داعية يمتطي سيارة آخر موديل!

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدِّين.
في لقاءٍ مع أحد الدعاة حول المكاسب المادية التي فُتحت على الدعاة إلى الله عز وجل في السنين المتأخِّرة قال أحد الدعاة؛ "أعرف أحد الدعاة يركب سيارة ليكسوز موديل 2007 من ريع العمل في القنوات الإعلامية، وهذا من فضل الله عز وجل علينا".
فمع ظهور القنوات الإعلامية الفضائية وانتشار الصحوة الإسلاميَّة أضحى الإعلام الإسلامي أحد أهم وسائل استقطاب المشاهدين، والإشهار التجاري من أهم وسائل زيادة المبيعات، وتبذل الشركات الكبرى أموالاً كثيرة في التسويق والإشهار التجاري.
هذا الواقع الجديد جعل للداعية المفوَّه والخطيب البارع وضعية جديدة لم يكن يحسبها الكثيرون من قبل، وأصبح بعض الدعاة يكسب الملايين عبر الشاشات الفضائية والمواقع الإلكترونيَّة وغيرهما من الوسائل الإعلاميَّة.
وهذه وسيلة من وسائل الكسب المباح، وهذا الكسب من فضل الله عز وجل على الدعاة، ولكن من المستحب ألا يسرف المسلم في المباحات، ويصبح الأمر أكثر تأكيداً إذا كان الكسب من أعمال الآخرة والعبادات.
وليس من المصلحة أن يترك الداعية فائدة عمله للقنوات الإعلامية، ولكن بإمكانه أن ينفق المال في سبل الخير والدعوة بدل الإغراق في المباحات.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من غازية تغزو في سبيل الله تبارك وتعالى، فيصيبوا غنيمةً إلَّا تعجَّلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث، فإن لم يصيبوا غنيمة تمَّ لهُم أجرُهُم)، أخرجه مسلم.
الزهد المستحب هو ترك فضول المباح، وليس هو ترك الكسب قل أو كثر، ولا يوجد ما يدل على أن الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر ولا أن الغني الشاكر أفضل من الغني الصابر، وفي الحديث؛ (إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
ولكن دلت الأدلة على أن الغنى أفضل من الفقر إذا كان صاحبه ينفقه في سبيل الله، كما دلت الأدلة على استحباب طلب المال إذا كان للإنفاق في سبيل الله عز وجل وليس للإغراق في المباحات، فالغنى أفضل من الفقر وليس الغني أفضل من الفقير ولا العكس.
وإذا كان الزهد المستحب حسناً من عوام الناس فهو في شأن الدعاة آكد، لأن الدعاة هم القدوة لغيرهم، فإذا زهد الدعاة والعلماء في الدنيا كانوا قدوة للناس في عمل الخير، وأما إذا أغرقوا في المباحات فإن هذا مما يغري بعملهم عوام الناس.
وإنَّ زهد الداعية والعالم وطالب العلم في الدنيا أدعى لسماع الناس منه وقبولهم لنصحه ورأيه وتوجيهه، ولا يخفى على الداعية إلى الله عز وجل أنَّ الزهد خير للرجل ولأهله في الدنيا والآخرة {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
فإذا لم يقنع الداعية بالبساطة فالوسط العرفي في المباحات لحديث؛ (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)، ولأن كثيراً من الأحكام معلقة بوسط حال أهل القرية أو المدينة {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}، والمرأة إذا لم يسمَّ صداقها فلها مهل المثل.
إنَّ الإغراق في المباحات والترف والرفاهية تؤدِّي إلى الركون إلى الدنيا ونسيان الآخرة، وقد تحمل طالب العلم والعالم والداعية على ما لا يرضي الله عز وجل في عمله، وفي الحديث: {مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ}.
والفتن التي كثرت في السنوات الأخيرة هي من آثار الترف والركون إلى الدنيا، وقد كان من فقه الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما جئ بكنوز كسرى بكى، فقيل له: (هذا يوم فرح وسرور وشكر لله عز وجل، فقال: ما أعطى الله هذا قوماً قط إلا ألقى بينهم العداوة والبغضاء).
وما من أمر أمر الله عز وجل به أو أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ سواء كان على وجه الاستحباب والندب أو على وجه الوجوب والفرض، إلا كان سبباً للسعادة في الدارين، وذلك لأن القلب إذا انشغل عن الدنيا أمكن شغله بعمل الآخرة وذكر الله عز وجل، وبذكر الله عز وجل تسعد النفوس وتطمئن القلوب، لأن ذكر الله عز وجل هو غذاء الروح وطمأنينته كما أن الطعام هو غذاء البدن، قال الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
وأما تنعيم البدن أو امتاع النفس بالتفاخر فإنه لن يجلب إلا سعادة زائفة، وذلك لأن التكاثر والتفاخر ليس له حدود، والبدن لا يشبع من المتاع، والنفس لا تشبع من الإعجاب، ولهذا قيل "إنما الغنى غنى النفس".
وقد جاء في الحديث الذي خرجه مسلم في صحيحه: (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب).
ومن تعلق قلبه بالدنيا ونعيمها الزائل فلن يهدأ له بال ولن تستقر له نفس، فتجده إن حصل مراده منها قلقاً متوتراً خشية زوال ما جمع وحصل من نعيم زائل، وإن فاته شئ مما أراد تحصيله جزع وفزع، وإن أصيب بجائحة ومصيبة أذهبت ماله فتلك قاصمة ظهره، مفوتاً بذلك سعادة الدنيا والأجر في الآخرة على الصبر والاحتساب.
وإنما السعادة في امتثال ما أمر الله عز وجل به {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: (إنَّ الناس كلما ازدادوا في الرفاهية وكلما انفتحوا على الدنيا؛ انفتحت عليهم الشرور.
إنَّ الرفاهية هي التي تدمِّر الإنسان؛ لأن الإنسان إذا نظر إلى الرفاهية وتنعيم جسده؛ غَفل عن تنعيم قلبه، وصار أكبر همه أن ينعِّم هذا الجسد الذي مآله إلى الديدان والنتن.
وهذا هو البلاء، وهذا هو الذي ضر الناس اليوم، فلا تكاد تجد أحداً إلَّا ويقول: ما هو قصرنا؟ وما هي سيارتنا؟ وما هو فرشنا؟
حتى الذين يدرسون العلم بعضهم إنَّما يدرس من أجل أن ينال رتبة أو مرتبة يتوصل بها إلى نعيم الدنيا، ما كأن الإنسان خلق لأمر عظيم.
والدنيا ونعيمها إنَّما هو وسيلة فقط، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم نستعمله كوسيلة)، شرح رياض الصالحين: (باب المبادرة إلى الخير) المجلد الثاني.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم).
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لينشوبنج، السويد
يوم الأثنين 16 ربيع الثاني 1432هـ، 21 مارس 2011م
pdf

رجوع إلى قسم إرشادات 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق