الكسوف والخسوف علامتان لأمر مخوف

الرجوع إلى قسم مسائل وأحكام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق فقدر، وشرع فنهى وأمر، والصلاة والسلام على خير البشر، محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.
للخسوف والكسوف أسباب كونية وشرعية، أما سببهما الكوني فهو وقوع الشمس والأرض والقمر في خط مستقيم واحد.
فيحدث الخسوف عند الإبدار، وهو في منتصف الشهر القمري، وذلك بسبب حجب الأرض ضوء الشمس عن القمر.
وفي الخسوف الكامل يصل ضوء الشمس إلى القمر أحمراً بسبب انكسار مساره لحيلولة الأرض بينه وبين القمر، وفي الجزئي يظهر ظل الأرض واضحاً على القمر.
خسوف عام 1439هـ؛ جزئي ثم كلي ثم جزئي
وفي الكسوف يحول القمر بين ضوء الشمس والأرض، ويحدث الكسوف آخر الشهر القمري عند الاستسرار، وهي المرحلة المقابلة للإبدار، فمنزلة الاستسرار هي مرحلة القمر التي يكون فيها وجهه المظلم في مواجهة الأرض، والإبدار عكسه؛ فيكون المضيء في مواجهة الأرض.
لقد أصبح معلوماً لدى الجميع أنَّ علماء الفلك يستطيعون حساب وقتي الخسوف والكسوف بدقة عالية، إلا أن الكثيرين يجهلون أنهما علامتان لحدوث أمر مخوف، وعندما جهل الناس هذه المسألة تركوا سنة صلاتي الكسوف والخسوف والدعاء والصدقة عند حدوثهما.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (كما يُعرف وقت الكسوف والخسوف، فإن الشمس لا تكسف في سنة الله التي جعل لها إلا عند الاستسرار، إذا وقع القمر بينها وبين أبصار الناس على محاذاة مضبوطة، وكذلك القمر لا يخسف إلا في ليالي الإبدار على محاذاة مضبوطة لتحول الأرض بينه وبين الشمس) [1].
وعلم حساب وقتي الكسوف والخسوف هو من علم الفلك المباح، ومن المباح كذلك معرفة ما يتعلق بموقع القمر من ظواهر تعلم بالطرق المحسوسة، ومن ذلك أن صيادي الأسماك يتخيرون ليلة الإبدار للصيد منذ القدم، وسبب ذلك هو أن المد والجزر في المحيطات والبحار لهما علاقة بجاذبية القمر.
وأما التعلق بأسباب غير حسية كأبراج الحظ ونحوها فهو من التنجيم المنهي عنه، ومن التنجيم المنهي عنه كذلك ما لم يدل الحس عليه بيقين أو ظن غالب مما يتعلق بحوادث العالم العلوي من ادعاء حدوث أمر مخوف بعينه ووقته.
ولكن النهي عن التوقعات المستقبلية المبنية على أسباب غير حسية أو أسباب حسية وهمية لا ينفي أن يكون للكسوف والخسوف علاقة حسية بأمر مخوف، فللخسوف والكسوف أسباب شرعية تعرف بالوحي وأسباب حسية تعرف بالمعارف البشرية الحسية الصحيحة.
السبب الشرعي للكسوف والخسوف هو تخويف الناس بالله تقدس اسمه كما دلت على ذلك النصوص، فقد صح في الحديث عن الكسوف والخسوف؛ (لكنهما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده). وذلك بعد قوله: (إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته)، وذلك عندما ظن الناس أن كسوف الشمس كان بسبب موت ابن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن هذا السبب الشرعي لا يثبت ولا ينفي أن للظاهرتين علاقة حسية كونية بأمر مخوف، فمن علاقة العالم العلوي بالأرضي علاقة الكسوف والخسوف بالزلازل والفيضانات والأعصاير قبلهما أو أثناءهما أو بعدهما، وهي علاقة محتملة غير مؤكدة بمجرد الكسوف والخسوف.
فالجاذبية بين الأرض والقمر قوية عند الاستسرار والإبدار لقرب القمر من الأرض، وهي أقوى عند الاستسرار، وقوة التجاذب بين القمر والشمس والأرض، وقوة المد والجزر، ثم انفلات القمر من الجاذبية بعد الاستسرار قد يصادف جزءاً ضعيفاً من القشرة الأرضية، وتحرك الصفيحة الأرضية التي لم تتحمل قوى الشد والجذب متحركة أو منفصلة عن أقرب صفيحة قد يسبب زلزالاً مدمراً.
وكذلك يحتمل أن يكون للظاهرتين علاقة بالفيضانات لعلاقتهما بالمد والجزر، وكذلك قد يكون للكسوف علاقة بالأعصاير لانخفاض درجة الحرارة في المناطق التي فيها كسوف كلي مقابل ارتفاعها في غيرها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فإن قلت: من عوام الناس- وإن كان منتسباً إلى العلم- من يجزم بأن الحركات العلوية ليست سبباً لحدوث أمر البتة، وربما اعتقد أن تجويز ذلك من جملة التنجيم المحرَّم، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد) رواه أبوداود وغيره، وربما احتج بعضهم بما فهمه من قوله: (لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته) واعتقد أنَّ العلة هنا هي العلة الغائية: أي لا يكسفان ليحدث عن ذلك موت أو حياة. قلت: قول هذا جهل، لأنه قول بلا علم، وقد حرم الله على الرجل أن ينفي ما ليس له به علم) [2].
وقال أيضاً: (فعلم أن هذه الآيات السماوية قد تكون سبب عذاب، ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم عند وجود سبب الخوف ما يدفعه من الأعمال الصالحة، فأمر بصلاة الكسوف – الصلاة الطويلة - وأمر بالعتق والصدقة، وأمر بالدعاء، والاستغفار) [3].
فلا يصح قول بعض الكتاب بأن الأمر بالصلاة والصدقة والعتق والدعاء والاستغفار عند الكسوف والخسوف هو لمجرد إزالة الأثر النفسي، بل هما آيات يخوف الله بهما عباده كما ورد في الحديث الصحيح، يؤكد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصلاة فزعاً عندما كسفت الشمس ثم قال ما قال كما جاء في صحيح مسلم، ولكن ليس ثمة من النصوص ما يثبت ولا ينفي أن لهما علاقة كونية حسية بأمر مخوف.
فإن النهي عن شيء لا يعني الأمر بنفي ما فيه من حقائق أو منافع، فكما أنه لا يجوز إنكار ما في الخمر من منافع، بعد معرفة أن مضارها أكثر من منافعها، فكذلك لا يجوز إنكار ما يلجأ إليه المنجمون من حقائق بعد تقرير أن التنجيم وهم منهي عنه، وأنه ضار ويصد عن مصالح، كمثل ترك صلاة الاستخارة، واللجوء إلى المنجمين وقُرَّاء أبراج الحظ.
فالحقائق التي تُلبس بالباطل هي التي تجعل الكثيرين ينحرفون عن الحق، ومن ذلك أن جميع أهل الأديان يرون خوارق للعادات في معابدهم، كمثل شفاء المرضى وكلام الجمادات وغير ذلك مما له علاقة بالسحر وعالم الجن.
فما من باطل انتشر إلا وفيه شبهة حق، ولولا ذلك لما صدقه بعض الناس، قال الله جل ثناؤه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}.
ولما علم المنجمون من علم الفلك المباح أن الحوادث العلوية قد تكون لها علاقة بالحوادث الأرضية زادوا من عند أنفسهم على عادتهم، فإن المنجمين يزيدون على الحقيقة تسعةً وتسعين جزءاً من الكذب والتخمين والوهم.
فقد يزعم المنجم أن الكسوف والخسوف أو غيرهما من الحوادث العلوية سببٌ كامل، ولو افترضنا أنها سببٌ كاملٌ، فإن لكل سبب شروط وموانع، وفي الحديث؛ (إن البلاء لينزل، فيتلقاه الدعاء، فيعتلجان، فيغلب الدعاء البلاء).
وقد اعترف بذلك عالم الفلك اليوناني المشهور بطليموس المتوفى عام 168م حيث نقل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى قوله: (ضجيج الأصوات في هياكل العبادات بفنون الدعوات من جميع اللغات يحلل ما عقدته الأفلاك الدائرات).
فكل ما نهى الله عز وجل عنه فهو إما ضرر محض أو راجح، إضافة إلى أنه يصد عن مصالح، ولننشغل بالنافع عن الضار نهانا الشارع الحكيم عن التنجيم، فمهما بلغت الحقائق في التنجيم فإنه وهم، قال الله تعالى ذكرُهُ: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ۖ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}.
وبدل استخارة قُرَّاء الحظ من المنجمين وغيرهم، فإننا نستخير خالق الحظ والأبراج ومسبب الحظ والسعد والشقاء، الذي يعرف الأسباب وشروطها وموانعها، وهو مقدرها ومسير الأمور كلها، فهو الذي شرع لنا صلاة الاستخارة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ  ۖ  لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}.
وقد انتشرت في الآونة الأخيرة توقعات لكهان من اليهود والنصارى والبوذيين والمسلمين، واضح أنها تستعين إضافة لما سبق بأخبار مستقبلية في الكتب المقدسة في الأديان الباطلة.
والغريب وليس غريباً أن كل هؤلاء الكهان بمن فيهم غير المسلمين يستعينون بما ورد في السنة من أخبار تتعلق بعلامات الساعة إضافة لما سبق ذكره، هذا مع عدم الاكتراث بالصحيح والضعيف من الأحاديث، ولبس الحق بالباطل، فحذار من تصديق كل ما ينشر عبر وسائل التواصل وغيرها من الوسائل الإعلامية.
وفي ظاهرة الخسوف دلالة واضحة على كروية الأرض، وأدلة كروية الأرض كثيرة، وهذا من الأدلة الظاهرة، فظل الأرض في القمر يظهر قوساً واضحاً إلا أن انحرافه قليل بسبب أن الأرض أكبر حجماً من القمر.
فإن قال قائل لم لا تكون الأرض قرصاً دائرياً فقط وليست كروية فيقال؛ أننا عندما نرى ظل الأرض في القمر عند الخسوف نعتقد أن الشمس تحتنا، ولكننا نعلم أن سكان أقصى الشرق يرون الشمس فوقهم، فسكان أقصى الشرق كاليابان وأقصى شرق روسيا الوقت عندهم نهار عندما يكون ليلاً عندنا، فدل على أن شكل الأرض كروي.
وكل ما فوق الأفق أعلى بالنسبة لأهل كل ناحية من نواحي الأرض، فقد جرت العادة أننا نسمي كل ما فوق الأفق حتى وإن كان فوقه بقليل جداً أعلى رغم أنه في الجانب، فموضع القمر عند الخسوف عادة ما يكون في الجانب، فهو فوقنا بقليل جداً.
وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله أن العلو في الشكل الكروي هو المحيط، والسفل هو المركز وأن جاذبية الأرض في اتجاه مركزها، وقد نقلتُ نص كلامه في؛ مدونتي » ثقافة ومعارف » ابن تيمية وعلم الفلك.
وللمزيد حول كروية الأرض وحركتها؛ مدونتي » ثقافة ومعارف » دوران الأرض حول محورها.
وأختم بذكر هذا الحديث؛ عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس، فأطال القراءة ثم ركع فأطال الركوع ثم رفع رأسه فأطال القراءة وهي دون قراءته الأولى ثم ركع فأطال الركوع دون ركوعه الأول ثم رفع رأسه فسجد سجدتين ثم قام فصنع في الركعة الثانية مثل ذلك، ثم قام فقال: "إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله يريهما عباده فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة")، المصدر؛ صحيح البخاري (1058).[4]
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
هلسنكي فنلندة
الأربعاء 7 ربيع الأول 1430 هـ الموافق 4 مارس 2009م
تم التعديل يوم السبت 15 ذو القعدة 1439هـ، 28 يوليو 2008م.

المصادر

[1] الفتاوى (ج25/ص185)، دار عالم الكتب، الرياض 1412هـ 1992م.
[2] الفتاوى (ج25/ص192)، الطبعة السابقة.
[3] الفتاوى (ج25/ص191)، الطبعة السابقة.
[4] صحيح البخاري، تحقيق؛ محمد زهير بن ناصر الناصر، الناشر؛ دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، الطبعة الأولى، 1422هـ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق