النية في الطلاق وتكفير الهازل

الرجوع إلى قسم مسائل وأحكام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
لا سبيل إلى معرفة ما في قلب الإنسان إلا من خلال الظاهر من أدلة وألفاظ وقرائن، وقاعدة؛ العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني ليست لنفي اعتبار دلالات الألفاظ، وإنما هي في مقابل الحرفية؛ وهي اعتبار الألفاظ فقط دون القرائن مثل السياق والسباق واللحاق والعُرف والحال، وهي في اشتراط اللفظ من غير دليل كتحريم بيع المعاطاة، وهو البيع والشراء من غير صيغة بعتك واشتريت.
والحرفية مذمومة، بينما الظاهرية هي الأصل في فهم الألفاظ، لأنَّ اعتبار دلالات الألفاظ مع القرائن هي السبيل الوحيد لمعرفة مُراد المُتكلم، والظاهر لابد فيه من اعتبار القرائن، لأن الظاهر معناه ما يتبادر إلى الذهن من الكلمات مجردة، وما يتبادر منها في سياقها وتركيبها وقرائنها، مدونتي » إصلاح وتكميل » إنها حرفية لا ظاهرية.
ولو لم تُعتبر الألفاظ ودلالاتها، لأعطي أناس بدعاوى بغير بينة في كل العقود فضلاً عن الطلاق والنكاح والرجعة التي ورد فيها حديث؛ (ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد)، ويظهر أن الهزل فيها جدٌ لكمال قصد اللفظ منعاً للتلاعب بها لتعلقها بأهم العقود؛ {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا}، وفي الحديث المتفق عليه؛ (أحق ما أوفيتم من الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) [1].
يؤكد ذلك أن التلفظ بالكفر الصريح لا عذر فيه للهازل في العُموم مع اعتبار القرائن عند التعيين، لعموم قول الله تعالى ذِكرُهُ: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، وذلك لاحتمال القصد والإرادة في الهزل، فالناس كثيراً ما يقصدون ما يقولونه على سبيل المزح، بخلاف المجنون والمُكره فإنه معذورٌ مطلقاً في أحكام الدنيا والآخرة، لأن دلالة الإكراه والجنون على عدم الإرادة القلبية يقينية.
ومما يؤكد ذلك أيضاً أنَّ الأصل في الأعمال اعتبار النية فيها؛ (إِنَّمَا الأعمال بالنيات)، واعتبار النية هو سبب عذر المُكره والمجنون والنائم والناسي والمخطيء، وقرينة الجنون والإكراه يقينية بذاتها لا تحتاج إلى غيرها لتقويتها، وأما قرينة التأويل والجهل والهزل؛ فمع ما فيها من ضعف إلا أنها معتبرة في تكفير المعين، لأن الخطأ في عدم التكفير أفضل من الخطأ في التكفير كما دلت على ذلك النصوص وطريقة السلف، وإذا وجدت قرائن تقوي أن الهازل جاد، فقد يُقضى بها بعد الإنذار، والله تعالى أعلم.
فالجهل إذا كان بسبب الإعراض عن الحق فإنه كفرٌ لغةً واصطلاحاً، فالكفر لغةً من التغطية، والمُعرض عن الحق اتباعاً لهواه غطى وحجب الحق عن بصره وسمعه وعقله وقلبه، والتأويل نوع من الجهل، وهو جهل مركب لظن صاحبه أنه على علم، والهزل محتمل لما تقدم من أن الناس كثيراً ما يقصدون ما يقولونه على وجه الهزل.
ومما يؤكِّد أن عدم عُذر الهازل في الطلاق هو من باب سد الذريعة، وأنَّ الأصل اعتبار النية في الطلاق؛ اتفاق من أوقع طلاق الكناية على اعتبار النية فيه سواءٌ كان بادعاء الزوج أو غيره من القرائن، وهم الجمهور خلافاً للظاهرية، ولفظ الكناية هو مثل قول؛ الحقي بأهلك، لعدم صراحة دلالته على الطلاق.
يدل على أن لفظ الكناية لا يقع به الطلاق إلا باعتبار النية؛ سؤال النبي صلى الله عليه وسلم ركانة عن قصده لما طلق امرأته البتة، وما جاء في الصحيحين في حديث طويل أن كعب بن مالك رضي الله عنه لما أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتزل امرأته قال لها: (الحقي بأهلك فكوني فيهم حتى يقضي الله هذا الأمر) [2].
ومما يدل على أن لفظ الكناية يُعتبر طلاقاً بالنية والقرائن ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ (أن ابنة الجون لما أدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودنا منها، قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك) [3].
والقرائن معتبرة في الألفاظ الصريحة والكناية، والفرق بينهما في اعتبار القرائن هو أن الأصل في اللفظ الصريح قصد معناه الظاهر المتبادر إلى الذهن، فلا تُقبل دعوى بخلاف الظاهر إلا بدليل أقوى.
وأما الكناية فيُتوقف في الحُكم بها لما فيها من تردد واحتمال حتى تدل القرائن على المراد من التلفظ بها، وتُقبل دعوى عدم القصد في الكناية لأنها قرينة تقوي أحد الاحتمالين.
وأما الهزل فمع أنه قرينة تدل على عدم إرادة المعنى إلا أنها محتملة، فأُقيم كمال قصد الهازل اللفظ مقام قصد معناه في الطلاق والنكاح والرجعة سداً للذريعة، والله تعالى أعلم.
قال ابن القيم رحمه الله: (والألفاظ لا تراد لعينها، بل للدلالة على مقاصد لافظها، فإذا تكلم بلفظ دال على معنى، وقصد به ذلك المعنى، ترتب عليه حكمه، ولهذا يقع الطلاق من العجمي والتركي والهندي بألسنتهم، بل لو طلق أحدهم بصريح الطلاق بالعربية، ولم يفهم معناه لم يقع به شيء قطعاً، فإنه تكلم بما لا يفهم معناه ولا قصده، وقد دل حديث كعب بن مالك على أن الطلاق لا يقع بهذا اللفظ وأمثاله إلا بالنية.
والصواب أن ذلك جار في سائر الألفاظ صريحها وكنايتها، ولا فرق بين ألفاظ العتق والطلاق، فلو قال؛ غلامي غلام حر لا يأتي الفواحش، أو أمتي أمة حرة لا تبغي الفجور، ولم يخطر بباله العتق ولا نواه، لم يعتق بذلك قطعاً) [4].
وأما الطلاق في الإغلاق؛ فهو جار على الأصول والقواعد السابقة، ولا خلاف في وقوعه في الغضب العادي، ولا في عدم وقوعه فيما إذا لم يشعر صاحبه بما يقول، واختلفوا في الغضب الشديد الذي يُغلق قلب صاحبه عن إرادة المعنى، وعدم وقوعه فيه هو مذهب الشافعي وأحمد في رواية عنهما، وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم رحمهم الله جميعاً.
ويبدو أن هذا هو الصحيح باعتبار القرائن، وتُعرف صحة ادعاء الزوج بسؤال المرأة، فإذا خرج الزوج عن الاعتدال وظهرت علامات إغلاق قلبه عن الإرادة من تصرفات وألفاظ تدل على استحكام الغضب ومنعه من قصد ما يقول، فهو كالمجنون والسكران، وهل عدم اعتبار عقود المجنون والسكران إلا اعتباراً للمقاصد والنوايا؟ والفرق بين شدة الغضب والهزل هو كمال قصد اللفظ وكمال الاختيار في الهزل ونقصهما في شدة الغضب.
قال ابن القيم رحمه الله: (قال شيخنا: وحقيقة الإغلاق أن يغلق على الرجل قلبه، فلا يقصد الكلام، أو لا يعلم به ، كأنه انغلق عليه قصده وإرادته. قلت : قال أبو العباس المبرد: الغلق؛ ضيق الصدر، وقلة الصبر بحيث لا يجد مخلصاً، قال شيخنا: ويدخل في ذلك طلاق المكره والمجنون، ومن زال عقله بسكر أو غضب، وكل من لا قصد له ولا معرفة له بما قال.
والغضب على ثلاثة أقسام؛ أحدها؛ ما يزيل العقل، فلا يشعر صاحبه بما قال، وهذا لا يقع طلاقه بلا نزاع، والثاني؛ ما يكون في مباديه بحيث لا يمنع صاحبه من تصور ما يقول وقصده، فهذا يقع طلاقه، الثالث؛ أن يستحكم ويشتد به، فلا يزيل عقله بالكلية، ولكن يحول بينه وبين نيته بحيث يندم على ما فرط منه إذا زال، فهذا محل نظر، وعدم الوقوع في هذه الحالة قوي متجه
) [5].
يُرجَّح ما سبق قاعدة؛ اليقين لا يزول بالشك، وهي قاعدة فقهية، والفرق بين القاعدة والضابط الفقهي أنَّ القاعدة شاملة لكل أبواب الفقه بخلاف الضابط، فمما يتفرَّع على هذه القاعدة؛ أن الزواج قد ثبت بيقين فلا يزول بالشك، وأقل أحوال الإغلاق عن القصد أنه محل شك.
ومن المصالح المترتبة على الاحتياط في إبقاء الزواج؛ المحافظة على ما بين الزوجين من ذرية، فقد دلت التجربة على أنَّ نشأة الطفل من غير رعاية أحد أبويه لها انعكاسات نفسية وتربوية ضارة على الطفل، يدل على ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}، فدلت الآية على أن الصلح بين الزوجين خيرٌ من الفراق.
ومن الأخطاء الشائعة في سد الذرائع والاحتياط؛ ظن الكثيرين أن الورع الواجب أو المستحب هو في اتقاء ما يشبه الحرام فقط، والصحيح أن فعل ما يشبه الواجب مقدم على ترك ما يُشبه الحرام، ولا يُعارض هذا قاعدة؛ درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، لأن الواجبات لا تجلب مصالح فقط بل تمنع مفاسد، والقاعدة فيما إذا تساوت المصلحة والمفسدة أو كانت المفسدة راجحة، للمزيد؛ مدونتي » مسائل وأحكام » الواجبات أعظم من المحرمات بالجنس لا بالآحاد.
هذا، والله تعالى أعلم
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
يوم الأحد 24 شوال 1439هـ، الموافق 8 يوليو 2018م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق