⏩الإلزام بالآراء في المسائل الخفية ⏫محتويات الكتاب
من وسائل الإصلاح السياسي ما هو أصلي متفق عليه بين الناس، ومنها ما هو استثنائي يقع الخلاف فيه إما من جهة أصل حُكمه في ظل تلك الظروف عموماً، أو من جهة إنزاله على واقع معين، والواجب الإعذار في المختلف فيه حتى ولو كان يقينياً عند بعض الناس لكونه من المسائل الدقيقة الخفية.
والإصلاح السياسي واجب كفائي في الأصل، سواءٌ في مبدأ الدعوة أو في غيره من الأوقات، وقد يكون واجباً متعيناً أو مقارباً له، وفعل مُقاربات الواجبات التي تشبهها أولى من ترك الشبهات التي تُشبه الحرام.
والإصلاح السياسي قد يكون من مُقاربات الواجبات لأن الكفاية لم تحصل فيه، وذلك مثل غيره من الكفائيات، ومن أهم الكفائيات التي لم تحدث الكفاية فيها طلب العلم الشرعي الكفائي، وصد الناس عن هذه الواجبات الكفائية ذنب كبير وإثم عظيم.
وقواعد التعارض والتزاحم يقينية، ولكن المندرج تحتها قد يكون ظنياً، والمسائل المندرجة تحتها قد يُشترط لها شروط الاضطرار أو الاحتياج، ومن ذلك ألا يوجد طريق آخر شرعي لتحقيق المقصود من تخفيف شر أو دفع أضر أو تحقيق أصلح، كما يُشترط أن تقدر كل من الضرورة والحاجة بقدرها، وألا يكون المقصود من تخفيف شر أو تحصيل أنفع أو دفع أضر متوهماً.
وأختم مقالي بهذا الكلام لابن تيمية رحمه الله تعالى؛ (فإذا كان المقصود بالسلطان والمال هو التقرب إلى الله وإنفاق ذلك في سبيله، كان ذلك صلاح الدين والدنيا، وإن انفرد السلطان عن الدين، أو الدين عن السلطان فسدت أحوال الناس، وإنما يمتاز أهل طاعة الله عن أهل معصيته بالنية والعمل الصالح، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
ولما غلب على كثير من ولاة الأمور إرادة المال والشرف، وصاروا بمعزل عن حقيقة الإيمان في ولايتهم؛ رأى كثير من الناس أن الإمارة تنافي الإيمان وكمال الدين. ثم منهم من غلب الدين وأعرض عما لا يتم الدين إلا به من ذلك. ومنهم من رأى حاجته إلى ذلك، فأخذه معرضاً عن الدين؛ لاعتقاده أنَّه منافٍ لذلك، وصار الدين عنده في محل الرحمة والذل، لا في محل العلو والعز. وكذلك لما غلب على كثير من أهل الدينين العجز عن تكميل الدين، والجزع لما قد يصيبهم في إقامته من البلاء؛ استضعف طريقتهم واستذلها من رأى أنَّه لا تقوم مصلحته ومصلحة غيره بها.وهذان السبيلان الفاسدتان – سبيل من انتسب إلى الدين ولم يكمله بما يحتاج إليه من السلطان والجهاد والمال، وسبيل من أقبل على السلطان والمال والحرب، ولم يقصد بذلك إقامة الدين – هما سبيل المغضوب عليهم والضالين، الأُولى للضالين النصارى، والثانية للمغضوب عليهم اليهود.
وإنما الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، هي سبيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وسبيل خلفائه وأصحابه، ومن سلك سبيلهم، وهم السابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعدَّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً. ذلك الفوز العظيم.
فالواجب على المسلم أن يجتهد في ذلك بحسب وسعه؛ فمن ولي ولاية يقصد بها طاعة الله، وإقامة ما يمكنه من دينه، ومصالح المسلمين، وأقام فيها ما يمكنه من الواجبات، واجتناب ما يمكنه من المحرَّمات؛ لم يؤاخذ بما يعجز عنه؛ فإنَّ تولية الأبرار خير للأمة من تولية الفجار، ومن كان عاجزاً عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد، فعل ما يقدر عليه من النصيحة بقلبه، والدعاء للأُمَّة، ومحبَّة الخير، وفعل ما يقدر عليه من الخير؛ لم يكلف ما يعجز عنه. فإنَّ قوام الدِّين بالكتاب الهادي، والحديد الناصر،كما ذكره الله تعالى) [1]، وقال أيضاً: (ثم الدنيا تخدم الدين) [2].
هذا والله تعالى أعلم، وإن أريد إلى الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلتُ وإليه أنيب، والحمد لله رب العالمين.
عمر عبداللطيف محمد نور
هلسنكي، فنلندة
الجمعة ٢٧ رجب ١٤٣١هـ، ٩ يوليو ٢٠١٠م
التعديل؛ الأحد ٢٠ رجب ١٤٤١هـ، ١٥ مارس ٢٠٢٠م
المصادر
[1]مجموع الفتاوى (ج28/ص394-396).
[2] مجموع الفتاوى (ج28/ص396).
[2] مجموع الفتاوى (ج28/ص396).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق