أقوال ابن تيمية في حساب الأهلة

قبل عرض بعض كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الحساب الفلكي لمنازل القمر وحساب إمكان رؤية الهلال وعدمها؛ من المهم الإشارة إلى أن الدرجات التي يتحدث عنها هي درجات الدائرة التي مجموعها بمقدار 360 درجة.
وقد نصَّ ابن تيمية رحمه الله تعالى على ذلك بقوله: (والدرجة هي جزء من ثلاثمائة وستين جزءاً من الفلك)[1].
ولا بد أيضاً من الإشارة إلى أنَّ طريقة الحساب التي يتحدث عنها لا تختلف عن الطريقة المعاصرة، وذلك لمعرفة ابن تيمية بالهندسة التحليلية، وهو عندما يتحدث في الفتاوى وغيرها عن الهندسة فإنما يقصد الهندسة التحليلية.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وكذلك كثير من متأخري أصحابنا يشتغلون وقت بطالتهم بعلم الفرائض والحساب والجبر والمقابلة والهندسة ونحو ذلك، لأن فيه تفريحاً للنفس، وهو علم صحيح لا يدخل فيه غلط)[2].
ومما يؤكد معرفة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بالهندسة التحليلية والحساب اجتهاده في مسألة حساب وقتي العشاء والفجر كما هو موضح بتفصيل في؛ مدونتي » مسائل وأحكام » حساب وقتي العشاء والفجر.
وللاطلاع على المزيد حول معرفة ابن تيمية رحمه الله تعالى بعلم الفلك يمكن الرجوع إلى؛ مدونتي » ثقافة ومعارف » ابن تيمية وعلم الفلك.
ولعل من المفيد أيضاً الإشارة إلى حديث ابن تيمية رحمه الله تعالى عن ساعات اليوم الأربعِ والعشرين، ومن ذلك قوله: (والساعة المعتدلة هي ساعة من اثنتي عشرة ساعة باللَّيل أو النهار إذا كان الليل والنهار متساويين)[3].
ومعرفة أهل الحضارات القديمة بحساب الخسوف والكسوف تُرجح أن عدد ساعات اليوم معروف منذ القدم، ومما يدل على أنه كان معروفاً في عهد الرسالة؛ قول النبي صلى الله عليه وسلم (يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة، لا يوجد فيها عبد مسلم يسأل الله شيئاً إلا آتاه إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر)، صححه الألباني في؛ صحيح النسائي (1389).
من الأحوال التي يستطيع فيها الفلكيون الجزم بإمكان الرؤية ما لم يحل حائل عند شيخ الإسلام ابن تيمية إذا كانت زاوية القمر-النظر-الأفق 20 درجة فأكثر، ومن الأحوال التي يمكن فيها نفي الرؤية يقيناً عنده إذا كانت درجة ارتفاع الهلال عن الأفق عند المغيب لا تزيد عن درجة واحدة.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (بل إذا كان بعده مثلاً عشرين درجة فهذا يُرى ما لم يحل حائل، وإذا كان على درجة واحدة فهذا لا يرى، وأما حول العشرة فالأمر فيه يختلف باختلاف أسباب الرؤية)[4].
والنظر والأُفق في مستوىً واحد بحيث يكون النظر هو مركز الزاوية كما في الصورة التالية؛
ويُفهم من كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى السابق أن الهلال لا يُرى يقيناً إذا كان ارتفاعه على درجة واحدة، فمن باب أولى إذا لم يولد بعد، وكذلك إذا غاب القمر قبل الشمس، وقد  نقلتُ كلامه في هذا المبحث في مغيب القمر ومغيب الشمس.
فالرؤية في هذه الأحوال الثلاثة مستحيلة، وكذا في أحوال غيرها محدودة، وقد سبق أنَّ المحققين من الفلكيين المعاصرين يعنون بقولهم مستحيلة أن عدم إمكان الرؤية يقيني بسبب مغيب القمر قبل مغيب الشمس أو حدوث الاقتران السطحي بعد مغيب الشمس.
ويُفهم من كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى السابق أيضاً أن القول بإمكان رؤية الهلال فيما بين الدرجة الواحدة والعشر درجات أكثره وهم، وذلك لاختلاف أسباب الرؤية من علو مكان الراصد وانخفاضه وصفاء الجو وكدره وحدة بصر الراصد.
وسكوت ابن تيمية رحمه الله تعالى عما بين العشرة والعشرين درجة يوحي بأنه يسلم بأن الرؤية عندها قد تكون ممكنة بظن غالب.
وتقدم أنَّ حساب منازل القمر يقيني عدا منزلة الهلال، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في معرفة منزلتي المحاق والإبدار: (ومن معرفة الحساب الاستسرار والإبدار).
وقد قرأت في صفحة ناسا أن كسوف الشمس لا يحدث إلا عند الولادة، وأن خسوف القمر لا يحدث إلا عند الإبدار، والولادة تعقب الاستسرار، وقد قرر ابن تيمية أن الخسوف يحدث عند الإبدار كما في موقع ناسا، وأن الكسوف يحدث عند الاستسرار، ولعل الكسوف يبدأ وقت الاستسرار ويستمر إلى وقت الولادة.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (كما يُعرف وقت الكسوف والخسوف، فإن الشمس لا تكسف في سنة الله التي جعل لها إلا عند الاستسرار، إذا وقع القمر بينها وبين أبصار الناس على محاذاة مضبوطة، وكذلك القمر لا يخسف إلا في ليالي الإبدار على محاذاة مضبوطة لتحول الأرض بينه وبين الشمس، فمعرفة الكسوف والخسوف لمن صح حسابه مثل معرفة كل أحد أنَّ ليلة الحادي والثلاثين من الشهر لا بد أن يطلع الهلال)[5].
وتقدم كذلك أن حساب وقت غياب القمر؛ هل يغيب قبل مغيب الشمس أم بعدها يقيني.
قال ابن تيمية رحمه الله في مغيب الشمس ومغيب القمر: (وإن قال: إنه يضبط حاله من حين وجوب الشمس إلى حين وجوبه، فإنما يمكنه أن يضبط عدد تلك الدرجات لأنَّه يبقى مرتفعاً بقدر ما بينهما من البعد، أمّا مقدار ما يحصل فيه من الضوء، وما يزول من الشعاع المانع له؛ فإن بذلك تحصل الرؤية بضبطه على وجه واحد - يصح مع الرؤية دائماً أو يمتنع دائماً - فهذا لا يقدر عليه أبداً وليس هو في نفسه شيئاً منضبطاً)[6].
يأتي الوجوب بمعنى السقوط، ويُقال وجبت الشمس يعني غربت، وما قرره ابن تيمية رحمه الله تعالى في مسألة الشعاع الساقط على القمر والمنعكس منه هو ما قرره الفلكيون المعاصرون عند حديثهم عن  الاستطالة وفرق السمت وأثرهما في إمكان الرؤية.
وسلَّم ابن تيمية رحمه الله بمعرفة ارتفاع الهلال عن الأفق عند مغيب شمس يوم التاسع والعشرين فقال: (فإذا قُدِّر أنهم حزروا ارتفاعه عند مغيب الشمس لم يكن في هذا ما يدل على ثبوت الرؤية ولا انتفائها)[7].
مما هو معلوم من كلام الفلكيين المعاصرين وما قرَّره ابن تيمية رحمه الله نعلم أنَّ الفلكيين يستطيعون معرفة وجود القمر بعد ولادته أو عدم وجوده فوق الأفق ليلة التاسع والعشرين عند المغيب ومعرفة مقدار ارتفاعه، وهذه المعرفة يقينية وقطعية، إذ يكفي لها معرفة متى ولد، ومتى يغيب القمر.
ولكن معرفة منزلة الهلال (إمكان الرؤية) وهم في كثير من الأحوال، وذلك بسبب عدم اعتبار ارتفاع مكان الرصد في النموذج الرياضي، وهذا الوهم ليس فقط في عهد ابن تيمية رحمه الله تعالى بل لا يزال الأمر كذلك إلى يومنا هذا، وذلك لأنه حساب معقد، بسبب أنهم يحسبون إمكان الرؤية في كل نقطة على وجه الأرض.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند السويد
الثلاثاء 10 ذو القعدة 1436هـ، 25 أغسطس 2015م.
تعديل؛ الأثنين 27 شعبان 1441هـ، 20 أبريل 2020م.

المصادر

[1]  مجموع الفتاوى (ج25/ص185)، تحقيق؛ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، السعودية، 1416هـ/1995م.
[2]  مجموع الفتاوى (ج9/ص129)، الطبعة السابقة.
[3] مجموع الفتاوى (ج٥/ص٤٦٨)، الطبعة السابقة.
[4] مجموع الفتاوى (ج25/ص186)، الطبعة السابقة.
[5] مجموع الفتاوى (ج25/ص185)، الطبعة السابقة.
[6] مجموع الفتاوى (ج25/ص188)، الطبعة السابقة.

هناك تعليق واحد: