الشريعة أجل من أن تعرض على البرلمان

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديهم إلي يوم الدين.
طالب رئيس حزب سوداني الرئيس عمر البشير بعدم تطبيق الشريعة الإسلامية إلا بعد عرضها على البرلمان، ومن عباراته في مقال له شارحاً موقفه من تصريحات البشير بشأن تطبيق الشريعة: "تلك التصريحات تعارض كثيراً من مقتضيات نظام الحكم في البلاد الذي يعتمد الديمقراطية آلية لتدوال السلطة، وسناً للقوانين والدساتير".
ولازم قول رئيس الحزب المشار إليه جواز الحُكم بغير الشريعة، ولكن لا يجوز التكفير باللازم إذا لم يكن جلياً بدهياً، فهو قد لا يُجوِّز الحُكم بغير الشريعة شرعاً ورضاً بذلك، فقد يكون متأولاً تأويلاً غير سائغ في قوله بعدم جواز إكراه الناس عليها مع إيجابه الحكم بالشريعة شرعاً.
وبما أن وجوب تحكيم الشريعة في المسلمين طوعاً وكرهاً معلوم من الدين بالضرورة، فإن الدعوة إلى ما يخالف ذلك من البدع الخطيرة المهلكة التي يجب استتابة صاحبها.
والمسلمون مجمعون على وجوب تحكيم الشريعة في المسلمين طوعاً وكرهاً عند القدرة في الدماء والأموال والأعراض ونحوها من أحكام المعاملات، والنصوص تدل على وجوب تحكيم الظاهر المتواتر منها في أهل الذمة، والفقهاء مجمعون على وجوب إجراء بعضها على أهل الذمة عند القدرة مع خلافهم في بعض.
وأما الأمور الدينية فإن أولى واجبات الحكام هي رعاية مصالح المسلمين الدينية ودعوة غير المسلمين إلى الشهادتين من غير إكراه لهم للدخول في الإسلام على الأرجح خلافاً للشافعي رحمه الله تعالى ومن قال بقوله ممن يرى أن الجزية لا تقبل إلا من أهل الكتاب وممن لهم شبهة كتابة، وخلافاً لمن استثنى مشركي العرب [1].
والله عز وجل يقول في محكم كتابته: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}.
فهذه الآية تشمل في المعنى إكراه المسلمين على أحكام الشريعة الظاهرة المتواترة التي يكفر جاحدها.
فقد أجمع المسلمون على أن المرتدين الزنادقة والمحرفين لأحكام الدين يجب على الحكومة المسلمة القادرة قتلهم إن كانوا أفراداً وقتال الطائفة الممتنعة منهم.
فيجب قتل المرتد المحرف لأحكام الدين والمحارب بعد استتابتهما على الراجح، ويجب قتل الزنديق من غير استتابة على الراجح وحكمه يوم القيامة إلى الله تعالى [2].
وأما الطائفة الممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة كمانعي الزكاة؛ فيجب على الحكومة المسلمة القادرة قتالهم بلا نزاع بين المسلمين في وجوب قتالهم، وإن أقروا بوجوب ما امتنعوا عنه [3].
بل الراجح وجوب معاملة الجميع بمن فيهم من أقر بالوجوب معاملة الكفار عند القتال وبعد إقامة الحجة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللهُ تعالى: (وكذلك مانعوا الزكاة فإنَّ الصدِّيق والصحابة ابتدؤوا قتالهم، قال الصديق: واللهِ لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، وهم يقاتلون إذا امتنعوا من أداء الواجبات وإن أقرُّوا بالوجوب.
ثم تنازع الفقهاء في كفر من منعها وقاتل الإمام عليها مع إقراره بالوجوب، على قولين، هما روايتان عن أحمد، كالروايتين عنه في تكفير الخوارج.
وأمَّا أهل البغي المجرَّد فلا يُكفَّرون باتفاق أئمة الدِّين، فإنَّ القرآن قد نصَّ على إِيمانهم وأخوَّتهم مع وجود الاقتتال والبغي. واللهُ أعلم) [4].
وقال أيضاً رحمه اللهُ تعالى: (وهذا كله مما يبيِّن أنَّ قتال الصدِّيق لمانعي الزكاة، وقتال علي للخوارج، ليس مثل القتال يوم الجمل وصفِّين، فكلام علي وغيره في الخوارج يقتضي أنهم ليسوا كفاراً كالمرتدِّين عن أصل الإسلام، وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره، وليسوا مع ذلك حكمهم كحكم أهل الجمل وصفِّين، بل هم نوع ثالث، وهذا هو أصحُّ الأقوال الثلاثة) [5].
وقد أضفتُ إلى كلام ابن تيمية السابق: (ويظهر والله أعلم أنهم لا يعاملون حتى عند القتال معاملة الكفار إلا بعد إقامة الحجة عليهم لأن علياً رضي الله عنه ناظر الخوارج قبل قتالهم وأقام الحجة عليهم ولقرب عهد مانعي الزكاة بالرسالة وتوافر العلم والصحابة رضي الله عنهم) [6].
وقال أيضاً: (كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين، وإن تكلمت بالشهادتين.
فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا، وإن امتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة، وكذلك إن امتنعوا عن صيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق.
وكذلك إن امتنعوا عن تحريم الفواحش أو الزنا أو الميسر أو الخمر أو غير ذلك من محرمات الشريعة.
وكذلك إن امتنعوا عن الحكم في الدماء والأموال والأعراض والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة.
وكذلك إن امتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار إلى أن يسلموا ويؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
وكذلك إن أظهروا البدع المخالفة للكتاب والسنة واتباع سلف الأمة وأئمتها، مثل أن يظهروا الإلحاد في أسماء الله وآياته أو التكذيب بأسماء الله وصفاته أو التكذيب بقدره وقضائه أو التكذيب بما كان عليه جماعة المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين أو الطعن في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان أو مقاتلة المسلمين حتى يدخلوا في طاعتهم التي توجب الخروج عن شريعة الإسلام وأمثال هذه الأمور) [7].
ومعظم النار من مستصغر الشرر، فإن إنكار وجوب تحكيم الشريعة طوعاً وكرهاً في المسلمين بجهل أو تأويل يعود على قواعد الدين بالنقض، فإن الله عز وجل ما أرسل من رسول ولا بعث من نبي إلا ليطاع فيما شرعه الله عز وجل لهم بدءاً بالتوحيد وانتهاءً بآخر أحكام الدين.
قال الله جل ثناؤه:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ}، فما من رسول إلا ودعا قومه إلى الدخول في الطاعة في أمر التوحيد ثم ما دونه {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ}.
بل هذا هو أصل الدين الذي به يدخل غير المسلم في الإسلام ومعنى الركن الأول من أركان الإسلام وهو شهادة ألا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، فشهادة أن محمداً رسول الله تعنى طاعته فيما أمر.
ومعنى الإسلام الاستسلام والانقياد والإذعان لأمر الله تعالى، ولا فرق بين شرك التشريع وشرك العبادة  {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ}، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}.
وأما قول رئيس الحزب بأنَّ الحاكم لا يكفر بمجرد تحكيم غير الشريعة فهو الصواب، ولكن لا أظنه ينازع في أن الحاكم يكفر إذا كان يرى جواز الحُكم بغير الشريعة رضاً بذلك، وكذا من اتخذ غير الشريعة فكراً ومنهجاً وديناً.
ولو أنَّه تحدث عن تعليق تطبيق بعض الحدود لظرف معين كما حدث في عام الرمادة، أو مراعاة للتدرج في تطبيق الأحكام، أو عن ضرب الجزية على غير المسلمين حالة ضعف المسلمين، لكان كلامه محل نظر واجتهاد.
والبرلمان الحالي ليس هيئة علمية تنظر في الأحكام على ضوء الشريعة، فلا يجوز التساهل مع أمثال هؤلاء المتعجلون في معلوم من الدين بالضرورة خاصة بعد تصريح رئيس الحزب بتبني الديمقراطية بكل ما فيها بقوله: "وسناً للقوانين والدساتير".
والشريعة الإسلامية جاءت لتحقيق مصالح البشر جميعاً مسلمهم وكافرهم، فالربا ضرر على المجتمعات مسلمة كانت أم غير مسلمة، وهكذا الخمر والزنا والفواحش وسائر المحرمات كلها ضرر على الناس في معاشهم قبل معادهم.
ومع اختلاف الفقهاء في إجراء بعض الأحكام الإسلامية على أهل الذمة، فإنهم متفقون على إجراء بعضها عليهم، ولهذا اتفق الفقهاء على أن دار الإسلام هي الدار التي يحكمها المسلمون ويحكمونها بالإسلام ولو كان غالب أهلها كفار.
والآيات في وجوب الحكم بما أنزل الله ولو كان المحكومين غير مسلمين محكمة، من ذلك قول الله عز وجل في شأن نفر من اليهود تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ}.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بالخيار أول الأمر بين الحكم بينهم أو الإعراض عنهم ثم نُسخ الحكم بوجوب الحكم بينهم بما أنزل الله، ولكن حتى قبل الوجوب لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بغير شرع الله {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ۚ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
ولعل هذا هو السبب الذي جعل ابن القيم رحمه الله تعالى يرى استثناءهم من أحكام الشريعة عند قوة شوكتهم ورفضهم لأحكام الشريعة، وإذا كان الأمر كذلك فإنما يسمح لهم عند الضرورة بإقامة محاكم بأنفسهم يحكمون فيها بما يرونه من أحكام، ولا يجوز للقاضي المسلم أن يحكم بينهم بغير الشرع إذا تحاكموا إليه، قال ابن القيمِّ رحمه الله تعالى: (إذا قويت شوكة قوم من أهل الذمَّة وتعذَّر إلزامهم بأحكام الإسلام أقررناهم وما هم عليه فإذا ذلوا وضعف أمرهم ألزمناهم بذلك) [8].
وكلام ابن القيم رحمه الله في أهل ذمة كانت تسري عليهم أحكام الإسلام في المعاملات ثم تمردوا عليها، فهؤلاء ليس في إلزامهم عند القدرة غدرٌ، لعدم وجود عهد سابق على ترك إجراء أحكام الإسلام عليهم، ولأن أحكام الشريعة الدنيوية في مصلحتهم.
والشريعة جاءت بحفظ الحقوق، وأول حق تحفظه الشريعة هو حق الله عز وجل بعبادته وحده لا شريك له، والمسلمون لا يحتاجون إلى إكراه الناس لكفالة هذا الحق لأن الله جل ذكره نهاهم عن ذلك، فهو جل ثناؤه قادر على كل شئ، وهو غني عن إكراه غير المسلمين للدخول في الدين {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.
فالحرية لها ضوابط، ولا خلاف في أن حرية الاختيار هي أصل الخلق ومبدأ التكليف، أصل الخلق لأن الله عز وجل لو شاء لآمن الناس، ومبدأ التكليف لأن الإكراه ينافي الابتلاء، والله تعالى إنما خلق الناس للابتلاء {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}، بل حتى المسلم لا يُكره على كثير من المسائل من العقود ونحوها {إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ}.
وأما إذا أراد رئيس الحزب التنازل للمجتمع الدولي حتى لا يقضي الكفَّار على رموز الشريعة في السودان، فهل أجدى تنازل صدام حسين للأمريكان؟ لقد قبل صدام كل الشروط، وكان آخرها تدمير آخر خمس صواريخ عنده، ليُسهِّل للقوات الأمريكية والحليفة احتلال العراق دون خسائر في صفوف التحالف، وها هو ذا القذافي يستنجد بالغرب لحماية مصالحهم ضد من أسماهم بتنظيم القاعدة، وإذا بهم يضربونه من كل حدب وصوب.
إنَّ إذا أراد رئيس الحزب التنازل للمجتمع الدولي حتى لا يقضي الكفَّار على رموز الشريعة في السودان، فهل أجدى تنازل صدام حسين للأمريكان؟
لقد قبل صدام كل الشروط، وكان آخرها تدمير آخر خمس صواريخ عنده، ليُسهِّل للقوات الأمريكية والحليفة احتلال العراق دون خسائر في صفوف التحالف.
وها هو ذا القذافي يستنجد بالغرب لحماية مصالحهم ضد من أسماهم بتنظيم القاعدة، وإذا بهم يضربونه من كل حدب وصوب. 
إنَّ المصالح الاستراتيجية لا تجدي معها هذه التنازلات، وإنما السياسة الشرعية أن ندفع الشر بالأخف تفويتاً للأضر وكسباً للوقت لصالح المسلمين ومكراً بأعدائهم.
فلنتق الله عز وجل في الإسلام وفي أنفسنا ولا نتجاوز المشروع في السياسة الشرعية، والله الهادي إلى سواء السبيل.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لينشوبنج، السويد
يوم السبت 21 ربيع الثاني 1432هـ، 26 مارس 2011م

المصادر

[1] آيات السيف والبراءة.
[2] حُكم المُرتد.
[3] الممتنعون عن الشرائع الظاهرة المتواترة.
[4] مجموع الفتاوى (ج34/ص57)، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
[5] مجموع الفتاوى (ج30/ص518)، الطبعة السابقة.
[6] الممتنعون عن الشرائع الظاهرة المتواترة.
[7] مجموع الفتاوى (ج28/ص510-511)، الطبعة السابقة.
[8] أحكام أهل الذمة (ج2/ص768)؛ ذكر نكاح أهل الذمة ومناكحتهم » فصل نقر أهل الذمة على الأنكحة الفاسدة بشرطين، تحقيق؛ يوسف بن أحمد البكري و شاكر بن توفيق العاروري، الناشر؛ رمادى للنشر – الدمام، الطبعة الأولى، 1418 - 1997.
pdf
رجوع إلى قسم شبهات وردود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق