التقليد

رجوع إلى قسم قواعد وأصول
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن سلك سبيلهم إلى يوم الدين.
وبعد.
فهذا كلام مختصر عن التقليد، كتبته لتمييز الحق من الباطل فيه، وذلك لأنَّ التقليد هو السبيل إلى التعصُّب، وهو المدخل الذي يؤدِّي إليه.
فالتقليد هو قبول قول من ليس قوله حجة من غير معرفة مأخذه.
واتباع العالم هو قبول قوله بعد معرفة مأخذه.
والاجتهاد هو استفراغ الوُسع لاستنباط حُكم شرعي واستخراج أصول فهمه وقواعده وعلله من الأدلة التفصيلية.
والاتباع أوسع من اتباع العلماء، وهو قبول قول كل من يوجب الدليل قبول قوله، فيشمل قول من قوله حجة (الكتاب والسنة) وقول من أورد الحجة على صحة قوله.
واتباع العالم يشمل ترجيح طالب العلم وما هو دون ذلك مما يستطيعه العامي من معرفة الدليل.
وفي هذا المقال بيان أن هذا التقسيم الثلاثي لا يعني أنَّ كل قسم درجة واحدة.
وهذه القسمة الثلاثية أفضل مما جرى عليه كثير من الأصوليين من التقسيم الثنائي؛ تقليد واجتهاد، ففي القسمة الثلاثية تفصيل حسن وإزالة لبس.
والإجمال فيما يقتضي التفصيل سبب في التباس الفهم وزلل الألسنة والآراء.
فإن قيل بدخول الدرجات الدنيا من الاتباع في التقليد بسبب أن المعرفة الناقصة للحجة لا تُعتبر، فجوابه أن من علامات إصابة الحق في المسألة يسر فهمها، والنصوص أيسر فهماً وأجمع كلماً؛ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}، وأما ما عسر فهمه من المسائل؛ فالتقليد الجزئي أفضل، فتقليد عالم اشتهر وذاع صيته في تصحيح الحديث وتضعيفه مثلاً أفضل من تقليد عالم في حُكم المسألة بكاملها.
ولا يصح إدخال الدرجات الدنيا من الاتباع في الاجتهاد لأنه استفراغ للوسع، ومن كان في بحثه معنى الترجيح والتقليد لم يستفرغ وسعه لتحصيل الحُكم الشرعي.
وثمة نظر في إدخال الترجيح في الاجتهاد بمجرد النظر في الأقوال من غير استنباط أو استخراج، إذ لو كان الأمر كذلك لما كان ثمة فرق يُذكر بين المُرجح والمجتهد.
وإن قيل بإدخال الاتباع في التقليد تغليباً كإدخال المُباح في الأحكام التكليفية، فجوابه أن الأصل الغالب في الأحكام الخفية هو اتباع العالم ما استطاع المكلف إلى ذلك سبيلاً، وذلك لأن ما يجب على العامي معرفته من الأحكام قليل، ولأن النصوص أيسر فهماً وأجمع كَلِماً.
فلا تجب مثلاً معرفة أحكام الصرف إلا لمن يحتاجها، بل لا تجب معرفة أحكام الحج إلا لمن استطاع إليه سبيلاً، وهكذا قل في زكاة الأبل وغيرها من الأحكام المتعلقة بأصول أو فروع.
وأما تسمية المقلد مقلداً فهي من باب أن دائرة ما يُقلد فيه أوسع من غيره.
وقد نسب الألباني رحمه الله تعالى التقسيم الثلاثي إلى عدد من المحققين السابقين والمحدثين وذكر عدداً منهم.
قال الألباني رحمه الله تعالى: (هناك طريقة وسط بين الطريقتين -الاجتهاد والتقليد- ألا وهي طريقة الاتباع.
وهذا اصطلاح علمي جرى عليه كثير من المحققين، القدامى والمحدثين، كمثل حافظ الأندلس أبو عمر بن عبد البر، فقد جعل العلم ثلاث طبقات: اجتهاد، واتباع، وتقليد، وعلى ذلك جرى من بعده من أهل التحقيق كـابن تيمية، وابن القيم وغيرهما.
فطريقة الاتباع فيها حل للمشكلة، وقضاء على التقليد الذي عم وطم في بلاد الإسلام، وليست طريقة الاجتهاد كما يظن الظانون والباغون المفترون اليوم) [1].
وهذا التقسيم الثلاثي يتوافق مع تقسيم الناس إزاء الأحكام الخفية، وهو تقسيم الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى، وهو ما اصطلح عليه المعاصرون من تقسيم الناس إلى عالم مجتهد وطالب علم ينظر في الأدلة وعامي مقلد.
قال ابن خويز منداد البصري المالكي رحمه الله تعالى: (التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائلة عليه، وذلك ممنوع منه في الشريعة، والاتباع: ما ثبت عليه حجة.
وقال في موضع آخر من كتابه: كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قبوله بدليل يوجب ذلك فأنت مقلده، والتقليد في دين الله غير صحيح، وكل من أوجب الدليل عليك اتباع قوله فأنت متبعه، والاتباع في الدين مسوغ، والتقليد ممنوع) [2].
والتقليد منه ما هو محرم، ومنه ما هو جائز.
ومن أمثلة التقليد المحرم تقليد عالم في مسألة خالف فيها النص، ومن أمثلته تقليد من ليس أهلاً للتقليد، وهو تقليد الجاهل، ومنه تقليد المشركين لآبائهم؛ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗأَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [3].
ويمكن تقسيم التقليد إلى قسمين؛
الأول؛ تقليد العلماء دون التزام واحد معين أو جماعة بأعيانهم في مسائل غير معيَّنة.
والثاني؛ تقليد لمعيَّن أو لمعيَّنين في كل مسائل الفقه والدين أو في مسائل بعينها.
فأما القسم الأول من التقليد فهو جائز بإجماع المسلمين إذا عجز المسلم عن معرفة الحق بأدلته، سواء عجز عجزاً حقيقاً أو استطاع ذلك مع المشقَّة والحرج.
وذلك لأنَّ الأصل اتباع النص من الكتاب والسنة، وإنما جاز التقليد للضرورة والحاجة، لأنَّ الإنسان لا يستطيع أن يحيط علماً بكل المسائل لا سيما العوام، ولأن النص فيه المنسوخ والمخصَّص والمقيَّد ونحو ذلك مما قد يحتاج إلى دراسة ونظر وتأمَّل لا سيَّما في المسائل الخفية الدقيقة. 
وأمَّا القسم الثاني وهو تقليد معيَّن أو معيَّنين كالتزام أحد مذهب من المذاهب الأربعة أو مذهب جماعة من العلماء، إما في مسائل بعينها، أو في جميع ما في المذهب أو فتاوى المعيَّنين من الرخص والعزائم في كل مسائل الفقه؛ فهو مذموم، سواءٌ قيل بجواز هذا الالتزام أو قيل بوجوبه.
فأما تقليد عالم واحد في كل الدين فظاهر الحرمة بإجماع المسلمين، ومقلِّدة المذاهب لا يلتزمون مذهب إمام المذهب، وإنما يلتزمون المُتبع في المذهب، ففي المذهب الحنفي مثلاً يأخذون في أكثر المسائل بقول زفر ومحمد بن الحسن في العبادات وقول أبي يوسف في المعاملات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فإنه متى اعتقد أنه يجب على الناس اتباع واحد بعينه من هؤلاء الأئمة دون الإمام الآخر فإنه يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل. بل غاية ما يقال: إنه يسوغ أو ينبغي أو يجب على العامي أن يقلد واحداً لا بعينه من غير تعيين زيد ولا عمرو) [4].
وقال أيضاً: (وليس لأحد أن يتخذ قول بعض العلماء شعاراً يوجب اتباعه وينهى عن غيره مما جاءت به السنة; بل كل ما جاءت به السنة فهو واسع) [5].
فلا دليل على جواز تقليد معيَّن أو معيَّنين في كل الدين ولا وجوبه، وإذا كانت أقوال النبي صلى الله عليه وسلم فيها الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمطلق والمقيد والصحيح والضعيف، فهذا موجود في المذاهب.
فالمذهب فيه القديم والجديد، ونصوصه لا تخلو من العموم والخصوص ونحو ذلك.
وكيف للعامي أن يقلد وهو عامي؟ فأين يوجد العامي الذي يتمذهب بمذهب من المذاهب الأربعة من غير عالم يرشده إلى الراجح في المذهب ونحو ذلك؟ والمعلوم أن العالم لا يجوز له أن يقلِّد مذهباً معيناً في كل المسائل الفقهية، فكيف يجوز له أن يرشد العامي إلى ما يعلم مخالفته للنص أو الصواب الذي ترجَّح عنده بالحجة والدليل؟
وبسبب أنَّ المذهب فيه العموم والخصوص والقديم والجديد ونحو ذلك، تجد علماء المذهب يختلفون مثلاً في قول الإمام أو علماء المذهب، وقد يكون سبب الاختلاف فهم كلام الإمام أو علماء المذهب، وتجدهم يختلفون في الراجح في المذهب ونحو ذلك من خلافات في المذهب الواحد.
والحق هو أنَّ كلام البشر ليس أيسر في الفهم من القرآن والسنة، والله عز وجل يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}.
وكلام البشر يعتريه النقص، ولهذا يقولون: "لازم المذهب ليس بلازم حتى يلتزمه صاحبه"، وذلك لأنَّ الإنسان قد يقول كلاماً لازمه باطل وهو ذاهل عن لازمه لإعياء ونحو ذلك، وهذا في اللازم الخفي أو الجلي غير البدهي الذي يحتاج إلى تأمل، بل قد يقول من هو في مرتبة عالية القول لهوىً عارض خفي لا يشعر به صاحبه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ومما يتعلق بهذا الباب أن يعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة، أهل البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظن، ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين) [6].
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: (العلم النافع هو الذي جاء به الرسول دون مقدرات الأذهان ومسائل الخرص والألغاز.
وذلك بحمد الله تعالى أيسر شيء على النفوس تحصيله وحفظه وفهمه، فإنه كتاب الله الذي يسره للذكر كما قال تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}.
قال البخاري في صحيحه: قال مطر الوراق: هل من طالب علم فيعان عليه؟ ولم يقل: فتضيع عليه مصالحه وتتعطل معايشه عليه.
وسنة رسوله وهي بحمد الله تعالى مضبوطة محفوظة، وأصول الأحكام التي تدور عليها نحو خمسمائة حديث، وفرشها وتفاصيلها نحو أربعة آلاف حديث.
وإنما الذي هو في غاية الصعوبة والمشقة مقدرات الأذهان وأغلوطات المسائل والفروع والأصول التي ما أنزل الله بها من سلطان التي كل ما لها في نمو وزيادة وتوليد، والدين كل ما له في غربة ونقصان، والله المستعان) [7].
فالقول بجواز التزام مذهب معين أو معيَّنين في كل مسائل الفقه أو في مسائل بعينها خطأ بيِّن، وأما القول بوجوبه فأكثر بعداً عن الصواب، ولم يرد عن السلف تعيين علماء بأسمائهم وجعل أقوالهم حجة يلزم اتباعها والإفتاء بها، لا علماء بلدة ولا غير ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ولهذا لم يذهب أحد من علماء المسلمين إلى أنَّ اجماع أهل مدينة من المدائن حجة يجب اتباعها غير المدينة، لا في تلك الأعصار ولا فيما بعدها، لا اجماع أهل مكة، ولا الشام، ولا العراق، ولا غير ذلك من أمصار المسلمين.
ومن حكى عن أبي حنيفة أو أحمد أو أحد من أصحابه أنَّ اجماع أهل الكوفة حجة يجب اتباعها على كل مسلم فقد غلط على أبي حنيفة وأصحابه في ذلك.
وأما المدينة فقد تكلَّم الناس في اجماع أهلها، واشتهر عن مالك وأصحابه أنَّ اجماع أهلها حجة، وإن كان بقية الأئمة ينازعون في ذلك.
والكلام إنما هو في اجماعهم في تلك الأعصار المفضلة، وأما بعد ذلك فقد اتفق الناس على أنَّ اجماع أهلها ليس بحجة، إذ كان في غيرها من العلماء ما لم يكن فيها، لا سيما من حين ظهر فيها الرفض) [8].
والناس ينقسمون من حيث النظر في الأدلة إلى مقلد ومرجِّح ومجتهد.
فالمقلد من لا يعرف الحجة والدليل في المسألة.
والمرجِّح من ينظر في أقوال المجتهدين وأدلتهم، والترجيح هو أعلى درجات اتباع العالم.
والمجتهد هو من يستنبط الحُكم أو الفهم من مصادره الأصلية، وقد يُحدث قولاً فيما يجوز فيه إحداث قول من غير مخالفة للنص والإجماع.
وهذه الأقسام متداخلة شأنها شأن أكثر التقسيمات، فهي لا تعني أن هذه الأصناف هي على هذا الوصف في كل مسألة من المسائل، وإنما تعني أنَّ دائرة التقليد أو الترجيح أو الاجتهاد أوسع في المسائل الدقيقة الخفية عند كل صنف من هذه الأصناف كلٌ بحسبه.
بمعنى أنَّ المجتهد المطلق ليس مجتهداً في كل المسائل وإنما في مسائل كثيرة، فقد يكون مرجحاً لقول غيره وقد يكون مقلداً، وقد رُوي عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال: "قلدت في هذه المسألة فلاناً وفلاناً"، والإمام الألباني رحمه الله تعالى كان يقول أحياناً: "لم أدرس السند ولكن حسنه فلان أو صححه فلان".
فكذلك المقلِّد هو من كانت دائرة التقليد عنده أوسع من غيره في المسائل الخفية والمختلف فيها.
وكذلك المرجِّح قد يمكنه الاجتهاد في بعض المسائل.
بل يمكن نظرياً حتى للمقلد أن يجتهد في المسألة ويصل إلى الرأي الصحيح ولا يصل إليه العالم النظري، ولكنه لا يجوز عملياً.
وأما من حيث النظر فهو ممكن بل هو واقع حتى في الطب وغيره من العلوم وثمة أمثلة عديدة على هذا، غير أنه لا يجوز لغير الطبيب أن يطبب الناس ولا أن يتناول دواءاً من غير استشارة الأطباء، لأنه قد تكون عنده حساسية ضد الدواء تقتله، وهكذا يقال في المسائل الفقهية.
وفي الواقع العملي لا يوجد من يقلد في كل شئ حتى من يدعو إلى التقليد تراه يجادل حتى أهل العلم في جواز التقليد أو وجوبه.
ومن آفات الفهم ما يُسمى بعمى الألوان، بل عمى درجات البياض والسواد، فالتقليد درجات، وهكذا الاتباع درجات والاجتهاد درجات.
فلا يجوز تقليد من ليس له علم، وهذه أقل درجات التقليد الجائزة، وأرفع منها أن يعرف مَنْ مِن العلماء برع في الفقه والتفسير والحديث ونحو ذلك، وهكذا.
وكذا الاتباع درجات، فالمرجِّح قد ينظر في الأدلة ويتأمل ويبحث ويدقق، وقد لا يبحث المسألة ويكتفي بمعرفة حجة القائل ودليله دون النظر في حجة المخالفين وأدلتهم.
والعامي يُقلد ويتبع العلماء غالباً، فلا يرجح ولا يجتهد، وإذا رجح في بعض المسائل فإنه لا يرجِّح في الغالب بدرجة طالب العالم.
واتباع العامي للعالم في المسائل قد لا يتعسر على العامي فضلاً عن أن يتعذر.
وتقدم أن الفرق بين تقليد العالم  واتباعه هو أن الأول من غير معرفة مأخذه والثاني بعد معرفة مأخذه.
فمعرفة الدليل قد لا تتعسر على العامي لأن ما عليه من واجبات في العلم قليلة جداً.
وذلك لأنه لا يجب على العامي مثلاً أن يعرف نصاب ومقدار زكاة الإبل إن لم يكن له إبل، ولا يجب عليه معرفة أحكام الحج إذا لم يكن مستطيعاً، ولكن إذا كان له محل صرف فيجب عليه معرفة أحكام الصرف. 
ولو استطاع العامي أن يعرف الأقوال بأدلتها فإن ذلك مستحب إن لم يكن واجباً عليه، وهذه المعرفة ليست بدرجة الترجيح، ولكنها نوع من اتباع العلماء، وهي درجة أعلى من التقليد.
وإذا قلد المسلم عالماً أو إماماً في مسألة من المسائل فإنه لا يجوز له أن يلزم بها غيره، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (قال أبو عمر وغيره من العلماء: أجمع الناس على أن المقلد ليس معدوداً من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله، وهذا كما قال أبو عمر رحمه الله تعالى، فإن الناس لا يختلفون أن العلم هو المعرفة الحاصلة عن الدليل، وأما بدون الدليل فإنما هو تقليد) [9].
وجواز التقليد لا يعني تعطيل العقل والتفكر والتمييز، فالمريض الذي يرضى بقرار الطبيب دون معرفة بتفاصيل التحليل ومناسبة الدواء للمرض، قد لا يقتنع بقرار الطبيب خاصة إذا استمر المرض لفترة طويلة، ولهذا تجد المريض يطلب أحياناً التحويل من المركز الصحي إلى المستشفى العام أو يذهب لعيادة خاصة، وقد يسافر إلى خارج بلده طلباً لطبيب أكثر مهارة أو أفضل وأوفر عدة.
فكذلك في مسائل الدين لا يجوز للمسلم أن يعطل عقله، فإذا اضطر للتقليد، فإنه يستطيع أن يميز بين العلماء، فيعرف مَنْ مِن العلماء برز في علم الحديث، ويعرف من برز منهم في علم المواريث والفرائض، ونحو ذلك، ويجب على العامي أن يميز بين علماء السنة وأهل البدع.
فتعطيل الفكر والعقل مذموم عقلاً وشرعاً، قال الله عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [10].
ويخطيء من يطلق القول بتحريم النظر في المسائل الدقيقة على العوام، فالأمر منوط بالقدرة والاستطاعة من غير مشقة وعسر وعدم تفويت الواجب من العلم بالانشغال بدقيق المسائل، والواجب معرفته من الأحكام على العامي قليل العدد كما سبق.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعال: (وبإزاء هؤلاء قوم من المحدِّثة والفقهاء والعامة قد يحرِّمون النظر في دقيق العلم والاستدلال والكلام فيه، حتى على ذوي المعرفة به وأهل الحاجة إليه من أهله، ويوجبون التقليد في هذه المسائل أو الإعراض عن تفصيلها، وهذا ليس بجيد أيضاً.
فإنَّ العلم النافع مستحب، وإنما يكره إذا كان كلاماً بغير علم، أو حيث يضر، فإذا كان كلاماً بعلم ولا مضرَّة فيه فلا بأس به، وإن كان نافعاً فهو مستحب، فلا إطلاق القول بالوجوب صحيحاً، ولا إطلاق القول بالتحريم صحيحاً.
وكذلك المسائل الفروعية؛ من غالية المتكلِّمة والمتفقِّهة من يوجب النظر والاجتهاد فيها على كل أحد، حتى على العامَّة! وهذا ضعيف؛ لأنه لو كان طلب علمها واجباً على الأعيان فإنما يجب مع القدرة، والقدرة على معرفتها من الأدلة المفصّلة تتعذَّر أو تتعسر على أكثر العامة) [11].
ولاشك أن الانتساب لأحد المذاهب الأربعة جائر باتفاق، والانتساب إنما هو بسبب دراسة الفقه على أحد المذاهب، ومن كان حاله كذلك فهو عالم أو طالب علم.
ومن درس الفقه على مذهب فإنه يتأثر بحجج المذهب، والخطأ إنما هو في التعصب والنظر في حجج علماء المذهب للاحتجاج للمذهب لا لاتباع النصوص.
وأما من لا يدرس الفقه، فكيف ينتسب إلى مذهب؟ ولماذا؟ ربما عند الضرورة، ولمن يعيش في بلدة كل أهلها ينتسبون إلى مذهب باستفتائه علماء المذهب في بلده، ولكن غالباً ما يجد العامي علماء وطلاب علم في بلدته لا ينتسبون إلى مذهب أو ينتسبون إلى مذاهب أخرى.
فلا يجوز لأحد التزام مذهب في كل مسائل الفقه، سواء كان عامياً أو طالب علم أو عالم.
ومن المؤسف عودة ظهور الدعوة للتعصب المذهبي بعد أن وفق الله تعالى الدعاة والعلماء لتحجيمه، وبعد أن انزوى التعصب المذهبي وظهر التمسك بالدليل والحجة في العالم الإسلامي.
ومما يستدل به هؤلاء أقوال لعلماء في عدم مخالفتهم قول جمهور علماء المذهب، ومع أن في هذا نظر إلا أن هؤلاء العلماء لا يقدمون شيئاً على النصوص.
وهذه الأقوال المنسوبة لهؤلاء العلماء تصح فيما نقل فيه إجماع ولم يرد ما يخالفه من نص أو قول لصحابي.
فالأصل اتباع الدليل والحجة والبرهان، والإجماع حتى ولو كان ظنياً يعتبر دليلاً.
ولا يبطل دليل ظني إلا بما هو أقوى منه ولو كان الأقوى ظنياً.
فالآية ظنية الدلالة مقدمة على الحديث ظني الدلالة لأن الحديث يروى بالمعنى.
والنصوص وإن كانت ظنية الدلالة مقدمة على الإجماع الظني.
والإجماع الظني مقدم على القياس الظني والرأي. 
وكل ما سبق عند المخالفة وعدم إمكان الجمع بين هذه الأدلة.
والأصل أن السنة في مرتبة القرآن لدلالة القرآن على وجوب اتباع السنة، والإجماع الثابت الظاهر لا سيما المتواتر في مرتبة النص لدلالة النص على وجوب اتباع سبيل المؤمنين، والقياس الجلي البدهي كقياس الأولى في مرتبة النص لأنه داخل فيه.
وعدم علم العالم الثقة الباحث للمسالة بالقائل أو المخالف إجماع ظني يعتبر دليلاً ما لم يخالف نصاً، فكيف بإجماع نقله عدد من العلماء ولو كان ظنياً؟ وكيف إذا عضد إجماع ظني نص ظني أو قياس ونظر؟
فمع أن الإجماع الظني معتبر، إلا أنه لا يجوز مخالفة النص ولو كان ظنياً لإجماع ظني فضلاً عن قول جمهور علماء مذهب من المذاهب.
والورع الصحيح الصادق هو تقديم الحجة والبرهان على أقوال الرجال، وأما التقديم بين يدي الله ورسوله، فهو ورع كاذب، وتقديم أقوال الرجال على الحجة والبرهان ورع باطل غير صحيح.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (ولم يزل أئمة الإسلام على تقديم الكتاب على السنة، والسنة على الإجماع وجعل الإجماع في المرتبة الثالثة.
قال الشافعي: الحجة كتاب الله وسنة رسوله واتفاق الأئمة) [12].
والإجماع منه ما هو قطعي ومن ما هو ظني ومنه ما هو متوهم، وكل مرتبة من الثلاث على مراتب.
فأعلى مراتب القطعي هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم لفضلهم على من جاء بعدهم، ولأنَّ العلم به أيسر قبل تفرق المسلمين في الأمصار، لا سيما سنة الخلفاء الراشدين، ومع أنها قد تكون إجماعاً سكوتياً إلا أنه إجماع يقيني لقرينة اشتهاره، وذلك لأن السنة هي الطريقة المتبعة.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (الإجماع وهو متفق عليه بين عامة المسلمين من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث والكلام وغيرهم في الجملة وأنكره بعض أهل البدع من المعتزلة والشيعة.
لكن المعلوم منه هو ما كان عليه الصحابة وأما ما بعد ذلك فتعذر العلم به غالباً) [13].
والمقصود بالعلم هنا اليقين، فالإجماعات اليقينية بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم قليلة، وذلك بسبب تفرق المُسلمين في الأمصار، ولأن ما لا يعلم مخالفه لا يكون يقينياً إلا بالقرائن.
فكلام ابن تيمية رحمه الله تعالى لا يعني الإعراض عن أكثر إجماعات غير  الصحابة رضي الله عنهم، لأن الإجماع الظني مقدم على القياس الظني والرأي، ولا يبطل إجماع ظني إلا بدليل أقوى منه ولو كان ظنياً، فكيف إذا عضد إجماع ظني نص ظني أو قياس ونظر؟
وأصل الإجماع مبني إما على عدم العلم بالقائل أو عدم العلم بالمخالف، فهو ظني إذا لم توجد قرينة تقويه، والإجماعات الظنية تُعتبر دليلاً عند عدم وجود نص مخالف لها، وأما عند وجود نص مخالف لها فهي متوهمة لأن النص ولو كان ظنياً مقدم على الإجماع الظني.
والمقلِّدة يردون النصوص بالإجماع المتوهم، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فدفعنا إلى زمان إذا قيل لأحدهم "ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا وكذا" يقول: من قال بهذا؟ ويجعل هذا دفعاً في صدر الحديث، أو يجعل جهله بالقائل به حجة له في مخالفته وترك العمل به.
ولو نصح نفسه لعلم أن هذا الكلام من أعظم الباطل، وأنه لا يحل له دفع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الجهل.
وأقبح من ذلك عذره في جهله; إذ يعتقد أن الإجماع منعقد على مخالفة تلك السنة، وهذا سوء ظن بجماعة المسلمين، إذ ينسبهم إلى اتفاقهم على مخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأقبح من ذلك عذره في دعوى هذا الإجماع، وهو جهله وعدم علمه بمن قال بالحديث، فعاد الأمر إلى تقديم جهله على السنة، والله المستعان.
ولا يعرف إمام من أئمة الإسلام ألبتة قال: لا نعمل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نعرف من عمل به، فإنْ جهل من بلغه الحديث من عمل به لم يحل له أن يعمل به كما يقول هذا القائل) [14].
وقال أيضاً في تقديم الإجماع المتوهم على النصوص: (ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث من أن يقدموا عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم بالمخالف.
ولو ساغ لتعطلت النصوص، وساغ لكل من لم يعلم مخالفاً في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص.
فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع، لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده) [15].
وقد تحدث ابن القيم رحمه الله تعالى في أكثر من مائتي صفحة في إعلام الموقعين عن التقليد، ومما قال فيه: (من أعجب أمركم أيها المقلدون أنكم اعترفتم وأقررتم على نفسكم بالعجز عن معرفة الحق بدليله من كلام الله وكلام رسوله، مع سهولته وقرب مأخذه، واستيلائه على أقصى غايات البيان، واستحالة التناقض والاختلاف عليه; فهو نقل مصدق عن قائل معصوم).
(قال أصحاب الحجة: عجباً لكم معاشر المقلدين الشاهدين على أنفسهم مع شهادة أهل العلم بأنهم ليسوا من أهله ولا معدودين في زمرة أهله، كيف أبطلتم مذهبكم بنفس دليلكم؟ فما للمقلد وما للاستدلال؟ وأين منصب المقلد من منصب المستدل؟
وهل ما ذكرتم من الأدلة إلا ثياباً استعرتموها من صاحب الحجة فتجملتم بها بين الناس؟ وكنتم في ذلك متشبعين بما لم تعطوه، ناطقين من العلم بما شهدتم على أنفسكم أنكم لم تؤتوه؟ وذلك ثوب زور لبستموه، ومنصب لستم من أهله غصبتموه.
فأخبرونا: هل صرتم إلى التقليد لدليل قادكم إليه، وبرهان دلكم عليه، فنزلتم به من الاستدلال أقرب منزل، وكنتم به عن التقليد بمعزل.
أم سلكتم سبيله اتفاقاً وتخميناً من غير دليل؟
وليس إلى خروجكم عن أحد هذين القسمين سبيل، وأيهما كان فهو بفساد مذهب التقليد حاكم، والرجوع إلى مذهب الحجة منه لازم).
(والعجب أن كل طائفة من الطوائف، وكل أمة من الأمم تدعي أنها على حق، حاشا فرقة التقليد فإنهم لا يدعون ذلك، ولو ادعوه لكانوا مبطلين، فإنهم شاهدون على أنفسهم بأنهم لم يعتقدوا تلك الأقوال لدليل قادهم إليه، وبرهان دلهم عليه، وإنما سبيلهم محض التقليد، والمقلد لا يعرف الحق من الباطل، ولا الحالي من العاطل).
(وأعجب من هذا أن أئمتهم نهوهم عن تقليدهم فعصوهم وخالفوهم، وقالوا: نحن على مذاهبهم، وقد دانوا بخلافهم في أصل المذهب الذي بنوا عليه، فإنهم بنوا على الحجة، ونهوا عن التقليد، وأوصوهم إذا ظهر الدليل أن يتركوا أقوالهم ويتبعوه، فخالفوهم في ذلك كله، وقالوا: نحن من أتباعهم، تلك أمانيهم، وما أتباعهم إلا من سلك سبيلهم، واقتفى آثارهم في أصولهم وفروعهم).
(وأعجب من هذا أنهم مصرحون في كتبهم ببطلان التقليد وتحريمه، وأنه لا يحل القول به في دين الله، ولو اشترط الإمام على الحاكم أن يحكم بمذهب معين لم يصح شرطه ولا توليته، ومنهم من صحح التولية وأبطل الشرط.
وكذلك المفتي يحرم عليه الإفتاء بما لا يعلم صحته باتفاق الناس.
والمقلد لا علم له بصحة القول وفساده; إذ طريق ذلك مسدودة عليه.
ثم كل منهم يعرف من نفسه أنه مقلد لمتبوعه لا يفارق قوله، ويترك له كل ما خالفه من كتاب أو سنة أو قول صاحب أو قول من هو أعلم من متبوعه أو نظيره، وهذا من أعجب العجب) [16].
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
السبت ١ محرم ١٤٣٠هـ، ٢٩ ديسمبر ٢٠٠٨م
هلسنكي، فنلندة

المصادر

[1] دروس للشيخ الألباني (ج34/ص5)، مصدر الكتاب؛ دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية، [الكتاب مرقم آلياً، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 46 درساً].
[2] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج2/ص137)، تحقيق؛ محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، ييروت الطبعة الأولى، 1411هـ - 1991م.
[3] سورة البقرة 170.
[4] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج22/ص249)، تحقيق؛ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416هـ/1995م.
[5] مجموع الفتاوى (ج/ص 253)، الطبعة السابقة.
[6] منهاج السنة النبوية (ج4/ص543)، تحقيق؛ محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986م.
[7] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج2/ص182)، الطعبة السابقة.
[8] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج20/ص299-300)، الطعبة السابقة.
[9] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج1/ص6)، الطبعة السابقة.
[10] سورة الأنفال 55.
[11] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج20/ص202-203)، الطعبة السابقة.
[12] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج2/ص175)، الطعبة السابقة.
[13] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج11/ص341)، الطعبة السابقة.
[14] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج4/ص188)، الطعبة السابقة.
[15] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج1/ص24)، الطعبة السابقة.
[16] إعلام الموقعين عن رب العالمين (ج2/ص149 وما بعدها)، الطعبة السابقة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق