إنصاف المخالف

إنَّ ظلم المخالف وعدم العدل والإنصاف أوَّل ما يضرُّ صاحبه. فإنَّ اللهَ تعالى قد حرَّم الظلم على نفسه وجعله محرَّماً بين عباده، فهو مكروه عند ربِّ العباد، وقد جعله مكروهاً لدى النَّاس، وبذا حرَّم على أهل الظلم الإمامة في الدِّين، وذلك بتبغيض الخلق إليهم. فهو سبيلٌ لا يرضاه شرعٌ ولا عقلٌ ولا فطرةٌ سليمة، قال اللهُ تعالى: { وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) } [1]. وظلم المخالف والبغي عليه من دواعي النفس البشريَّة، ولا يسلم منه إلا من جاهد نفسه، قال اللهُ تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) } [2].
وبسبب هذه الطبيعة المزدوجة من كراهية الظلم والميل إلى ظلم المخالف فقد اختلَّت موازين الكثيرين، فتجدهم يزِنون بميزانين ويكيلون بمكيالين، وذلك اتِّباعاً للهوى وإشباعاً لرغبات النفس الظالمة، كما قال القائل: عين الرِّضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ وعين السخط تبدي المساويا.
لهذا فإنَّ الغلاة ينظرون إلى كثير من العلماء والدعاة بأنَّهم قاعدون عن الجهاد آثمون، لا يؤخذ عنهم العلم إلا ضرورةً، علماً بأنَّهم يرون أنَّ العلم يؤخذ عن مشايخهم القاعدين! ما داموا لا يخالفونهم الرأي، بل تجدهم يقدِّمون من يوافقهم الرأي ويجعلونه من العلماء وإن لم يكن عالماً، وهذه هي الحزبيَّة التي حذَّر منها كثير من العلماء والدعاة المعاصرين، وهي التعصُّب للباطل، أو العصبيَّة القائِمة على أساس الاختلافات الاجتهاديَّة والفرعيَّة، أو التعصُّب لرأي جماعته وحزبه بعد وضوح الدليل بخلافه. [3]
ولأنَّ النَّاس يحبُّون العدل ويكرهون الظلم فإنَّ الحاكم العادل يحبه النَّاس، ويكرهون الظالم، وقد يُبغض النّاس الحكام بسبب الإعلام وحملاته والأحزاب المعارضة والتي لا تتورع عن الكذب، لصالح أحزابهم أو لصالح دولهم على حساب دول أُخرى، بل قد يجعلون الحسنات سيِّئات، كأن يرى الحاكم المصلحة في المهادنة والمسالمة، فيثيرون الغوغاء عليه.
وكثيراً ما تضلِّل المؤسّسات الإعلاميَّة والأحزاب السياسيّة وطلاب السلطة العوام، والمتعجِّلين، والثوريِّين، مع العلم بأنّ السياسة قد تكون فيها بعض الخبايا التي لا ترِد الإِعلام، وقد يحمل بغضُ الحكام بعضَ النَّاس على البغي وقصر النظر، وعدم العدل والإنصاف في الحكم عليهم.
إنَّ من النَّاس من لا يرضى بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السمع والطاعة لولاة الأمور المسلمين الحارسين لأصل الدين وإن كانوا فسقة وظلمة، فتراه يستغل بغض النَّاس للحكام سواءاً كان بحق أم بباطل فيسعى لإهدار منزلة العلماء من قلوب المسلمين، والله حسيبهم، وإنَّ الله لا يصلح عمل المفسدين، وهو الكفيل بالدفاع عن العلماء الصادقين، ورد كيد المغرضين، وإنَّ لحوم العلماء مسمومة وعادة اللّه في هتك أستار منتقصيهم معلومة، كما قال ابن عساكر رحمه اللّه.
إنَّ أكثر العلماء المعاصرين عند الغلاة إما مداهنون، أو مرجئة مبتدعون، أو كفرة مارقون، وعند أحسنهم حالاً قاعدون عن الجهاد آثمون، لا يُستفتون في الجهاد مع جواز استفتائهم في غيره للضرورة زعموا، ولانعدام العلماء العاملين بزعمهم! فطعنوا في كلِّ العلماء المعروفين، وصرفوا الأغرار عنهم إلى نكرات لا يُعرفون.

المصادر

[1] البقرة آية رقم 124. ذهب ابن كثير رحمه الله إلى أن الإستثناء متصل بإجابة الطلب، وأن المعنى أن الظالمين ليس لهم حظ في أن يكونوا قدوة وأسوة للناس في هذا الدين.
[2] سورة الأحزاب آية رقم 72
[3] ليس من الحزبية المذمومة العمل الجماعي المنظَّم القائم على أُسسٍ شرعية سليمة.

pdf

ثلاث شبه في الخوارج الجدد   المحتويات   الغلو في التبديع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق