الغلو في التبديع

إنَّ ممَّا ابتُلي به الغلاة في أحكام الجهاد والتكفير الغلو في التبديع، وتصنيف النَّاس بغير حق إلى مرجئة ومداهنة ومخذلة، من ذلك فتوى أحد من غلوا في أحكام التكفير والجهاد بصحة مع كراهة الصلاة خلف من يفتي بجواز الدخول في البرلمانات القائمة على جواز تشريع ما يخالف الإسلام بغرض تخفيف الشر أو دفع الأضر.
وبهذا فإِنَّه قد بدَّع كثيراً من العلماء والدعاة وأئمة المساجد والمعلِّمين وغيرهم بمجرَّد قول في مسألة واحدة، مع كونها ليست قاعدة كلية، ولا أصلاً عظيماً، ومن دون أن يجعلها قائلها أصلاً عظيماً يعقد عليه ولاءاً وبراءاً، فيضلل مخالفه بها أو يكفر بمخالفتها أو يستحل بمخالفتها الدماء والأعراض والأموال.
والصحيح عدم جواز دخول البرلمانات عن طريق ترشيحات الأحزاب، وجواز دخولها بتعيين ونحوه لتخفيف شر أو دفع أضر، وكذا يجوز التصويت للأخف ضرر، ومهما كان حكم المسألة ظاهراً قطعياً؛ فإن هذه المسألة لا تعدُّ من المسائل الكُلِيَّة ولا من الأصول العظيمة التي يُبدع بها المعين بمجرد مخالفته فيها.
فتبديع المعيَّن بمجرد المخالفة إنمَّا يصحُّ إذا خالف في أحد خمسة أمورٍ، وأما القسم السادس فلا يبدع به إلا بتوفر شروط وانتفاء موانع، والمخالفات الخمس هي؛
الأولى؛ المخالفة في أصلٍ عظيمٍ يعود على ركن من أركان الإيمان أو أركان الإسلام بالنقض كالمخالفة في أصول القدر أو أن دعاء غير الله شرك أكبر.
الثانية؛ المخالفة في قاعدة كليَّةٍ من قواعد الإسلام كالمخالفة في حُجية إجماع الصحابة رضي الله عنهم أو المُخالفة في جزئيات متعدِّدة تعود على كلي بالنقض.
الثالثة؛ ويُعد من أهل البدعة والفرقة لا من أهل السنة والجماعة؛ من جعل بدعته الجزئية أصلاً يوالي عليها ويعادي ويفرق بها جماعة المسلمين ويكفرهم بمخالفتها ويستحل بذلك دماءهم وأموالهم وأعراضهم كالخوارج.
الرابعة؛ المخالفة فيما صار شارة لأهل البدع ونحوه مما هو ظاهر لا يجهله طالب علم في عصره ومصره كالقول بأن القرآن مخلوق.
فإن غلب الجهل ببعض هذه المسائل في العصر أو المصر فإنها تُلحق بالقسم السادس مما يُشترط فيه تحقق شروط وانتفاء موانع للتبديع بها.
الخامسة؛ ويُلحق بأهل البدع من يجالس أهل مذهب معين من أهل البدع ويجاريهم في بدعهم، ويُحذر من يجالسهم وهو مجهول الحال.
والمجالسة مأخوذة من كلمة الجليس الواردة في السنة، وتعني الصحبة والصداقة، وهي غير مطلق الجلوس الذي هو من قبيل الهجر.
القسم السادس؛ وأما المخالفات فيما سوى ذلك من جزئيات فتعد من الزلات والفلتات حتى ولو تعلقت بأحد أركان الإيمان ما لم تنقضه، فيُنظر في أمر من خالف فيها.
مما يدل على أن مراد السلف بالمجالسة الصحبة والصداقة استدلال الإمام أحمد رحمه الله تعالى على حكم من يجالس أهل البدع بقول ابن مسعود رضي الله عنه: (المرءُ بخِدْنِه) [١].
وإلحاق جُلساء أهل البدع بهم هو حكم نوع، فيجب عند التعيين اعتبار جميع القرائن لأن قرينة المجالسة ظنية، إذ تأثير المبتدع في السنى ليس بأولى من العكس، فتُقدم حيئذ القرينة الأقوى.
فلا يبدع من عُلم من حاله أنه لا يجاري المبتدع الذي يجالسه في أهوائه، ولكنه واقع في خطأ يؤثر فيه، وفي الحديث في الجليس السوء؛ (إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً منتنة)، وقد يعظم الأثر مع مرور الزمن، فمعظم النار من مستصغر الشرر.
ومجالسة مبتدع واحد ونحو ذلك قرينة ضعيفة، بخلاف من يجالس أهل مذهب معين من أهل البدع، وللتفريق بين الجلوس والمجالسة ومجالسة الواحد والعدد ومعرفة شروط الهجر ونحو ذلك يُرجى الرجوع إلى الرابط رقم [٢].
من وقع في أحد المخالفات الخمس الأولى فهو مبتدع ضال في أحكام الدنيا حتى ولو كان مجتهداً معذوراً في الأحكام الأخروية.
ولذا يعد عوام الإباضية مبتدعة ضلالاً مع أن كثيراً منهم جهلة لم يجدوا من يبين لهم الحجة، فقد يكونون معذورين في أحكام الآخرة.
وهذه المسألة قد أشكلت حتى على كثير من إخواننا ما بين متوسع في عذر المخالف ومضيق، فمن توسع أشكل عليه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في العذر الأخروي فظنه في أحكام الدنيا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وفي الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئاً في ذلك، بل مبتدعاً، وإن كان مجتهداً مغفوراً له خطؤه) [٣].
والأصل في أهل البدع أنهم محل سوء ظن، وأنه ليس لهم لسان صدق في الأمة.
قال ابن تيمية رحمه اللّه: (مع أنَّ المخالفين للحق البيِّن من الكتاب والسنّة هم عند جمهور الأمَّة معروفون بالبدعة، مشهود عليهم بالضلالة، ليس لهم في الأمَّة لسان صدق، ولا قبول عام، كالخوارج والروافض والقدرية ونحوهم) [٤].
ويجب التفريق بين التكفير والتبديع، فمن الفروق أن التأويل والجهل من موانع التكفير، وأما التبديع فيكون مع التأويل والجهل بما سبق من علل أو بتوفر شروط وانتفاء موانع في المخالفة في جزئيات معدودة.
والتأويل والجهل يكون سبباً في العذر في أحكام الآخرة، وأما أحكام الدنيا فقد يبدع الجاهل والمتأول، وكذا يكفر مع الجهل الكافر الأصلي في أحكام الدنيا.
قال ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله تعالى: (ومن قول أهل السنة؛ أن لا يعذر من أداه اجتهاده إلى بدعة، لأن الخوارج اجتهدوا في التأويل فلم يعذروا إذ خرجوا بتأويلهم عن الصحابة) [٥].
فالمقصد من التبديع التنفير والتحذير من صاحب البدعة وليس تأثيمه، قال ابن تيمية رحمه الله: (وفي الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئاً في ذلك، بل مبتدعاً، وإن كان مجتهداً مغفوراً له خطؤه) [٦].
ومن المخالفة في أصل عظيم وقاعدة كلية؛ المخالفة في أهميَّة الدعوة إلى التوحيد، فهي مخالفة في أصل عظيم لأن الهدف من إرسال الرسل وإنزال الكتب والدعوة إلى الله تعالى إقامة التوحيد، وكذا تشريع الجهاد وتنصيب الولاة، والتوحيد أمر كلي لأنه لا معنى لأمر من أمور الإسلام بدونه، وما الجنة إلا دار للموحدين وما النار إلا مقر للمشركين.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: (وذلك أن هذه الفرق إنما تصير فرقاً بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة، لا في جزئي من الجزئيات...إلى قوله: ويجري مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات، فإنَّ المبتدع إذا أكثر من أِنشاء الفروع المخترعة عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة، كما تصير القاعدة الكلية معارضة أيضاً، وأما الجزئي فبخلاف ذلك، بل يعد وقوع ذلك من المبتدع له كالزلة والفلتة، وإن كانت زلة العالم مما يهدم الدين) [٧].
وقال أيضاً: (وقد تقدَّم أنه لا يُعد من الفرق إلا المخالف في أمر كلي وقاعدة عامة، ولم ينتظم الحديث -على الخصوص- إلا أهل البدع المخالفين للقواعد، وأمَّا من ابتدع في الدين لكنه لم يبتدع ما ينقض أمراً كلياً، أو يخرم أصلاً من الشرع عامَّاً، فلا دخول له في النص المذكور، فينظر في حكمه؛ هل يلحق بمن ذكر أو لا؟) [٨].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فمن جعل طريق أحد من العلماء والفقهاء أو طريق أحد من العباد والنساك أفضل من طريق الصحابة فهو مخطئ ضال مبتدع، ومن جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذموماً معيباً ممقوتاً فهو مخطئ ضال مبتدع) [٩].
فمما يبدع به من مخالفات بعد توفر شروط أو بعد النظر في مصالح ومفاسد التبديع؛ ما أصبح شارة لأهل البدع ولكنه لم يكن ظاهراً في العصر أو المصر.
والموازنة بين المصالح والمفاسد في تبديع المخالف تكون بالنظر في؛ ضرر بدعته، وما يترتب على تبديعه.
ومما يترتب عليه ضرر عظيم تجويز الخروج على السلاطين الحارسين لأصل الدين؛ الشهادتين والصلاة، قال اللالكائي رحمه الله فيمن يجوز الخروج: (فمن عمل ذلك فهو مبتدع على غير السنة) [١٠].
ومن أمثلة النظر في ضرر بدعته؛ اعتبارها أصلاً في دعوته، ومدى اعتنائه بالأصول الصحيحة، ومثل عقده ولاءاً وبراءاً على بدعته، ومفارقة جماعة المسلمين بها.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ومما ينبغي أيضاً أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات; منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة ... إلى قوله: ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمين; يوالون عليه ويعادون; كان من نوع الخطأ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك. ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها; لهم مقالات قالوها باجتهاد وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة; بخلاف من والى موافقه وعادى مخالفه وفرق بين جماعة المسلمين وكفر وفسق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات; واستحل قتال مخالفه دون موافقه فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات. ولهذا كان أول من فارق جماعة المسلمين من أهل البدع "الخوارج" المارقون) [١١].
وأما النظر فيما يترتَّب على تبديع من وقع في مخالفات جزئية معدودة لا تنقض كلياً ولا أصلاً عظيماً من منافع ومضار، فيشمل النظر في فضله في الدعوة والعلم والإسلام، وفيما قد يترتب على تبديعه من تفويت مصلحة استفادة الناس من علمه وما عنده من خير، ويُنظر في مدى قبوله لدى العامة والمضار التي قد تترتَّب على تبديعه من التفرق وتنافر القلوب.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (من قواعد الشرع وَالْحكمَة ايضاً؛ أن من كثرت حَسَنَاته وعظمت، وَكَانَ لَهُ فِي الاسلام تَأْثِير ظَاهر؛ فَإِنَّهُ يحْتَمل لَهُ مَالا يحْتَمل لغيره، ويعفي عَنهُ مَالا يعفي عَن غَيره، فَإِن الْمعْصِيَة خبث، وَالْمَاء إِذا بلغ قُلَّتَيْنِ لم يحمل الْخبث، بِخِلَاف المَاء الْقَلِيل فَإِنَّهُ يحمل ادنى خبث، وَمن هَذَا قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم لعمر: "وَمَا يدْريك لَعَلَّ الله اطلع على اهل بدر فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فقد غفرت لكم[١٢].
وقال ابن القيِّم رحمه الله تعالى: (ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أنَّ الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدمٌ صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلَّة، هو فيها معذور، بل ومأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتَّبع فيها، ولا يجوز أن تُهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين) [١٣].
ولكن مع حفظ المكانة والقدر لابدَّ من النصح وتصحيح الخطأ وتقويم المسار، وإلَّا فإِنَّ الخطأ قد يعظم ويؤدي إلى الانحراف، ومعظم النَّار من مستصغر الشرر، ولو بدَّعنا كل من وقع في بدعة لحار التبديع علينا إذ قلَّ أن يسلم من ذلك أحد خاصَّة في الأزمنة المتأخرة عن عصر النبوَّة وما فيه من الخير والهُدى، وكل ما زاد عن حده انقلب إلى ضده.
والمقصود بالتبديع الحفاظ على وحدة المسلمين على السنة وهدي السلف، ولذا قيل أهل السنة والجماعة، فيكفي التحذير من الزلة للذب عن السنة، وأما الغلو في التبديع فإنه لا يترتب عليه مصلحة الذب عن السنة مع ما فيه من فساد ذات البين فهو مفسدة محضة.
قال شيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وتمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين، وشرَّ الشرَّين، ويعلم أنَّ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلَّا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعيَّة والمفسدة الشرعيَّة، قد يدع واجبات ويفعل محرَّمات، ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعاً، ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع، ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعةٍ خفيَّة، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع) [١٤].

المصادر

[١] طبقات الحنابلة (ج١/ص‏١٦٠)، تحقيق؛ محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت.
[٢] مدونتي » إصلاح » تصنيف الناس بين الغلو والجفاء.
[٣] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج١٣/ص٣٦١)، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
[٤] مجموع الفتاوى (ج٧/ص٣٥٧)، الطبعة السابقة.
[٥] الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ (ج١/ص‏١٢١)، مؤسسة الرسالة، بيروت، المكتبة العتيقة، تونس، الطبعة الثانية، ١٤٠٣ هـ - ١٩٨٣م.
[٦] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج١٣/ص٣٦١)، الطبعة السابقة.
[٧] الإعتصام، المجلد الثاني، دار المعرفة، بيروت، بتعليقات محمد رشيد رضا، صفحة (٢٠٠-٢٠١).
[٨] الإعتصام، المجلد الثاني، دار المعرفة، بيروت، بتعليقات محمد رشيد رضا، صفحة (٢٥٦).
[٩] مجموع الفتاوى (ج١١/ص١٥)، الطبعة السابقة.
[١٠] شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائي (ج١/ص١٨٥)، تحقيق؛ أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي، دار طيبة، السعودية، الطبعة الثامنة، ١٤٢٣هـ / ٢٠٠٣م.
[١١] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج٣/ص٣٤٨-٣٤٩)، الطبعة السابقة.
[١٢] مفتاح دار السعادة (ج١/ص١٧٦)
[١٣] إعلام الموقعين (ج٣/ص٢٢٠)، تحقيق؛ محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية – ييروت، الطبعة الأولى، ١٤١١هـ - ١٩٩١م.
[١٤] مجموع الفتاوى (ج٢٨/ص٥١٢)، الطبعة السابقة.
pdf
إنصاف المخالف   المحتويات   خاتمة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق