفع أضر إذا لم يكن بآلية فيها ضرر، فإن كان في الآلية ضرر وجب اعتباره عند الموازنة.
ومهما كان تخفيف الشر قليلاً فهو أفضل من عدمه.
ولو لم يكن ثمة تخفيف للشر وكان في تولي ولاية منع تولي من يزيد الفساد فإن توليها هو أخف الضررين.
والتولي بالتعيين جائز أصالة ولا ضرر في ذات هذه الآلية.
والتصويت لأعضاء الأحزاب جائز استثناءاً لما فيه من ضرر.
وإنما يحذر المحققون من العلماء من السعي الحزبي للسلطة لما في ذات هذه الآلية من مفاسد تنقض مقصد تخفيف الشر ودفع الأضر وتحقيق الأصلح.
وحقيقة السعي الحزبي للسلطة أنها سعي أفراد يتقوون بأحزابهم، فكل من يسعى لسلطة يتقوى بجماعة حزبية، كمن يتقوى بالعصبية للقبيلة.
ونقض أضرار آليات الانقلابات الحزبية وخوض المعترك السياسي لمقاصدها يعود لأحد سببين؛ إما رجحان المفاسد مرحلياً، أو لعدم استقرار المصالح الراجحة المتحصلة.
فتكون المفاسد راجحة إذا لم يفز الأخيار بأغلبية مع عدم تمكنهم من تحالفٍ يحقق مصالح راجحة على مفاسد هذه الآلية، بخلاف ما إذا كان دخول البرلمان بآلية لا ضرر فيها كالتعيين فإن وجود واحد في البرلمان يُرجى نفعه.
وتكون المصالح غير مستدامة حال الفوز والتمكن من المال والشوكة والاستخبارات عبر معترك سياسي أو انقلاب حزبي بسبب فساد النظام الحزبي.
وذلك لأن الحزب الفائز لابد له من اللعب القذر لإبعاد غيره من الأحزاب بتمكين أعضائه بما فيه ظلم لبقية الناس، وهذا يؤدي إلى بغض الناس للحزب ونفورهم عنه، لأن النفوس مجبولة على كراهة الظلم.
ويظهر الضرر الراجح جلياً بعد المصالح المؤقتة مع ضعف المسلمين وقوة أعدائهم، وتمكن الأعداء من زرع الفتن عبر الأحزاب المنافسة وداخل الحزب الحاكم.
وإذا لم يستطع الحزب بعد فوزه وتمكنه إصلاح الوضع الاقتصادي لهذه الأسباب أو غيرها، فإنه لن يتمكن من الفوز بدورات جديدة.
والبلاد التي فيها نظام التنافس الحزبي لا يخلو حالها من أحد أمرين؛ الأول؛ وجود إدارة خفية للتنافس الحزبي كاللوبي الحزبي والصهيوني، والثاني؛ عدم استقرار النظام السياسي في البلاد التي فيها تنافس حقيقي، لأن التنافس على السلطة يؤدي إلى الصراع وعدم الاستقرار.
ولولا ما في آلية السعي الحزبي للسلطة من أضرار تعود على غرض الموازنات بالنقض، لكانت أفضل من التصويت لجماعة فيها انحراف، وذلك لما في تمكينهم من ضرر على المسلمين عامة وأهل السنة خاصة.
وجواز التصويت إنما هو لتخفيف الشر وليس لأجل إقامة نظام شرعي، إذ لا يمكن تغيير النظام الديمقراطي الوضعي تغييراً كاملاً بالفاسد من آلياته.
والتالية بعض مفاسد آلية محاصصات وترشيحات المنظمات المدنية التي تعود على مقصد تخفيف الشر ودفع الأضر وتحقيق الأصلح بالنقض.
١. تشتيت الأصوات مما قد يؤدي إلى فوز العلمانيين.
٢. تقديم مصالح الحزب وأعضائه على بقية المجتمع، وهذا يؤدي إلى التفرق ويبغض الناس في دعاة الخير.
٣. تفريق المسلمين وتحزيبهم على مطامع دنيوية وآراء فاسدة أو ظنية.
٤. تنفير الناس من الدعاة.
٥. الولاء على مصالح حزبية.
٦. التنازل عن المباديء شيئاً فشيئاً، وذلك بسبب السعي لإرضاء الناس لكسب أصواتهم في الانتخابات.
٧. اتهام الأخيار بالتهافت على السلطة والمتاجرة بالدين.
٨. تلاعب أهل السلطة الحقيقية بالأحزاب، وأهل السلطة الحقيقية هم المسيطرون على المال والاستخبارات والشوكة.
٩. صراع أهل الخير مع غيرهم على مطامع دنيوية.
١٠. ترشيحات ومحاصصات المنظمة المدنية تؤدي إلى تشققها بسبب تنافس أعضائها على السلطة.
١١. تضييع المال في الحملات الانتخابية.
وقد حدث تشتيت الأصوات مراراً، ومن أمثلته فوز شيوعي في دائرة انتخابية بالسودان إبان الديمقراطية الثالثة بسبب إصرار جماعة الترابي على عدم التنازل للمرشح المُستقل يوناس بول ديمانيال، بل طعنوا فيه.
وكان الشيخ الهدية رحمه الله قد رفض أن يترشح يوناس باسم أنصار السنة، ولم يقبل بنزوله مستقلاً إلا بعد إلحاح الشباب وقتها.
فالتصويت للأخف ضرراً أفضل، ومن أسباب ذلك أنهم لا يتنازلون لأهل الحق غالباً مع ادعائهم أنهم حريصون على وحدة المُسلمين.
من الحكم في نفي الرسل طلب الأجر نفي شبهة ما يسميه العلمانيون اليوم بالتجارة بالدين؛ {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ}، ونفي هذه الشبهة آكد فيما هو محرم في الأصل ومضاره راجحة بالنظر للموازنات بين المصالح والمفاسد.
مفاسد الحزب السياسي المذكورة في المقال قد توجد في غيره من الجماعات المشروعة أصالةً، ولكن المفاسد أخف في الجماعات غير الحزبية ومحتملة مقابل ما فيها من مصالح.
وذلك لأن مصالح ما أصله المشروعية إما محضة أو ضرره مرجوح، والجماعة قد يكون عملها مشروعاً في أصله إما على وجه الوجوب كالدعوة أو الاستحباب كالمنظمات الخيرية أو الإباحة كالمنظمات المهنية.
مما يدل على أن المشروع أصالةً قد يكون فيه ضرر مرجوح أن في الجهاد قتل وإتلاف لحفظ الدين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (كما قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}، أي أن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه) [١].
فمثلاً ضرر تنافس دعاة على وظائف عادية في جماعة خيرية أو دعوية أخف من ضرر  الحزب السياسي، وهو ضرر محتمل مقابل مصالح تلك الجماعات الدعوية والخيرية.
والوظائف العادية عموماً أكثر وأقل أهمية من الوظائف السياسية العليا، وكلما زادت أهمية المتنافس عليه وزاد طلبه وقل عدده ازداد الصراع عليه وازدادت مضاره.
والولايات قليلة ومهمة؛ فالرئيس واحد، وكذا نائبه الأول ورئيس الوزراء ووزير الصحة وحاكم الولاية، وهكذا.
والأصل عدم زوال المضار الراجحة في طلب الولاية إلا بمنع طلبها ومنع تولية من طلبها، وذلك لأن ضرر المحرم إما محض أو راجح على مصالحه.
وأما جواز طلبها الذي ذكره العلماء في قصة يوسف عليه السلام فهو حُكم استثنائي نادر الوقوع وليس أصلياً، ولذا لزم السعي لجعل الأصل هو النظام المتبع.
ومن يجعل الأحكام الاستثنائية أصلية أو لا يعتبر شروطها هو مثل من يجعل أكل الميتة جائز أصالة أو لا يقدر الضرورة بقدرها.
وطلب السلطة عن طريق الأحزاب أضر، وهو في حقيقته طلب أفراد يتقوون بأحزابهم.
والحزب السياسي قائم أصلاً على السعي للسلطة المرتبطة بالثروة، ولذا فدافع الولاء فيه على المصالح الدنيوية والصراع عليها أقوى وأشد إغراءً.
والتجربة خير شاهد على فساد التحزب السياسي، فلا يحتاج إلى كثير بيان عند الرجل العملي البعيد عن الجدل والكلام.
ترك خوض المُعترك السياسي لا يعني الابتعاد عن كل إصلاح سياسي عملي أصلي أو استثنائي لا تعود أضراره على غرض الموازنات بالنقض.
وكل ما يمكن عمله بإنشاء حزب سياسي يمكن بإنشاء جماعة نصح سياسية، عدا السعي للسلطة بمحاصصات أو ترشيحات أو أي وسيلة كانت.
والإصلاح السياسي بإنشاء الجماعة التشوقية أنفع وأدوم، وهو جائز أصالةً لا استثناءً.
ولدفع ضرر سيطرة العلمانيين على البرلمان تصوت جماعة النصح لآخرين مرحلياً، وضرر التصويت أخف لا سيما عند عدم التقيد بالتصويت لحزب واحد.
والولاء في جماعات النصح السياسية مبني على المباديء، ووجود مطامع شخصية فيها ضعيف الأثر كغيرها من التجمعات المباحة.
ومجال عمل جماعة النصح هو نفس مجال عمل الحزب السياسي غير أنها لا تسعى لسلطة بمحاصصات ولا ترشيحات مع تقيدها بالشرع.
وجماعة النصح تسعى لمنع جميع الناس من السعي الحزبي للسلطة، ولا تكتفي بمنع نفسها من السعي للسلطة.
وذلك بمطالبة صناع القرار بإجراء استفتاء عام حول الجديد من الحلول كتحويل الأحزاب السياسية لجماعات نصح سياسية.
ولو أنشأ الناس جماعة نصح سياسية تتواصل مع أقياد الناس من اتحادات ونظار وعلماء تكون المطالبة أبلغ.
وإذا أجري استفتاء عام فقد لا تقل نسبة الرافضين للحزبية في كل الأمم عن ٨٠٪، ويقال أنّ الدراسات تشير إلى أن نسبة أعضاء الأحزاب السياسية في كل أمّة حوالي ١٠٪ فقط.
والتنافس على السلطات العليا من أسباب الشقاق في الحزب السياسي، ووحدة أهل السنة مصلحة ضرورية فيحرم بذلك إنشاء حزب مع وجود البديل.
وببديل جماعة النصح مع التصويت لآخرين مرحلياً ينتفي شرط تعين إنشاء حزب سياسي لخوض المعترك السياسي.
وقواعد التزاحم والتعارض قد تدخل في أحكام  الاضطرار والاحتياج والبلوى العامة، فيشترط فيها شروط الاضطرار إذا اقتضت فعل محرم لذاته أو ترك واجب، ويشترط فيها شروط الاحتياج إذا اقتضت فعل محرم لغيره.
لفعل محرم لذاته عند الاضطرار هي؛
١. أن يكون لرفع ضرر أو دفعه (جلب مصلحة ضرورية أو حفظها).
٢. أن يكون ضرر فعل المحرم أخف من  الضرر المراد رفعه أو دفعه.
٣. وأن تُقدر الضرورة بقدرها؛ وذلك بعدم تجاوز حد ما يرفع الضرر أو يدفعه.
٤. التعيُّن؛ ويعني تعذر تحقيق المُراد بمباح أو محرم أصغر.
٥. وجود أمارات قوية للمتوقع؛ والمعنى أن تكون للضرر المراد دفعه (المترتب على فوات مصلحة ضرورية) أمارات في الحال تجعله متوقعاً بيقين أو بظن غالب.
وشروط فعل محرم لغيره للاحتياج (الحاجة المُلجئة) هي؛
١. أن يأمن الوقوع في المحرم لذاته.
٢. وأن تقدر الحاجة بقدرها.
٣. التعين؛ ويعني تعسُّر تحقيق مصلحة حاجية أو رفع مشقة أو دفعها بمباح أو تعذُّر تحقيق ذلك بمباح.
٤. وألا يكون الغرض متوهماً، وذلك بأن تكون لفوات المصلحة الحاجية أو حدوث المشقة المتوقعة أمارات في الحال تدل عليهما بيقين أو ظن غالب.
الحزب السياسي اسم على مسمى، لأن الحزب هو الجماعة التي تتعارض مصالحها مع آخرين وبالتالي يُعقد عليه ولاء وبراء.
مما يدل على معنى الحزب قول الله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}، والولاء والبراء هما سبب الغلبة لما فيهما من تناصر على الأعداء.
في الآية معنى تعارض مصلحة حفظ الدين مع ولاء غير المُسلمين، لحصر الولاء بسابقتها؛ {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسولُهُ وَالَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمونَ الصَّلاةَ وَيُؤتونَ الزَّكاةَ وَهُم راكِعونَ}.
والجماعة تطلق على المتشاكلين في أمرٍ كالعقيدة والرأي والجنس، ولكن مصالحها لا تتعارض ضرورةً مع مصالح مخالفيها، وبالتالي لا تستلزم براءاً منهم.
وكل اجتماع ديني أو دنيوي لابد فيه من انتماء خاص يستلزم خصوص صلةٍ أو محبة أو تناصر من غير استلزام تعارض مصالح مع مخالف وبراءٍ منه.
ولذا فكل حزب جماعة وليست كل جماعة حزباً.
ولا يصح أن يُقال حزب إسلامي ولا سلفي، لأن الأصل حرمة التحزب، ولأن الاجتهاد في السياسة الشرعية كثير، والاجتهاد ظني لا يُنسب إلى الإسلام ولا السلفية، لأن السلفية نسبة إلى إجماع السلف وهو معصوم.
وقد دلت النصوص على عدم جواز نسبة المسائل الاجتهادية إلى الإسلام، من ذلك ما ورد في حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه؛ (وإذا حاصرتَ أهلَ حصنٍ فأرادوا أن تُنزِلَهم على حُكمِ الله فلا تُنزِلْهم على حكم الله، ولكن أنزِلْهم على حُكمِك؛ فإنك لا تعلَمُ أصبتَ حُكمَ الله فيهم أم لا)،  أخرجه مسلم » رقم ١٧٣١.
وقد نص الأئمة والعلماء على هذا المعنى، وأذكر أن الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى كان إذا سئل؛ ما حكم الإسلام في كذا، يقول: قل ما رأيك أو ما حكم الإسلام في رأيك؟
ببسبب فتنة طلب السلطة والحرص على إرضاء الناس كسباً لأصواتهم وحلفهم تنازل خائضوا المعترك السياسي شيئاً فشيئاً.
فانتقل بعضهم من القول بجواز محاصصات وترشيحات الجماعة الدعوية إلى القول بجواز تكوين حزب سياسي للاضطرار.
ثم توسع بعض بالقول بجواز تكوين حزب سياسي أصالةً.
ثم أداهم ما سبق إلى تجويز كل آليات الديمقراطية الوضعية، وكان هذا مذهب مخفي لبعض المتلونين.
ووصل الحال ببعضهم إلى قبول مبدأ التخيير في تحكيم الشريعة عبر البرلمان مع اعتقادهم وجوب اختيار الشريعة شرعاً، وقد رددت عليهم في مقال بعنوان؛ الشريعة أجل من أن تعرض على البرلمان.
وتحالف بعضهم مع علمانيين على مُسلمين، وسعى بعضهم إلى إرضاء الناس لكسب أصواتهم، فداهنوا العامة وأهل البدع والعلمانيين والكفار، بنحو تجويز تولي الكفار رئاسة البلاد، والتقليل من شأن البدعة وأهلها.
وقد يُعذر المرء في أمر عقدي لجهله وصلاح نيته ويعاقب في أمر خفي لاتباعه هواه فيه.
فعن جابر رضي الله عنه قال: (خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجَّه في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك، فقال: "قتلوه قتلهم اللهُ، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر، أو يعصب عن جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده").
ولا تثريب على من ابتغى الحق وأراده وإن أخطأ في أمرٍ الخلاف فيه غير معتبر أو أمرٍ متعلق بالعقيدة كمن شك في شيء من كمال قدرة الله عز وجل فغفر الله له وأدخله الجنة.
وإنما التثريب على من أصر على خطأ أو أعرض عن حق واتبع هواه ولو كان في مسألة فرعية.
والتثريب كذلك على من يوالي ويعادي في رأيه المرجوح أو المُبتدع ويفرق به جماعة المُسلمين أو أهل السنة، ويجب الحذر ممن يجعل رأيه المرجوح محور دعوته ويتعصب له ويخاصم لأجله مع وجود العلماء وتوافر الناصحين.
وحول التثريب والتبديع أضيف ما يلي للتوضيح وإزالة اللبس.
الرجل لم يشك في أن قدرة الله سبحانه وتعالى فوق قدرة المخلوق، ولم يشرك في القدرة بجعلها مثل قدرة المخلوق، وإنما شك في شيء من كمال القدرة.
الإصرار والإعراض في مسائل المعتقد أشد إثماً وقد يكفر أو يبدع المخالف فيها.
في بعض مسائل المعتقد يُبدع المخالف وإن جهل الحق في الأحكام الدنيوية وأمره يوم القيامة إلى الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك أننا نعتقد في عوام الإباضية أنهم مبتدعة ضلال في أحكام الدنيا وأن حُكمهم يوم القيامة إلى الله.
يبدع من خالف في كلي كإجماع الصحابة، أو في جزئيات متعدِّدة تنقض كلياً، أو فيما ينقض أحد أركان الإيمان أو الإسلام؛ كأصول القدر أو أن دعاء المخلوق شرك، أو خالف في متواتر معلوم في عصره ومصره.
يعد مبتدعاً من جعل بدعته الجزئية أصلاً يوالي عليها ويعادي ويفرق بها جماعة المسلمين ويكفرهم بمخالفتها ويستحل بذلك دماءهم وأموالهم وأعراضهم كالخوارج.
لا يعد مبتدعاً من خالف في جزئيات معدودة ولو تعلقت بأحد الأركان ما لم تنقضه وما لم يجعلها أصلاً يُفرق بها المسلمين.
بعض من يتبنى القول بجواز خوض المعترك السياسي يفترص افتراضات غير واقعية ليلبس بها على الناس.
فمثلاً افتراض عدم خوض غير العلمانيين المعترك السياسي غير واقعي إذا لم يمنع النظام خوض غير العلمانيين، فثمة مستقلون وعدد من الأحزاب غير العلمانية.
ولعل من أسباب كراهة السلف أسئلة الأرأيتيين خشية استغلالها اتباعاً للهوى، ولهذا يلزم المشايخ ألا يجيبوا على افتراضات غير واقعية إلا بعد معرفة غرض السائل وأثر الفتوى إذا نشرت في ظروف معينة.
وليست القضية مجرد دخول برلمان حتى يُجاب على افتراض غير واقعي، وإنما هي متعلقة بالأصلح بكل الاعتبارات.
وافتراض رفض غير العلمانيين خوض المعترك السياسي لا يقتضي وجوب إنشاء حزب سياسي، فهذا الرفض قد يدل على القدرة على تغيير النظام الحزبي.
العبرة في الإجماع ولا عبرة في مجرد الخلاف، وأما قول بعضهم بأن الخلاف إجماع على جواز الخلاف فلا يصح في المسائل التي صرح فيها بعض العلماء بأن الخلاف فيها غير معتبر والمسائل التي جزم فيها بعض العلماء بصحة أحد الأقوال.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: (الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة إلا من لا بصر له، ولا معرفة عنده، ولا حجة في قوله) [٢]. 
وإطلاق العمل السياسي على خوض المعترك السياسي خطأ بين، فالعمل السياسي ليس محصوراً فيه، بل هو سبيل الديمقراطية الوضعية الحزبية المخالف للسياسة الشرعية في أصله حتى عند من يقول بجوازه استثناءاً.
سواء كان الخلاف معتبراً أو غير معتبرٍ، فالعبرة بالراجح والحجة والبرهان.
ومن أفتى بالجواز إما أنه لم يتصور الواقع بكل جوانبه أو أن خلافه غير معتبر لثبوت رجحان ضرر خوض المعترك السياسي ثبوتاً قطعياً بالنظر والتجارب كثبوت ضرر السجائر.
والموازنات أحكام استثنائية لها شروط، وتعتبر فيها شروط الاضطرار إذا اقتضت فعل محرم لذاته أو ترك واجب، وتعتبر فيها شروط الاحتياج إذا اقتضت فعل محرم لغيره، وبعض هذه الشروط غير متحققة في الواقع المعاصر.
مثال عدم تصور المسألة؛ فتوى متداولة للشيخ ابن باز رحمه الله أذكر أنني قرأتها في وقتها في جريدة الراية السودانية التابعة لتنظيم الترابي المسمى وقتها الجبهة الإسلامية القومية، فقد كان موقف عامة السلفيين في السودان من مشايخ وقيادات تنظيمية ودعاة وعامة غير موقف الشيخ ابن باز رحمه الله، متفقون إلا من شذ على أن جماعة الترابي استغلوا عدم معرفة الشيخ ابن باز رحمه الله بتفاصيل يعرفها السلفيون في السودان لاستصدار هذه الفتوى للتأثير على بعض السلفيين.
الأصل في الحكم الاجتهادي أنه ظني، ولكن ثمة استثناءات، فما ثبت جواز الاجتهاد فيه قطعاً بنص أو إجماع قد يثبت حُكمه قطعاً بالعقل والتجربة، لا سيما أمور النوازل والحوادث المستجدة، مثال ذلك؛ تحريم السجائر لما فيه من ضرر وهو حكم شرعي يقيني الخلاف فيه غير معتبر.
ومن الأمثلة؛ قاعدة أن الكل أكبر من الجزء وهي حكم يقيني عقلي بدهي، ونظرية فيثاغورس وهي حكم يقيني عقلي نظري غير ضروري (غير بدهي ويحتاج إلى دراسة ونظر).
ومن كبار أئمتنا المعاصرين من أفتى بما مؤداه أن الخلاف في خوض المعترك السياسي في الظروف المعلومة في العالم الإسلامي غير معتبر، فالشيخ الألباني رحمه الله تعالى له كلام كثير معلوم حول المعترك السياسي خلاصته أنه خلاف المنهج السلفي وأنه بداية انحراف.
وهذا ما عليه كثير من العلماء والدعاة في السودان والأردن واليمن ومصر والعراق والجزائر والمغرب والهند وكل البلاد المسلمة وغير المسلمة، وهو ما تلقاه عوام أهل السنة بالقبول.
وأذكر بقول شيخنا الألباني رحمه الله تعالى للإخوة الجزائريين الذين فرحوا بفوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بنسبة تزيد عن ٩٠٪ في البلديات وظهور مصالح راجحة وقتها: (فقاعة ماء) وهذا ما حدث، فقد آلت المصالح الراجحة كلها إلى أضرار راجحة.
ويكفي هذا العمل شهادة أهله عليه أنه معترك وتحزب وخوض ولعب، بل ولعب قذر، فالحمد لله الذي عافانا
عمر عبداللطيف محمد نور
هلسنكي، فنلندة
الجمعة ٢٧ رجب ١٤٣١هـ، ٩ يوليو ٢٠١٠م
التعديل؛ الأحد ٢٠ رجب ١٤٤١هـ، ١٥ مارس ٢٠٢٠م

المصادر

[١] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج٢٨/ص٣٥٤-٣٥٥)، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
[٢] جامع بيان العلم وفضله (ج٢/ص٩٢٢)، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، السعودية، الطبعة الأولى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق