قطع أحد الودجين

بعض الإخوة في السويد يقولون بأنهم رأوا ذبح البقر وحسب ما بلغني فإن ناقل الخبر غير متأكد فيما إذا كان البقر يطعن في الوهدة أم في الجنب من الرقبة، ثم زعم أن الطعن في الجنب هو بمعنى قطع ودج واحد فقط، وهذا الأخ يعتمد فتوى وجدها في النت جمعت فيها أقوال لفقهاء فيما يجزئ من الذبح وزعموا أن أقلها الحلقوم والمرئ واستنتجوا من ذلك أن قطع ودج واحد لا يجزئ لعدم وجود قائل به في حد الذبح.
وقد نقلت الفتوى أقوال من يرى أن الحد هو الودجان، ومن يرى أنه الحلقوم والمرئ، ومن يرى ثلاث من الأربع (الودجان والمرئ والحلقوم)، ومن يشترط الأربع وهي الحلقوم والمرئ والودجان، وقد غفلت الفتوى عن أقوال للفقهاء فيها تحرير أوضح لمحل النزاع.
وقد غفلت الفتوى عن أقوال للفقهاء فيها تحرير لمحل النزاع، منها أن الطعن في غير الوهدة يعد نحراً، والأصل في النحر أنه للإبل والذبح للبقر والغنم.
والعقر للشارد من المستأنس، ويُسمي بعض الفقهاء صيد المستوحش عقراً، فالعقر والصيد معناهما واحد.
واضح عند النظر إلى النصوص وأقوال الفقهاء أن المقصود إنهار الدم، وعند النظر في مقاصد الشريعة فإن بقاء الدم فيه ضرر كما قرر ذلك أهل الاختصاص.
فالصيد لا يحل ما لم يُصِب بخارق يُسيل الدم أو جارحة معلمة تجرح وتسيل الدم أو تُدرَك حية فتذبح أو تنحر، والعقر مثل الصيد، والنحر فيه إنهار الدم وكذا الذبح.
خلاصة الكلام هو أنك لو نظرت في أقوال الفقهاء التالية وتأملتها، إضافة إلى تأمل أحكام الذكاة الشرعية من الذبح والنحر والعقر فستجد أنها جميعاً تدور حول قول النبي صلى الله عليه وسلم
: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل).
ولأن المقصود أنهار الدم ورد جواز العقر وهو اصطياد الحيوان الأليف إذا استوحش، فعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: (قُلتُ للنبيِّ صَلّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّنا نَلْقى العَدُوَّ غَدًا وليسَ معنا مُدًى، فَقالَ: ما أنْهَرَ الدَّمَ وذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُلُوهُ، ما لَمْ يَكُنْ سِنٌّ ولا ظُفُرٌ، وسَأُحَدِّثُكُمْ عن ذلكَ: أمّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وأَمّا الظُّفْرُ فَمُدى الحَبَشَةِ وتَقَدَّمَ سَرَعانُ النّاسِ فأصابُوا مِنَ الغَنائِمِ، والنبيُّ صَلّى اللهُ عليه وسلَّمَ في آخِرِ النّاسِ، فَنَصَبُوا قُدُورًا فأمَرَ بها فَأُكْفِئَتْ، وقَسَمَ بيْنَهُمْ وعَدَلَ بَعِيرًا بعَشْرِ شِياهٍ، ثُمَّ نَدَّ بَعِيرٌ مِن أوائِلِ القَوْمِ، ولَمْ يَكُنْ معهُمْ خَيْلٌ، فَرَماهُ رَجُلٌ بسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ، فَقالَ: إنَّ لِهذِه البَهائِمِ أوابِدَ كَأَوابِدِ الوَحْشِ، فَما فَعَلَ منها هذا فافْعَلُوا مِثْلَ هذا)، أخرجه البخاري (٥٥٤٣) [1]، واللفظ له، ومسلم (١٩٦٨) [2].
وتأمل ما يلي لمعرفة أن ادعاء الإجماع على أن قطع ودج واحد لا يجزئ غير صحيح؛ فالنحر يكفي فيه الطعن في اللبة ولا يشترط قطع الأوداج. كما يجوز فيه قطع ودج واحد وقطع الودجين. جاء في الذخيرة للقرافي ما يلي: (قال اللخمي: النحر في البقرة، ويجزئ منها ما أنهر الدم، ولم يشترطوا فيه الودجين والحلقوم كالذبح، وظاهر المذهب إجزاء الطعن ما بين اللبة والمنحر إذا كان في الودج; لأن عمر -رضي الله عنه- بعث منادياً: النحر في الحلق واللبة. ولا يكفي الطعن في الحلقوم لبقاء الحياة بعد شقه، وإذا وقع النحر في المنحر قطع الودجين; لأنه مجمعهما، ويجزئ قطع ودج) [3].
هذا إضافة إلى أن أكثر الفقهاء يرى جواز نحر الغنم والبقر. ورد في الشبكة الإسلامية فتوى فيها ما يلي: "وإن عكس المذكي فنحر البقر والغنم، أو ذبح الإبل فهو جائز عند الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة، لأن المقصود فري الأوداج، وإنهار الدم ليطيب به اللحم، ولأن الكل موضع للتذكية" [4].
هذا إضافة إلى كلام الماوردي رحمه الله تعالى في الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي والذي ذكر فيه جواز نحر البقر والغنم عن الإمامين الشافعي ومالك رحمهما الله تعالى [5].
ونُقل عن الإمام مالك أن النحر لا يشترط أن يكون في اللبة، كما ورد في كتاب منح الجليل شرح مختصر خليل: (واحتج بقول مالك رضي الله تعالى عنه ما بين اللبة والمذبح مذبح ومنحر فإن ذبح فيه جائز، وإن نحر فيه فجائز فأخذ منه أن النحر لا يختص باللبة) [6].
وقد نص الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى على أن الرقبة كلها محل للذبح والنحر. وهذا نص كلامه رحمه الله تعالى: (نعم؛ فالرقبة كلها محل للذبح والنحر أعلاها وأسفلها. لكن في الإبل، السنة نحرها في اللبة، أما البقر والغنم، فالسنة ذبحها في أعلى العنق؛ حتى يقطع بذلك الحلقوم والمريء والودجين كما تقدم) [7].
العبرة في الأحكام بمعانيها وليس بسمياتها. فلا معنى لاشتراطات بعض الفقهاء في حد الذبح. سميه ذبحاً أو نحراً، فالأدلة تدل على أن حده هو إنهار الدم. والإنهار يعني السيلان الغذير. وأن محله الرقبة في المقدور عليه، وكل الجسم في غير المقدور عليه مثل المستوحش أو الأليف الشارد. والأفضل النحر في الأبل والذبح في البقر والغنم والطيور ونحوها. قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى: (والخلاف في هذا طويل متشعب؛ لأنه ليس هناك نص واضح يدل على الاشتراط، لكن أقرب الأقوال عندي؛ أن الشرط هو إنهار الدم فقط، وما عدا ذلك فهو مكمل، ولا شك أن الإنسان إذا قطع الأربعة فقد حلت بالإجماع) [8].
ثم وجدت كلاماً لابن رشد المالكي رحمه الله تعالى ينقض ما ادعاه البعض من الإجماع على أنه لا يجزئ قطع ودج واحد، وهو قوله: (وسبب اختلافهم: أنه لم يأت في ذلك شرط منقول، وإنما جاء في ذلك أثران: أحدهما: يقتضي إنهار الدم فقط، والآخر يقتضي قطع الأوداج مع إنهار الدم.
ففي حديث رافع بن خديج أنه قال عليه الصلاة والسلام: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل". وهو حديث متفق على صحته، وروي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما فرى الأوداج فكلوا، ما لم يكن رض ناب أو نخر ظفر".
فظاهر الحديث الأول يقتضي قطع بعض الأوداج فقط، لأن إنهار الدم يكون بذلك، وفي الثاني قطع جميع الأوداج، فالحديثان والله أعلم متفقان على قطع الودجين: إما أحدهما، أو البعض من كليهما، أو من واحد منهما، ولذلك وجه الجمع بين الحديثين أن يفهم من لام التعريف في قوله عليه الصلاة والسلام: "ما فرى الأوداج: البعض لا الكل، إذ كانت لام التعريف في كلام العرب قد تدل على البعض) [9].
وأما مسألة النصراني يفتل عنق الدجاجة والتي نص عليها ابن العربي المالكي في قوله: (ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها هل تؤكل معه أو تؤخذ منه طعاماً. فقلت تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه)، فقد اعتمد عليها مفتي مصر سابقاً محمد عبده رحمه الله على أكل لحومهم سواء ذبحوا أم قتلوا، وانتصر لرأيه تلميذه محمد رشيد رضا رحمه الله، واعتمدها القرضاوي أيضاً في الإفتاء بحل لحوم النصارى مطلقاً.
وقد رد على هذا الاستدلال بعض أهل العلم، ومن جملة من رد عليه الإمام ابن باز رحمه الله تعالى، ورده موجود في؛ مجموع فتاوى ابن باز [10].
وكذا العلامة الشنقيطي كما هو في؛ دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب [11].
وكذلك رد على هذا الاستدلال الشيخ الفوزان حفظه الله تعالى، وكان من جملة رده قوله: (الأول: أن ابن العربي قد نقض فتواه هذه بما جاء في موضع آخر من تفسيره حيث قال [ص553 ج2]: (فإن قيل فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس. فالجواب أن هذا ميتة وهي حرام بالنص وأن أكلوها فلا نأكلها نحن كالخنزير فإنه حلال لهم (كذا قال) ومن طعامهم وهو حرام علينا))، [12].
ولما تأملت النقل وجدت أنه ورد بصيغتين وهما الفتل والاستلال، فهذا نص العبارة التي أوردها الفوزان نقلاً عن أحكام القرآن للقاضي ابن العربي رحمه الله: (ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها هل تؤكل معه أو تؤخذ منه طعاماً. فقلت تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه)، وأما العبارة التي ذكرها العلامة الشنقيطي من الموقع السابق فنصها (إذا عايناه يسل عنق الدجاجة بيده فلنا الأكل منها لأنها من طعامه والله أباح لنا طعامه).
والسل غير الفتل، فالسل هو انتزاع الشئ. والفتل هو لي الشئ. انظر في معنى السل والفتل لسان العرب، أنظر؛ لسان العرب (ج11/ص338) و لسان العرب (ج11/ص514)، [13].
وبناءاً على ما سبق فإنه يبدو لي أن النص الذي تصح نسبته لابن العربي هو السل وليس الفتل، لأنه يستبعد أن يبيح ابن العربي رحمه الله تعالى ما قتله الكتابي، خاصة مع نصه على حرمة ما قتلوه بنحو الخنق وحطم الرأس في موضع آخر من أحكام القرآن، لأن الفتل يجعلها داخلة في المنخقة وهي التي نص القرآن على تحريمها ما لم تذكى،  والسل يحدث به إنهار الدم وهو المقصود الشرعي من الذكاة، غير أن الفتل هو الوارد في؛ أحكام القرآن لابن العربي، [14].

المصادر

[1] صحيح البخاري (٥٥٤٣)
[2] صحيح مسلم (١٩٦٨).
[3] الذخيرة (ج4/ص133)، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1994م.
[4] مركز الفتاوى بموقع الشبكة الإسلامية » الأطعمة والأشربة والصيد » التذكية » أركان التذكية وشروطها» فروق بين الذبح والنحر (رقم الفتوى: 13939).
[5] كتاب الحاوي الكبير (ج4/ص377)، تحقيق؛ الشيخ علي محمد معوض - الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1419 هـ -1999م.
[6] منح الجليل شرح مختصر خليل (ج2/ص406)، دار الفكر، بيروت، 1409هـ/1989م.
[7] مجموع فتاوى ابن باز (ج18/ص27)، أشرف على جمعه وطبعه: محمد بن سعد الشويعر.
[8] الشرح الممتع على زاد المستقنع (ج15/ص74)، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى، 1422 - 1428هـ.
[9] بداية المجتهد ونهاية المقتصد (ج2/ص208)، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ - 2004م.
[10] مجموع فتاوى ابن باز (ج23/ص85)، أشرف على جمعه وطبعه: محمد بن سعد الشويعر.
[11] دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب (ج1/ص77)، [11]. الناشر؛ مكتبة ابن تيمية، القاهرة ، توزيع؛ مكتبة الخراز، جدة، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1996م.
[12] مجلة البحوث الإسلامية (ج7/ص246)، مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، عدد الأجزاء؛ 95.
[13] لسان العرب (ج11/ص338) و لسان العرب (ج11/ص514)، دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1414هـ.
[14] أحكام القرآن لابن العربي (ج2/ص38)، [14]. دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، 1424هـ - 2003م.
pdf
الذكاة الشرعية       المحتويات       هل اللحم في أوروبا من المتشابه الذي يجب تركه؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق